الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن الهبينى
(1)
من شعراء تهامة فى القرن السادس الهجرى، تبع على بن مهدى حين استولى على زبيد سنة 554 وأصبح شاعره وشاعر ولديه من بعده. وكان يجعل شعره شركة بينه وبين على بن مهدى وولديه المهدى وعبد النبى، فتارة ينظمه مستقلا، وتارة ينظمه بلسانهم، ونصّ على ذلك القدماء. وقد وصفه عمارة اليمنى فقال:«هو أمتن كلاما، وأقوى نظاما من كثير ممن سمعت به من شعراء اليمن» . وشعره على لسان أمرائه تهديد شديد ووعيد عنيف لخصومهم من القبائل والأمراء وأصحاب الحصون، من ذلك قوله على لسان ابن مهدى يهدّد قبائل خولان وجنب وسنحان وهمدان:
ما بال خولان لا توفى بما تعد
…
يدنو أبو حسن منها وتبتعد
وما لجنب وسنحان وأختهما
…
همدان تلك الأعاريب التى حشدوا
وتسميته لهم بالأعاريب كأنه يشير إلى شطر فى خمرية لأبى نواس يهزأ فيها بالأعراب قائلا: «ليس الأعاريب عند الله من أحد» . وابن الهبينى يحمّل الكلمة نفس المعنى. وله قصيدة ميمية طويلة على لسان علىّ بن مهدى وجّه بها إلى أهل حصن تعكر وقبيلة خولان منذرا لها نذيرا شديدا، وهو يفتتحها بقوله:
أبلغ قرى تعكر ولا جرما
…
أن الذى تكرهون قد دهما
وقل لجنّاتها سأبدلها
…
سيلا كأيام مأرب عرما
ظنّت خويلان أن ستشغلنى
…
عمى لما ظنّت اللئام عمى
هل تنقص البحر كفّ غارفه
…
أو يخمد النار قابس ضرما
تعسا لخولان لا أبا لهم
…
أمسوا وجودا وأصبحوا عدما
إذ نفخوا من صوارمى ضرما
…
واستسمنوا من ظنونهم ورما
وشمّرت ساقها الحروب وما
…
ألفّها الليل سائقا حطما
وهو يهدّد فى أول قصيدته قرى تعكر بأنه سينزل بها ما أنزله الله بقرى سبأ ومدنها من سيل عرم، يقول جلّ شأنه:{لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} والأبيات تدل على براعة شعرية حقيقية فى الصياغة والفكرة ونسج الأسلوب. وهو يتأثر فى البيت الأخير
(1) انظر فى ترجمة ابن الهبينى وشعره الخريدة (قسم الشام) 3/ 65 وما بعدها و 3/ 284 وما بعدها.
بشطرين وردا فى خطبة الحجاج المشهورة التى خطبها فى الكوفة أول قدومه واليا على العراق، وقد حمّلها كل ما استطاع من عبارات الوعيد قائلا:«إنى لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى» ثم أنشد هذا الشطر فى وصف الحرب وشدتها: «قد شمّرت عن ساقها فشمّروا» وتلاه ببيت عاصف من الشعر:
هذا أوان الشّدّ فاشتدّى زيم
…
قد لفّها الليل بسوّاق حطم
والشد: العدو. وزيم: اسم فرس أو ناقة. واللف: الجمع. والحطم: الظالم للماشية. وواضح أن ابن الهبينى كوّن بيته من الشطر السالف، ثم من الشطر الثانى فى البيت، ليصور ما سينزله بخولان من معارك مدمرة ساحقة. ويستمر فى وصف جنوده ووعيده.
إنّ نسور الوغى إذا وقعت
…
بأرض قوم أطارت الرّخما (1)
ترمى بنيرانها قرى عدن
…
صبحا فيمسى شرارها الحرما
أيشرب الخمر فى ذرى عدن
…
والمشرفيّات بالحصيب ظما
ويلجم الدين فى محافلها
…
والخيل من حولى تعلك اللّجما
وما جنوده إلا نسور أما جنود خصومه فرخم وطير مأكول، ويضيف إلى تهديد خولان تهديد عدن وأمرائها من آل زريع، وكانت تعزّ والجند وتعكر فى حوزتهم، فكان طبيعيا أن يصطدم بهم. والشاعر يزعم على لسان ابن مهدى أن أهل عدن غارقون فى الخمر إلى آذانهم، ويقول إن السيوف فى الحصيب وادى زبيد ظامئة إلى دمائهم وأن الخيل من حوله تعلك اللجم، تريد أن تهمّ بالمسير إليهم وقتالهم. وكان طبيعيا والحرب العسكرية قائمة بين ابن مهدى وولديه من جهة وعدن وأمرائها بنى زريع من جهة ثانية أن يصطدم ابن الهبينى شاعر بنى مهدى بأبى بكر العيذى شاعر الزريعيين، وأن يأخذا فى التهاجى وما يتصل به من التهديد بالقوة والقهر، وقد احتفظ العماد فى خريدته للشاعرين بنقيضتين من هذا الطّراز، أولاهما لابن الهبينى ونراه يستهلها بالإشادة بجنود على بن مهدى إمامه، يقول:
أسد إذا ما أبصرت أسد الشّرى
…
ورأت حياض الموت لم تتجهجه (2)
تعدو أمام متوّج متبلّج
…
متيقّظ متوقّد متنبّه
متفقّه فى الدين لكن لم يكن
…
من عند غير الله بالمتفقّه
ملك إذا اشتبه الملوك فما له
…
فى ملكه وصلاحه من مشبه
(1) الرخم: طائر غزير الريش كبير الجناح طويل الذنب.
(2)
تتجهجه: ترتد.
ومنزّه الدين الحنيفىّ الذى
…
لولا الإمام القطب لم يتنزّه
بصوارم ولهاذم وضراغم
…
وملاحم بلغت به ما يشتهى (1)
وواضح أنه يشيد بجنود هذا الإمام فى رأيه وشدة بأسهم، ويسبغ عليه صفات التفقه فى الدين وحمايته بسيوف قاطعة وأسود ضارية وملاحم ساحقة. ويمجد انتصارات على بن مهدى على آل نجاح الأحباش أو الذين يعودون إلى أصل حبشى، ويعود إلى الإشادة به، قائلا:
أخبار أيّام الإمام فواكه
…
فأصخ بسمعك نحوها وتفكّه
سير الإمام قديمها وحديثها
…
فرح القلوب وروضة المتنزّه
أشهى من الماء الزّلال على الظّما
…
وألذّ من عصر الشباب الأموه (2)
ولا شك أن ابن الهبينى يجور جورا فظيعا على الحقيقة، فقد عرضنا لابن مهدى ومبادئه، وأنه خرج فيها حتى على غلاة الخوارج، ويكفى وصمة لا تفارق جبينه أنه استباح نساء المسلمين واسترقّ الذرارى، فكان ينبغى على ابن الهبينى أن لا يسخّر شعره فى مديحه هذا المدح المفرط فى الثناء. وتنسب لابن مهدى دالية لا شك أنها من نظم ابن الهبينى، وفيها يقول على لسانه:
قسمت الرّدى والجود قسمين فى الورى
…
فللمعتدى حدّى وللمجتدى رفدى (3)
وما لى من مالى الذى كسبت يدى
…
تراث أبقّيه سوى الشكر والحمد
تخوّفنى جنب بكثر عديدها
…
وما لجنود الله حولى من غد
تقعقع نحوى بالشّنان وهل ترى
…
عوا الكلب يخفى زأرة الأسد الورد (4)
والبيت الرابع يشهد بأن القصيدة من نظم ابن الهبينى، إذ جلب فيه عبارة من عبارات الحجاج فى خطبته التى أشرنا إليها آنفا فقد قال فى تضاعيفها: إننى لا أغمز تغماز التين ولا يقعقع لى بالشنان، وهى القرب البالية، وكانوا يحركونها إذا استحثوا الإبل على السير لتفزع فتسرع. وابن الهبينى مثل أبى إسحق الحضرمى لا يعرف زمن مولده ولا زمن وفاته، ولكن من المؤكد أنه عاش فى زمن دولة بنى مهدى، وربما لم تمتد به الحياة بعدها أو ربما فارق الحياة قبل قضاء توران شاه عليها فى نهاية العقد السابع من القرن السادس.
(1) الصوارم واللهاذم: السيوف. الضراغم: جمع ضرغام:
(2)
الأموه هنا: الناضر.
(3)
رفدى: عطائى.
(4)
الورد: الشجاع الجرئ.