الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
النثر وكتّابه
1 - تنوع الكتابة
رأينا فى العصرين: العباسى الأول والعباسى الثانى كيف تطور النثر العربى حتى وعى الثقافات الأجنبية العلمية والفلسفية، وكيف تحول العرب من دور النقل والترجمة إلى دور التصنيف والمشاركة العقلية الخصبة المثمرة فى ميادين العلم والفلسفة. ونحن لا نصل إلى هذا العصر: عصر الدول والإمارات، حتى يصبح فى أغلب الأمر عصر تصنيف ومشاركة حية فى الفلسفة وعلوم الأوائل، على نحو ما صوّرنا ذلك فى غير هذا الموضع.
وقد أصبح للعرب نوعان متكاملان من النثر: نوع علمى ونوع فلسفى، ونفذوا خلال ذلك إلى وضع كتب فى مصطلحات العلوم، كما أسلفنا، وكل ذلك أحدثوه بدون ضجة. ولم يتركوا علما دون أن يتعمقوا فيه ودون أن يكتبوا فيه المجلدات الضخام، ويحدثنا المطهر المقدس المتوفى سنة 355 عن سلوك معاصريه العلمى وما يبذلون من عناء ليس وراءه عناء قائلا (1):
وبهذا العناء البالغ والجهد الشاق تمثل المثقفون العلوم والفلسفة تمثلا رائعا، وكان
(1) كتاب بدء الخلق والتاريخ للمقدسى 1/ 4.
لذلك آثار كثيرة فى تنوع فنون الكتابة والنثر، مما نراه واضحا لا فى الكتابات العلمية والفلسفية فحسب، بل أيضا فى الكتابات الأدبية، ولنأخذ جانبا واحدا هو جانب القصص، فقد أخذ يوجد بجانب القصص الأدبى الخالص قصص صوفى وقصص فلسفى. ومعروف أن المترجمين عنوا فى القرنين الثانى والثالث للهجرة بنقل كثير من القصص الفارسى والهندى وكان بين ما نقلوه كتاب ألف ليلة وليلة. ومحاكاة له ألّف محمد بن عبدوس الجهشيارى المتوفى سنة 331 للهجرة كتابا قصصيا مماثلا يشتمل على ألف حكاية من حكايات العرب وغيرهم. ومنذ هذا الحين يكثر تأليف كتب السمر حتى ليذكر حمزة الأصفهانى المتوفى قبل سنة 360 أن كتب السمر المتداولة فى أيامه بلغت سبعين كتابا (1)، وكانت العامة تتلهف منها على ما يدور حول الحب وحكاياته أو حول الجن.
وطبيعى أن تكثر كتب النوادر، وخاصة ما اتصل منها بالحمقى أو بالمغفلين، وتكثر أيضا كتب الندماء وأخبارهم.
ومرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الثانى أنه أخذت تتكوّن منذ القرن الثالث حول المتصوفة حكايات كثيرة، تصوّر جهادهم فى نسكهم جهادا مضنيا، وحكايات أخرى بجانبها تصور كراماتهم. وكانت العامة تقبل على هذه الحكايات الصوفية، مما جعلها تطبع بطوابع الأدب الشعبى وألفاظه ولغته (2). وكلما مضينا فى عصر الدول والإمارات كثرت الحكايات والأقاصيص عن المتصوفة، لما كانت تلقى من رواج عند العامة، ويكفى أن نعرض أطرافا من هذه الحكايات عند القشيرى مؤسس التصوف السنى، فقد فتح فى رسالته بابا لكرامات الأولياء، وقصّ حكايات منها تنسب إلى الصحابة والتابعين وكبار المتصوفة فى إيران والعراق ومصر والخضر عليه السلام. ومما حكاه أنه كان فى قصر سهل التسترى المتصوف بيت يسمى بيت السباع، يقول: فسألنا عن ذلك؟ فقالوا كانت السباع تجئ إلى سهل، وكان يدخلهم هذا البيت ويضيفهم ويطعمهم اللحم ثم يخليهم! وحكى عمن يسمى ابن سالم أنه لما مات إسحق بن أحمد دخل سهل التسترى صومعته، فوجد فيها سفطا (وعاء) فيه قارورتان، فى واحدة منهما شئ أحمر، وفى الأخرى شئ أبيض، ووجد شوشقة (قطعة) ذهب وشوشقة فضة، فرمى بالشوشقتين فى دجلة، وخلط ما فى القارورتين بالتراب! وكان على إسحق دين، قال ابن سالم: قلت لسهل إيش كان فى القارورتين، قال: إحداهما لو طرح منها وزن درهم على مثاقيل من النحاس
(1) تاريخ سى ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهانى (نشر دار مكتبة الحياة ببيروت) ص 40.
(2)
انظر العصر العباسى الثانى (طبع دار المعارف) ص 259.
صارت ذهبا، والأخرى لو طرح منها مثقال على مثاقيل من الرصاص صارت فضة. فقال سامع لابن سالم: وإيش عليه لو قضى منه دين إسحق؟ فقال له: إى دوست (يا صاحبى) خاف على إيمانه. وحكى عن الخوّاص أنه قال: كنت فى البادية مرة، فسرت فى وسط النهار، فوصلت إلى شجرة وبالقرب منها ماء، فنزلت، فإذا أنا بسبع عظيم أقبل، فاستسلمت، فلما قرب منى، إذا هو يعرج، فحمحم وبرك بين يدى، ووضع يده فى حجرى، فنظرت، فإذا يده منتفخة، فيها قيح ودم، فأخذت خشبة وشققت الموضع الذى فيه القيح، وشددت على يده خرقة، ومضى، وإذا أنا به بعد ساعة ومعه شبلان يبصبصان لى وحملا إلىّ رغيفا! . وحكى عن ذى النون فى رواية أبى بكر بن عبد الرحمن قال: كنا مع ذى النون المصرى فى البادية، فنزلنا تحت شجرة أم غيلان، فقلنا: ما أطيب هذا الموضع لو كان فيه رطب، فتبسم ذو النون، وقال:
أتشتهون الرطب، وحرّك الشجرة، وقال: أقسمت عليك بالذى ابتدأك وخلقك شجرة إلا نثرت علينا رطبا جنيّا، ثم حرّكها، فنثرت رطبا جنيّا، فأكلنا وشبعنا. ثم نمنا، وانتبهنا وحركنا الشجرة، فنثرت علينا شوكا! . ومما حكاه عن الخضر فى رواية أبى عمران الواسطى قال: انكسرت السفينة، وبقيت أنا وامرأتى على لوح وقد ولدت فى تلك الحالة صبية، فصاحت بى، وقالت لى: يقتلنى العطش، فقلت: هو ذا يرى حالنا، ورفعت رأسى، فإذا رجل فى الهواء ومعه كوز، فأخذت الكوز وشربنا منه، وإذا هو أطيب من المسك وأبرد من الثلج وأحلى من العسل، فقلت: من أنت؟ رحمك الله، فقال:
عبد لمولاك، فقلت: بم وصلت إلى هذا؟ فقال: تركت عوارى الدنيا لمرضاته، فأجلسنى فى الهواء، ثم غاب عنى ولم أره:
وتكثر أمثال هذه الحكايات فى كتب المتصوفة، وواضح ما فيها من إبطال قانون السببية، وإنما رويناها لندل على ذيوع حكايات وأقاصيص صوفية شعبية بين العامة، وكانت تروى بلغة وسطى بين الفصحى والعامية أو قل بلغة فصحى قريبة من أفهام العامة، وبذلك كانوا يتداولونها وكانت تشيع فى أوساطهم وتنتشر، عاملة-إلى حد- فى الإبقاء على الفصحى، لغة متداولة على ألسنة الإيرانيين فى ذلك العصر، خاصة أنهم كانوا يشغفون بالتصوف وكل ما يتصل به من أقاصيص، لا تتناول الكرامات فحسب، بل أيضا تتناول جوانب أخرى كرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم فى الحلم ورؤيا الصحابة والصوفية ورؤيا الحور العين. وفى رسالة القشيرى من ذلك حكايات مختلفة، وبالمثل فى كتب المتصوفة ككتاب قرة العيون ومفرح القلب المحزون لأبى الليث السمرقندى المطبوع على هامش
الروض الفائق فى المواعظ والرقائق.
ويلقانا بجانب القصص الصوفى قصص فلسفى رمزى عند ابن سينا ويحيى السّهروردىّ، أما ابن سينا فله ثلاث أقاصيص، هى حىّ بن يقطان وسلامان وأبسال، ورسالة الطير. وتستهل أقصوصة حىّ بن يقظان بأن رفقاء (هى شهوات الإنسان وغرائزه) خرجوا يتنزهون، فبينما هم يطوفون إذ رأوا شيخا بهيّا هو حى بن يقظان وقد رمز به ابن سينا إلى العقل الفعال. ويدور حوار بين حى بن يقظان والرفقاء نعرف منه خطورة علم المنطق ويسميه علم الفراسة، كما نعرف أن الرفقاء رفقاء سوء وأن هناك شاهد زور هو قوة التخيل التى توقع الإنسان فى الشر، وأن الإنسان تحفّه من يمين القوة الغضبية ومن يسار القوة الشهوانية القذرة ولا نجاة منها إلا بالموت، مثلها فى ذلك مثل الرفقاء السوء من الغرائز، وأن على الإنسان أن يقمعها بالمجاهدة. ويقول حى بن يقظان إن حدود الأرض ثلاثة، حد يحوزه الخافقان، ويقصد به المركبات المحسوسة، وحد المغرب ويقصد به الهيولى، وحد المشرق ويقصد به الصورة. وبين هذين الحدين وبين عالم البشر سور مضروب لن يتجاوزه إلا الخواص المغتسلون فى عين فوّارة لعلها علم المنطق تطهرهم وتزكيهم، إذ تضيئ لهم الحقائق. ويشير إلى المملكة المعدنية والنباتية والحيوانية ويقول إن إقليم الإنسان تقابله أقاليم المملكة السماوية وما بها من الأفلاك التسعة أو العقول التسعة التى تتسلط على الأرض والكون، ثم العلة الأولى أو علة العلل وهى الذات الإلهية. ويتحدث عن عالم الأرض ويقول إنه رتّب على سكك خمس كسكك البريد، ويريد بها الحواس الخمس، ويقول إن فى الأرض أمة بررة رامزا بها إلى القوى العاقلة. وبذلك تنتهى الأقصوصة.
وأقصوصة سلامان وأبسال لها أصول يونانية، وهما أخوان كان أبسال أصغرهما سنّا وتربىّ فى كنف أخيه، ونشأ جميلا عفيفا، شجاعا عالما أديبا. وسلامان فى الأقصوصة هو النفس الناطقة، وأبسال هو العقل أو درجة العرفان، وكانت لسلامان زوجة رمزت بها الأقصوصة إلى القوة البدنية الأمارة بالشهوة، عشقت أبسال، فقالت لزوجها أخلطه بأسرتك، ولما خلت به أظهرت له عشقها، فأبى الانصياع لها أو قل أبى العقل الانصياع إلى القوة البدنية. ومكرت به فزوجته بأختها، وقالت لها إننى لم أزوجك بأبسال ليكون لك وحدك، وإنما ليكون لنا معا. وفى ليلة الزفاف جاءته بدلا من أختها وأخذت تعانقه وتضمه إلى صدرها، فلاح برق فى السماء أبصر على ضوئه وجه زوجة أخيه فتخلص منها. ويرمز البرق إلى جذبة من جذبات الحق، وينكشف الشّرك لعين أبسال، ويتخلص
من عالم الشهوات الحسية إلى عالم العقل المحض. وينتظم جنديا فى الجيش ويفتح كثيرا من البلاد رمزا إلى الاطلاع على الملكوت الأعلى. وتتفق زوجة سلامان مع الطابخ والطاعم فيدسّان لأبسال السم ويموت، ويثأر الأخ لأخيه، فيقتل الزوجة والطاعم (رمزى القوة الشهوانية) والطابخ (رمز القوة الغضبية). وسلامان نفسه فى قتله الثلاثة رمز لغلبة العقل على القوى البدنية.
وأقصوصة الطير يتخذ ابن سينا الطير فيها رمزا للحرية، ويستهلّها بدعوة إخوانه الفلاسفة الى الصفاء والإخلاص والسمو إلى الكمال، ويتصور نفسه طائرا مع طائفة من الطير تنبه لها الصيادون، فنصبوا لها الشّباك، وسرعان ما وقع فيها الطير وتشبثت بأجنحته وأرجله، فاستسلم للهلاك، وشغل كل طائر عن أخيه بأمره وكربه ناسيا حريته الضائعة كما نسيت الأرواح الإنسانية عالمها الذى هبطت منه، وأصبحت سجينة البدن. وتخلّص بعض الطيور روءسها وأجنحتها من الشباك، ولكن تظل أرجلها متعثرة فيها، ويجمع الطير قوته والشباك عالقة به، وييمّم جبل الملك رجاء أن يفكها عنه، ويرى من دونه سبعة جبال ما يزال يقطع وديانها حتى يصل إلى الجبل الثامن ويعرف أن الملك فى مدينة وراءه فينفذ إليه ويبهره جماله، ويتضرع إليه أن يفك عنه الشباك، ويقول له لا يستطيع فكها إلا عاقدوها، ويرسل إليهم رسولا معه ليفكوها عنه، وانصرف الطير مسرورا. وواضح أن كل هذا الجهاد من جبل إلى جبل إنما كان فى سبيل تخلص الأرواح من أجسادها، وترمز الجبال إلى مقامات السلوك إلى محبة الله المعروفة فى بيئات المتصوفة، بينما يرمز الرسول الذى يفكّ الشباك عن الطير إلى ملك الموت.
ويعيد يحيى بن حبش السهروردى كتابة أقصوصة حى بن يقظان متخذا لها اسما جديدا هو الغريبة الغربية، وحى بن يقظان فيها لا يرمز إلى العقل الفعال أو العقل الإنسانى كما رأينا عند ابن سينا، وإنما يرمز إلى المتصوف وجهاده ومقاماته حتى يتصل بربه محبوبه، ويستهل الأقصوصة السهروردى بأنه سافر مع أخيه عاصم من ديار ماوراء النهر إلى مدينة القيروان حيث أسرا وقيّدا فى السلاسل وألقى بهم فى بئر عميقة. ويبدو أنه يرمز بالمغرب والبئر إلى الشهوات التى تحول بين الإنسان وبين حياة الإشراق. ورأى هو وأخوه (رمز العقل كما يتضح من اسمه عاصم) هدهدا فى ليلة قمراء فى منقاره كتاب صدر من شاطئ الوادى الأيمن من البقعة المباركة. وهو كتاب حمل إليهما من الذات العلية يدعوهما إلى السفر (رمز الجهاد الصوفى) بغية الوصول، ويأمرهما بركوب سفينة تجرى بهما فى موج كالجبال صاعدة بهما إلى طور سيناء، ليريا صومعة (الله). ولعله رمز بالموج إلى
الشهوات. ورأيا فى الطريق جماجم عاد وثمود (رمز الضالين) وصعدا الجبل ورأيا أباهما شيخا كبيرا تكاد السموات والأرض تنشق لجماله وجلاله. وكأنه يرمز بذلك إلى وصوله.
ويطلب إلى ربه أن يخلّصه من سجن القيروان غير أنه يأمره بالعودة إليه قائلا إنه يمكنه المجئ إليه كلما شاء. وهو بالعودة إلى سجن القيروان يرمز إلى أن الصوفى لا يستطيع التخلص نهائيا من علائق الأرض. ويقول الله إنك ستتخلص يوما (يوم الموت) من سجن القيروان ولا تعود إليه. ويلقاه فى الرحلة أسد هو رمز القوة الغضبية وحيتان ربما كانت رمزا للشهوات. وكانت الرحلة شاقة. واتخذ السهروردى من مشاقها رمزا للعناء الصوفى فى الوصول إلى المعرفة الإلهية والمحبة الربانية، وقد ختمها بقوله «نجّانا الله من قيد الهيولى والطبيعة» .
وإذا كان القصص نما فى العصر هذا النمو على أيدى الفلاسفة والمتصوفة فإن ضروب النثر الأخرى نمت بدورها، وفى مقدمتها المناظرات وخطابة الوعظ. أما المناظرات فكثرت كثرة مفرطة بين أصحاب المذاهب الفقهية، وكذلك بين أصحاب المذاهب الكلامية، وهى أكثر وأوسع من أن نقف عندها، وخاصة أنها كانت علمية الطابع. وأما خطابة الوعظ فتجرد لها كثيرون من الفقهاء والمحدثين والمتصوفة والزهاد وكانوا يعظون الناس فى المساجد بعد صلاة الجمعة وطوال شهر رمضان. ويصور السمرقندى المتوفى سنة 373 ما ينبغى أن يكون عليه الواعظ والمستمعون إليه، فيقول (1): إن أول ما يحتاج إليه الواعظ أن يكون صالحا فى نفسه ورعا متواضعا، وأن لا يكون متكبرا ولا فظا غليظا، وأن يكون عالما بتفسير القرآن والأحاديث وأقاويل الفقهاء، وأن لا يحدّث الناس إلا بما صحّ عنده من الأحاديث النبوية والأخبار، وأن لا يسأل إنسانا هدية، أما إذا أهدى إليه إنسان من غير مسألة فلا بأس من أن يقبل هديته، وينبغى أن يمزج فى مجلسه بين الخوف والرجاء، فلا يجعله كله خوفا ولا كله رجاء، وإن كان الواعظ محتاجا إلى تطويل مجلسه تخلله بكلام يستظرفه السامعون حتى يزيدهم نشاطا وإقبالا على سماعه. ومن آداب المستمعين أن يصلّوا على الرسول صلى الله عليه وسلم عند سماع اسمه وأن لا يناموا فى أثناء الوعظ، بل يظلوا ناشطين متنبهين.
ونلمّ على سبيل المثال بطائفة من كبار الوعاظ، فمنهم أبو عثمان الصابونى شيخ الإسلام بخراسان ويقال إنه ظل-كما مرّ بنا-يعظ الناس فى مجالس تذكيره ستين سنة، وإنه كان
(1) بستان العارفين على هامش تنبيه الغافلين للسمرقندى ص 25 وما بعدها.
يعظهم بالعربية والفارسية (1)، ومنهم إمام الحرمين الجوينى المتوفى سنة 478 ومن أجله بنيت المدرسة النظامية بنيسابور-كما أسلفنا-وكان يجلس للوعظ والمناظرة ورزق من التوسع فى العبارة ما لم يعهد من غيره، وكان لا يتلعثم فى كلمة (2). ومنهم القشيرى الإمام الصوفى الكبير المتوفى بنيسابور سنة 465 ومرّ بنا ما قيل فى وعظه من أنه «لو قرع الصخر بصوت تحذيره لذاب، ولو ربط إبليس فى مجلسه لتاب» . ومنهم الغزالى الإمام المشهور وأخوه أحمد الذى قيل فيه: «كان واعظا تنفلق الصخور الصمّ عند سماع تحذيره، وترعد فرائص الحاضرين فى مجالس تذكيره (3)» . ومنهم فخر الدين الرازى المتوفى سنة 606 وكان واعظا كبيرا وكان يعظ باللسانين العربى والعجمى وكان يلحقه الوجد فى حال الوعظ ويكثر البكاء. وحضر مجلس وعظه ذات يوم السلطان أبو المظفر الغزنوى، فصاح به وهو على المنبر، يا سلطان العالم! لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازى يبقى، وإن مردّنا إلى الله (4).
وكانت كثرة الدول والإمارات الفارسية فى العصر عاملا مهما فى كثرة الرسائل الديوانية، فقد كان لكل دولة ولكل إمارة ديوان رسائل تصدّره كتّاب اشتهروا بحسن البيان، وليس ذلك فحسب فإنهم مضوا يتأنقون فى كتاباتهم صورا من التأنق حتى يرضوا أمراءهم، وكانت كتبهم لا تخلو من حلية السجع، فهى حلية مشتركة فى الرسائل جميعها وتضاف لها حلىّ مختلفة من الجناس والطباق والأخيلة، حتى لتغدو بعض الرسائل طائفة من الحليات والتنميقات. وكان الشبان يغدون على هذه الدواوين ابتغاء العمل فيختبرون، ومن تتضح عنده الملكة الأدبية يوظف فيها، وحينئذ يلزم كاتبا من كتابها، يعمل بين يديه، حتى يخرّجه كاتبا ماهرا. وكان بعضهم يظل فى حضرة الدولة أو عاصمتها، وبعضهم يرسل إلى الولايات للعمل بين أيدى الولاة. وكل ذلك كان يدفع شباب الكتاب إلى التنافس بينهم، تنافسا أداهم إلى التثقف الواسع بألوان الثقافات المختلفة من لغوية وغير لغوية. وكان من يظهر منهم نبوغا يرتقى سريعا وقد يصبح رئيسا للديوان، وقد يصبح وزيرا يدبر أمور الدولة كلها، وربما أصبح واليا لمدينة كبيرة. وكل ذلك دفع إلى النهوض بالكتابة الديوانية، وخاصة فى القرون الرابع والخامس والسادس للهجرة، حين كانت العربية لا تزال عالبة ولا يزال سلطانها نافذا فى الأعمال الرسمية. وبالمثل ظلت فى
(1) السبكى 4/ 271
(2)
ابن خلكان 3/ 168
(3)
السبكى 6/ 191
(4)
السبكى 8/ 89 وما بعدها وابن خلكان 4/ 249.