الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطافوا عليها خاضعين تقرّبا
…
إلى ذلك المقبور بالذّبح والنّذر
وكم سألوا الأموات كشف كروبهم
…
ولا سيّما فى الفلك فى لجج البحر
فزادوا على شرك الأوائل إذ دعوا
…
سوى الله فى حال الرّخاء وفى العسر
وعلى هدى من الدعوة الوهابية مضى يهاجم كل ما هاجمته، وكان مما استحدث فى الجزيرة التذكير قبل الأذان للصلاة، وعنّفت الدعوة الوهابية المؤذنين على هذا التذكير، ورأت منعه منعا باتا، واصفة له بأنه بدعة وينبغى الكف عنها، وفى إثرها يقول ابن مشرف:
وسل فاعل التذكير عند أذانه
…
أهذا هدى أم أنت بالدّين تلعب
وهل سنّ هذا المصطفى فى زمانه
…
أو الخلفا أو بعض من كان يصحب
واستمر يتساءل هل سنّه التابعون أو سنّه أحد أصحاب المذاهب الفقهية، وانتهى إلى أنه من الأمور المحدثات التى ينبغى أن تجتنب، قائلا إن العلم ينبغى أن لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة. ويخص هذه الفكرة بقصيدة يحث فيها على الأخذ بنصوص الحديث النبوى وآيات الذكر الحكيم، ويسميهما وحيين، وتسميته الذكر الحكيم وحيا واضحة، أما تسميته الحديث بالوحى فلأنه إلهام وهدى ربانى، يقول:
وقدّم أحاديث الرّسول ونصّه
…
على كلّ قول قد أتى بإزائه
وإن جاء رأى للحديث معارض
…
فللرأى فاطرح واسترح من عنائه
ومن يكن الوحى المطهّر علمه
…
فلا ريب فى توفيقه واهتدائه
وكلّ فقيه فى الحقيقة مدّع
…
ويثبت بالوحيين صدق ادّعائه
فالكتاب والحديث هما مدار الفقه والفتوى، فما يرسمه القرآن ويبينه الحديث هو الدين الحنيف، وعلى العقل أن يسير وراءهما شارحا ومفسرا ومبينا، لا موجها ولا متحكما ولا مؤولا. . وعلى هذا النحو تتجلى فى شعر ابن مشرف دائما الدعوة الوهابية بكل ما اتصل بها من مبادئ وتعاليم.
5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية
لعل أكبر بيئة عربية شهدت شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية هى بيئة مكة والمدينة، فلم يكن هناك زاهد ناسك ولا متصوف عابد إلا ويحج البيت الحرام ولم يكن
هناك مادح للرسول صلى الله عليه وسلم. إلا ويسعى إلى زيارة ضريحه العطر وإنشاده مديحه، غير من كان يقيم فى البلدتين المقدستين من أهلهما النساك. وقد ذكرنا فى غير هذا الموضع كيف أن كبار المتصوفة المتفلسفة منذ الحلاج كانوا ينزلون فى مكة ويجاورون فيها، وقلنا إنه نزلها ابن عربى وجاور فيها سنوات، وفيها ألف الفتوحات المكية وديوانه الصوفى «ترجمان الأشواق» وفيه يقول:
مرضى من مريضة الأجفان
…
علّلانى بذكرها علّلانى
هفت الورق بالرياض وناحت
…
شجو هذا الحمام مما شجانى (1)
وشاع الديوان فى مكة والمدينة وفى اليمن وتناقله الحجاج. ومن متفلسفة المتصوفة وشعرائهم الذين جاوروا فى مكة ابن سبعين، أقام بها سنوات طويلة حتى توفى سنة 669 وكان يقول بالاتحاد والحلول، ومن شعره (2):
من كان يبصر شأن الله فى الصّور
…
فإنه شاخص فى أكمل الصّور
بل شأنه كونه بل كونه كنهه
…
فإنه جملة من بعضها وطرى
ووراء ابن سبعين وابن عربى والحلاج كان ينزل بمكة والمدينة المتصوفون السنيون وفى مقدمتهم القشيرى الذى لمّ شعث الفرقة بين الصوفية وأهل السنة كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. ونزلها الغزالى وشهاب الدين السهروردىّ العراقى وأقام بها ابن الفارض خمسة عشر عاما نظم فيها كثيرا من أشعاره الصوفية الوجدانية من مثل قوله:
هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
…
فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليا فالحبّ راحته عنا
…
وأوّله سقم وآخره قتل
وإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به
…
شهيدا وإلا فالغرام له أهل
ولم يبق مادح للرسول صلى الله عليه وسلم إلا زار المدينة، لتتأرج روحه بعطر قبره، وقد زارها البوصيرى أكبر مداح الرسول، وفيه نظم همزيته فى نحو أربعمائة وخمسين بيتا، وسماها «أم القرى فى مدح خير الورى» وكذلك ميمينه المشهورة باسم البردة، وقد تناقلها الناس فى مشارق العالم الإسلامى ومغاربه إعجابا وافتتانا. ومديح الرسول قديم منذ ابن دريد فى مطالع القرن الرابع الهجرى. ولكن لم تنل قصيدة فى مديح الرسول حظوة هاتين القصيدتين.
وبجانب المدائح النبوية وأشعار التصوف المهاجرة إلى المدينتين المقدستين هاجرت إليهما أشعار زهد كثيرة، كان يرددها النساك والعباد والمجاورون بمكة والمدينة، على نحو ما نجد فى
(1) هفت الورق: خفق الحمام بأجنحته.
(2)
العقد الثمين 5/ 339.
ديوان الزمخشرى الذى جاور فى مكة طويلا، حتى لقّب «جار الله» . وكان هؤلاء المجاورن الكثيرون يضمنون الزهديات مصنفاتهم التى يؤلفونها فى مكة أو المدينة، ومن يقرأ تفسير الزمخشرى الذى ألف بمكة والذى سماه الكشاف يجده عند تفسير الآية الكريمة:{إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها} (1) ينشد توسلا لطيفا لشاعر على هذه الصورة:
يا من يرى مدّ البعوض جناحها
…
فى ظلمة الليل البهيم الأليل (2)
ويرى عروق نياطها فى نحرها
…
والمخّ فى تلك العظام النّحّل
اغفر لعبد تاب من فرطاته
…
ما كان منه فى الزمان الأوّل
ومن المجاورين بالحرمين الشريفين ابن ظفر (3) المولود بصقلية فى شعبان سنة 497 رحل من بلده يافعا فى طلب العلم إلى مكة ونهل من حلقات علمائها. وارتحل إلى مصر ثم إلى المهدية بتونس، وعاد إلى موطنه صقلية، وبها ألف لحاكمها فى سنة 554 كتابه «سلوان المطاع فى عدوان الأتباع» وهو كتاب نفيس ترجمه المستشرقون إلى الإنجليزية والإيطالية، ويمتلئ بأشعاره، وهى تصور زهده وتقشفه مع براعة فى نسج الشعر ونظمه من مثل قوله (4):
يا متعبا كدّه الحر
…
ص فى الفضول وكاده
لو حزت ما حاز كسرى
…
وما حوى وأفاده
ما كنت إلا معنّى
…
ومغرما بالزّيادة
لم يصف فى الأرض عيش
…
إلا لأهل الزّهاده
ولم يكن يقول ذلك عظة أو تمثلا ولكن كان يقوله عن اقتناع، فقد كان أحد من رفضوا الدنيا وعاشوا فقراء زاهدين، تكفيهم الكسرة. وكان يتحول واعظا كلما نزل بلدة، ونزل بلادا كثيرة، نزل مصر وبلاد المغرب وعاد إلى المشرق، فألم ببغداد ودمشق ثم نزل حماة واستوطنها إلى وفاته سنة 567 ومن زهدياته (5):
راقك الزهد إنما الزّهد رفض
…
لفضول تلهى وتطغى وتردى (6)
مرحبا بالكفاف عيشا هنيئا
…
ثم لا مرحبا بحرص وكدّ
لا يزال الحريص يستامه الحر
…
ص ينصب من الشقاء ونكد (7)
(1) سورة البقرة: الآية رقم 26.
(2)
الأليل: شديد السواد.
(3)
انظر فى ابن ظفر الخريدة (قسم الشام) 3/ 49 وابن خلكان 4/ 395 ومعجم الأدباء 19/ 48 والوافى 1/ 141 والعقد الثمين 2/ 344.
(4)
الخريدة (قسم الشام) 3/ 55.
(5)
نفس المصدر 3/ 56.
(6)
تردى: تهلك.
(7)
يستامه: يذاء ويصرفه.
ثم لا يستطيع أن يتعدّى
…
قدرا ما لحكمه من مردّ
فهو ينصح بعيش الكفاف وبالزهد فى كل ما وراء ذلك من فضول ومتع لا تفيد إلا اللهو والطغيان والهلاك إن كان يمكن أن يفيد الطغيان والهلاك أحدا. ولا يزال الحريص يدفعه حرصه إلى غير قليل من الشقاء والنكد والتعب، ومع ذلك لن يعدو ما كتبه له القضاء.
ولشعراء مكة والمدينة مدائح نبوية كثيرة، على نحو ما نجد عند النّشو، وقد سقنا له فى ترجمته مثالا، ولمحب الدين الطبرى المكى المتوفى سنة 694 مدحة نبوية استهلها بقوله:«رحلت إلى المختار خير البرية» ذكر فيها المنازل بين مكة والمدينة، ولابنه محمد مدحة نبوية بارعة يقول فى أولها (1):
أنخ أيها الصّادى الشديد ظماؤه
…
ورد منهلا أحلى من الشّهد ماؤه
وسل عند باب المصطفى أىّ حاجة
…
أردت وما تهوى فرحب فناؤه
ووراء هاتين المدحتين عشرات من المدائح يكفى أن نشير إليها، ولشاعر متأخر يسمى عبد العزيز الزمزمى المكى ديوان مديح فى الرسول والصحابة.
وكثر بجانب ذلك الغزل الصوفى فى مكة والمدينة، من مثل قول أبى إسحق المكى المتوفى سنة 723 للهجرة (2):
معذّبتى كم ذا الصّدود إلى متى
…
مضى عمرى والوصل منك أروم
فجودى ورقّى أو فجورى وعذّبى
…
فما القلب إلا فى هواك مقيم
وفى كتابى سلافة العصر ونفحة الريحانة لشعراء مكة والمدينة فى القرن الحادى عشر الهجرى مدائح ومناجيات وتوسلات مختلفة (3).
وإذا تركنا الحجاز إلى اليمن لقينا قصيدة بديعة لأبى بكر العيذى ابتدأها بوصف غرام له بالحجاز ليس يدفعه، وينقاد له قلبه ويتبعه، ويأخذ فى وصف مكة ويذكر مناسك الحج منسكا منسكا، ثم ينتقل إلى وصف يثرب بمثل قوله (4):
وفى ربى يثرب غايات كلّ هوى
…
يجلّ عن موقع الأشواق موقعه
حيث النبوّة مضروب سرادقها
…
والفضل شامخ طود الفخر أفرعه
وخاتم الأنبياء المصطفى شرفا
…
محمد باهر الإشراق مضجعه
صلى الإله عليه ما تكرّر بالصّ
…
لاة فرض مصلّ أو تطوّعه
(1) العقد الثمين 1/ 295.
(2)
العقد الثمين 3/ 245.
(3)
انظر مثلا سلافة العصر ص 147، 254.
(4)
الخريدة (قسم الشام) 3/ 184.
والقصيدة تكتظ بالحنين إلى الحج وزيارة قبر الرسول عليه السلام، حنينا يشمل كل المواضع هناك، وكأنما يريد أن يعانقها، فهى هواه وحبه وأماكن افتتانه وصبابته. وتكثر فى اليمن كما كثرت فى مكة والمدينة الأدعية والابتهالات كما يكثر الشعر الصوفى والمديح النبوى، وممن اشتهر بهما عبد الله (1) بن أسعد اليافعى اليمنى نزيل مكة وشيخ الحرم، ولد سنة 698 ونشأ بعدن واختلف إلى العلماء فيها، وحج فى سنة 712 وعاد فأحب الخلوة والانقطاع عن الناس والسياحة فى الجبال، ولزم شيخا صوفيا يسمى الشيخ الطواشى، فسلكه فى الطريق. وعاد إلى مكة وجاور بها ملازما للعلماء نحو عشر سنوات، ورحل إلى الشام، كما رحل إلى مصر وكانت أكثر إقامته بها فى القرافة فى مشهد ذى النون المصرى.
وعاد إلى الحجاز وجاور بالمدينة مدة ثم تركها إلى مكة، وعاد إلى اليمن سنة 738 لزيارة شيخه الطواشى. وألقى عصاه بمكة وتوفى بها سنة 768 وله فى الصوفية وتراجمهم كما مرّ بنا كتاب «روض الرياحين وحكايات الصالحين» ومن غزله الصوفى قوله (2):
قفا حدّثانى فالفؤاد عليل
…
عسى منه يشفى بالحديث غليل
أحاديث نجد علّلانى بذكرها
…
فقلبى إلى نجد أراه يميل
ولا تدكرا لى العامريّة إنها
…
يولّه عقلى ذكرها ويزيل
ولكن بذكرى عرّضا عندها فإن
…
تقل كيف هو قولا بذاك غليل
فإن تعطفى يشفى وإن تعرضى ففى
…
هواك المعنّى المستهام قتيل
وهو يصور حبه ووجده وهيامه بليلى العامرية رامزا بها إلى الذات الإلهية دون تغلغل فى حلول أو اتحاد أو فناء، فتصوفه تصوف سنى، يقف عند إعلان المحبة الإلهية ولا يعدوها، فهو محب مولّه، وحسبه أن يصور ولهه وحبه. وله بجانب هذا الغزل الصوفى مدائح نبوية كثيرة، من مثل قوله فى إحدى مدائحه (3):
نبىّ علا فوق السّموات منصبا
…
بدا نوره من قبل نشأة آدم
به الدّهر أضحى ضاحكا متبسّما
…
عبوسا على أعدائه غير باسم
علا فوق كل المصطفين مقرّبا
…
بأعلى مقام ماله من مزاحم
وهو فى البيت الأول يستلهم فكرة الحقيقة المحمدية المعروفة عند الصوفيين وما يتصل بها من فكرة أزلية النور المحمدى. وابنه عبد الرحمن يحاكيه فى الجانبين من شعر التصوف
(1) انظره فى العقد الثمين 5/ 104 والنجوم الزاهرة 11/ 93 والدرر لابن حجر (طبع دار الكتب الحديثة) 2/ 352 والبدر الطالع 1/ 378 وتاريخ ثغر عدن لبامخرمة 2/ 109.
(2)
العقد الثمين 5/ 111.
(3)
العقد الثمين 5/ 114.
ثم المديح النبوى. ومن شعراء التصوف اليمنيين محمد بن إبراهيم بن الوزير (1)، وله ديوان سماه «مجمع الحقائق والرقائق فى ممادح رب الخلائق» . وقد نشر فى القاهرة باسم مدائح إلهية، وعنى محمد بن إسماعيل الصنعانى الذى ترجمنا له بين شعراء الدعوة الوهابية بشرحه وسمى الشرح:«فتح الخالق فى شرح مجمع الحقائق» . وقد ترجم له الشوكانى فى كتابه البدر الطالع ترجمة ضافية ذكر فيها أنه ولد سنة 775 وقال إنه عنى بالتأليف وذكر بعض مؤلفاته، وقال إنه لم يلبث أن أقبل على العبادة وانقطع عن الناس حتى وافاه أجله سنة 840 هـ/1436 م. والديوان جميعه شعر صوفى سنى، ولكنه لا يتخذ الغزل وسيلة فى التعبير، بل يسلك إلى ذلك مسالك العباد النساك من التوجه إلى الله بالتضرع والرجاء وحسن التوكل والشكر والتخويف من غضب الله وطلب العفو منه والغفران، على شاكلة قوله فى التضرع والرجاء والتوكل:
أرجّيك إذ كنت أهل الرّجا
…
وأخشاك إنى من الظالمينا
وأسألك العفو إذ كنت قد
…
علمت بحبّك للسائلينا
وفوّضت أمرى بعد الدّعا
…
بحقّ إلى أحكم الحاكمينا
إذا شئت أعفيتنى من ذنوبى
…
وسامحت يا أرحم الرّاحمينا
وهذا الذى أنت أهل له
…
وأنت تحثّ به المحسنينا
وأنت الذى قلت لا تقنطوا
…
خطابا خصصت به المسرفينا
وهو يشير فى البيت الأخير إلى قوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} . وهو يكثر من نظم الآيات القرآنية فى الديوان، وهذه الأبيات من أعذب ما فيه لغة وأسلوبا. وتبدو الكثرة وكأنها شعر وعظ مرصوف أو مركوم بعضه فوق بعض. وربما كان الذى دفع محمد بن إبراهيم بن الوزير إلى هذه الطريقة فى شعر التصوف معاصره إسماعيل (2) بن أبى بكر المعروف بالمقرئ الشافعى شيخ الفقهاء فى زبيد وتهامة، فإنه حين رأى جماعة من صوفية زبيد أوهموا من ليس له كثير نباهة علو مرتبة ابن عربى ونفى العيب عن كلامه هاجمه وهاجم طريقته وكل ما اتصل بها من فناء فى الله جل شأنه ومن حلول واتحاد، وأودع ذلك قصائد طنانة كان لها دوى بعيد فى اليمن فانصرف الشعراء أو كثير منهم فى عصره-كما يبدو-عن الشعر الصوفى القائم على تصوير
(1) انظر البدر الطالع 2/ 81 وراجع ديوانه «مدائح إلهية» طبع المطبعة السلفية بالقاهرة.
(2)
انظر فى ترجمته البدر الطالع 1/ 142.
المحبة الإلهية، تصويرا ينتهى إلى الإيمان بالاتحاد بالذات العلية وما إلى ذلك مما يردده أصحاب المنزع الصوفى الفلسفى.
ويفيض كتاب نشر العرف بشعر وعظ وزهد كثير فى الحقب المتأخرة على أنه ينبغى أن نذكر أنه شاع فى اليمن شعر صوفى متجوّل بأخرة من العصر كان المداحون يغنونه على نقر الطّار والطّبل، وأكثره فى المديح النبوى لأكبر صوفية اليمن عبد الرحيم البرعى، وسنخصه بكلمة مفردة.
ويكثر المديح النبوى والشعر الصوفى فى حضرموت ويفيض كتاب تاريخ الشعراء الحضرميين بهما وبزهديات كثيرة، حتى ليظن الإنسان أنه لم يوجد شاعر هناك إلا وتغنى بمديح الرسول صلى الله عليه وسلم وببعض غزليات صوفية وأشعار زهدية، ولأبى بكر العيدروس (1) المتوفى سنة 914 هـ/1508 م ديوان صوفى سماه محجة السالك وحجة الناسك وهو يزخر بالشعر الصوفى، وكثير منه بالعامية اليمنية، فهو-كما يسمونه-شعر حمينى. وهو صوفى سنى وجميع صوفية حضرموت سنيون ومن قوله:
نعم لوصحّ تحقيقى شهودى
…
لأشغلنى الشّهود عن المقال
ولوحلّ اليقين صميم قلبى
…
لكنت هجرت فى المولى الموالى
ولو كان الحضور نزيل صدرى
…
لما بالغير لذّ لى اتصالى
وهو يصرح بأنه لم يصل إلى مرتبة الشهود للحضرة الإلهية فضلا عن الفناء فى الذات العلية وانفصاله عن وجوده البشرى، حتى لا يكون هناك موجود ولا مشهود سوى الله.
وهو بذلك صوفى سنّى، ويناجى ربه مناجيات كثيرة خاشعا متضرعا، ويمدح الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعد من كبار الصوفية الحضارمة. ولعمر (2) بامخرمة المتوفى سنة 952 هـ/ 1545 م شعر صوفى تكثر فيه المناجيات والاستغاثات والتوسلات والمدائح النبوية ومن قوله فى أحد توسلاته:
الله يا من لا إله نؤمّه
…
إلا هو انظرنى بعين تفضّل
يا من هو الله العظيم ومن له ال
…
عرش العظيم ومن عليه توكلى
يا من يغيث المستغيث بغوثه
…
غوثاه أدركنى عدمت تحيّلى
ومن متصوفة حضرموت عبد الله (3) الحداد العلوى. وقد أنشد له الثقاف أشعارا كثيرة فى التصوف والزهد والمديح النبوى والرجاء والصبر على الشدائد وفى الأشواق والمواعظ وفى
(1) تاريخ الشعراء الحضرميين 1/ 105 وما بعدها
(2)
تاريخ الشعراء الحضرميين 1/ 130.
(3)
نفس المصدر 2/ 24.
المناجاة والاستغاثة بالله، ومن قوله فى استغاثة نبوية:
يا رسول الله يا أهل الوفا
…
يا عظيم الخلق يا بحر الصّفا
أنت بعد الله نعم المرتجى
…
واللّجا يا مجتبى يا مصطفى
يا ختام الرّسل يا خير الورى
…
يا سريع الغوث أدرك من هفا
وفى كتاب السقاف مالا يكاد يحصى من أشعار صوفية وزهدية ونبوية، وسنخص أحد من ترجم لهم وهو عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس بكلمة مجملة.
وإذا تركنا حضرموت إلى عمان لاحظنا ما ذكرناه فى غير هذا الموضع من أن الشعر الصوفى لم يشع فى هذه البيئة لغلبة الخوارج عليها، إذ المعقول أن يشيع هناك شعر الزهد والتقشف لا شعر التصوف بفرعيه السنى والفلسفى. ونفس مدينة عمان الإمامية حينا والسنية حينا آخر لم تعن بالشعر الصوفى الخالص. ونجد لشاعر النبهانيين السنيين حكام عمان أحمد ابن سعيد الستالى الذى ترجمنا له بين شعراء المديح ميمية كلها ثناء على الله وعلى آلائه، ويختمها بدعوة حارة إلى الزهد والتقشف. ومن متأخرى الشعراء هناك الحبسى وقد ذكرنا أن له ديوانا افتتحه بقصائد نبوية بعدد حروف الهجاء.
ونتحول إلى البحرين وطبيعى أن تسهم فى شعر الزهد، ومن يرجع إلى كتاب سلافة العصر يجد فيه لشعراء البحرين مناجيات ربانية، ومواعظ مؤثرة، وبعض أشعار صوفية من مثل قول أبى عبد الله محمد بن أبى شبابة البحرانى (1):
لعمرى لقد ضلّ الدليل عن القصد
…
وما لاح لى برق يدلّ على نجد
فبتّ بليل لا ينام ومهجة
…
تقلّب فى نار من الهمّ والوجد
وقلت عسى أن أهتدى لسبيلها
…
بنفحة طيب من عرار ومن رند (2)
وكم طامع فى حبّهم مات غصّة
…
وقد كان يرضى بالمحال من الوعد
ولابن مشرّف الأحسائى الذى ترجمنا له بين شعراء الدعوة الوهابية أشعار فى الدعوة إلى الزهد ورفض متاع الحياة، إذ تضحك وسرعان ما تبكى، وما سرورها إلا أضغاث أحلام، وحرى بالإنسان أن لا يبرح الموت خياله، وأن يظل رافعا له بيديه نصب عينيه، فكل من عليها فان، ولن ينفع المرء إلا ما قدمت يداه. وله مدحة نبوية يشيد فيها بالرسول ورسالته الربانية. وحرى بنا أن نقف الآن عند عبد الرحيم البرعى اليمنى وعبد الرحيم بن مصطفى العيدروس الحضرمى.
(1) سلافة العصر ص 513. ونفحة الريحانة 3/ 189.
(2)
العرار والرند: من أزهار البادية.