الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - التشيع
(1)
عرفت الجزيرة العربية كل نحل التشيع الأساسية، وهى الزيدية والإسماعيلية والإمامية والكيسانية، وأطولها عمرا وأكثرها بقاء وأوسعها انتشارا نحلة الزيدية أتباع زيد بن على زين العابدين بن الحسين الذى ثار بالكوفة على هشام بن عبد الملك سنة 122 وقتل وصلب، وكان يرى أن الإمامة مقصورة على أبناء السيدة فاطمة، ولا مانع من أن يكونوا من أبناء الحسن أو الحسين، وكان يجوّز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وبذلك جوّز إمامة أبى بكر وعمر مع وجود على بن أبى طالب لمصلحة رآها الصحابة وقاعدة دينية اتبعوها. وخالف بذلك جميع مذاهب الشيعة ونحلهم، فكانت نحلته معتدلة، لا تؤمن بفكرة النص على الإمام، ولا بأن وحيا نزل يعيّن الأئمة. وكان يشترط فى الإمام أربعة شروط: العلم والزهد والشجاعة والسخاء، وهو لا يكون إماما إلا إذا ثار على الخليفة فى عصره وطالب بالخلافة، والإمامة بذلك عند الزيدية لا تعرف فكرة الإمام المستور مثل الإسماعيلية ولا فكرة الإمام المختفى مثل الاثنى عشرية والكيسانية.
وكل من ثار على العباسيين من العلويين وحمل السيف ضدهم فى القرنين الثانى والثالث للهجرة كان من هذه الفرقة، وفى مقدمتهم محمد بن عبد الله «النفس الزكية» الذى أعلن ثورته فى المدينة على المنصور العباسى سنة 145 وكان قد أرسل أخاه إبراهيم إلى البصرة، فاستثار أهلها، وهبّوا معه ثائرين، وقضى المنصور على هذه الثورة. وظلت ثورات الزيديين بعد ذلك لا تهدأ إذ يخرج الحسين بن على الحسنى فى مكة والحجاز، ويهزم هو ومن معه لعصر الهادى سنة 169 فى مكان يقال له «فخّ» ويفرّ خاله إدريس بن عبد الله إلى فاس ويؤسس بها دولة الأدارسة. ويفرّ أخوه يحيى إلى خراسان ويقبض عليه، ويلقى به فى غياهب السجون حتى موته. ويثور محمد بن إبراهيم الحسنى المعروف بابن طباطبا فى الكوفة لعهد المأمون، ويقضى على ثورته. وينشط الزيديون فى طبرستان
(1) انظر فى التشيع ونحله مقالات الإسلاميين للأشعرى والفرق بين الفرق للبغدادى والملل والنحل للشهرستانى وعقائد الشيعة الإمامية لابن بابويه القمى وفرق الشيعة للنوبختى والتبصير فى الدين للإسفرايينى وفضائح الباطنية للغزالى ورسالة افتتاح الدعوة للقاضى النعمان بن محمد تحقيق د. وداد القاضى (طبع بيروت) ومقدمة ابن خلدون وفجر الإسلام والجزء الثالث من ضحى الإسلام لأحمد أمين والعقيدة والشريعة فى الإسلام لجولد تسيهر.
بالنصف الثانى من القرن الثالث، وقد صورنا نشاطهم هناك فى الجزء الرابع من هذه السلسلة الخاص بالعصر العباسى الثانى.
وأكبر نشاط للزيدية إنما كان فى اليمن والحجاز، أما اليمن فقد أسس فيها إمامة الزيدية الإمام يحيى بن الحسين بن القاسم الملقب بالهادى إلى الحق، واتخذ مقرا له-كما مرّ بنا- «صعدة» فى الجبال الشمالية باليمن سنة 284 وتوالى بعده فى صعدة الأئمة من أبنائه، حتى سنة 437 إذ تولى الإمارة أبو الفتح الديلمى الحسنى كما مرّ بنا، ووليها بعده أصحاب المخلاف السليمانى، وتعود إلى الأسرة الرّسّية: أسرة الإمام الهادى إلى الحق وتظل فى أبناء المتوكل على الله الرسىّ، كما أسلفنا. وتمر أوقات رخاء على هذه الإمارة الزيدية، فتتسع رقعتها وتستولى على صنعاء أحيانا. ولا يزال أئمتها صامدين طوال أزمنة الأيوبيين والرسوليين والطاهريين، ثم يصبحون وحدهم وجها لوجه أمام العثمانيين، ويستخلصون منهم اليمن على نحو ما مرّ بنا. أما الحجاز فكان مركز الزيديين فيه مكة، وظلت إمارتهم قائمة فيها منذ أواسط القرن الرابع الهجرى حتى العصر الحديث، وإن أخذت تلك الإمارة فى التضعضع والضعف منذ استيلاء العثمانيين على الحجاز ومدينتيه فى القرن العاشر الهجرى.
ومرّ بنا فى الجزء الخاص بالعصر العباسى الثانى حديث مفصل عن نحلة الإسماعيلية وأن أصحاب هذه النحلة ينسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وكانت قد أدركته المنية فى حياة أبيه، فقالوا إن الإمامة انتقلت منه إلى ابنه، لأنها-فى رأيهم-تتوارث فى الابن الأكبر حتى لو توفى قبل أبيه كما حدث لإسماعيل. ويخلفه-فى عقيدتهم-ابنه محمد، ويخلف محمدا ثلاثة أئمة مستورون جاء فى إثرهم عبيد الله المهدى أول الخلفاء الفاطميين ومؤسس خلافتهم، وتلقيبه بالمهدى يشير إلى عقيدتهم فى المهدى المنتظر. وعرضنا فى العصر العباسى الثانى تفصيلا لتلك النحلة وأهم مبادئها وأن الذى نظّمها وكوّن حولها جمعية سرية عبد الله بن ميمون القداح، وكان ينزل فى سلمية بقرب اللاذقية، واتخذ له دعاة من أهمهم شخص يسمى حمدانا ويلقّب بقرمط، وقد أرسل به إلى الكوفة وسوادها، وإليه ينسب القرامطة، وكان يدعو فى جماعته إلى الأخذ بنظام الألفة، وهى الشركة فى الأموال. وزعم، وزعم معه القرامطة، كما يقول البغدادى «أن الأنبياء كانوا أصحاب نواميس ومخاريق أحبّوا الزعامة على العامة، فخدعوهم بنيرنجات (ضروب من السحر) واستعبدوهم بشرائعهم» وقالوا: «هل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها، وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب فى الصلاة والصيام والحج
والجهاد». ومن هنا كانوا يحلّون أنفسهم من الفرائض، واتخذوا بيت المقدس قبلتهم.
والقرامطة-بهذا التصوير للبغدادى-كانوا فرقة مارقة من فرق الشيعة الإسماعيلية، وكان من بين دعاة قرمط أبو سعيد الجنّابى أرسل به إلى منطقة البحرين، فاستجابت له هناك قبيلة عبد القيس، مما أتاح له أن يؤسس هناك دولة القرامطة التى ظلت نحو تسعين عاما.
وخلفه ابنه أبو طاهر وكان شريرا كبيرا، وكثيرا ما قطع الطريق على الحجاج ونهبهم، وكثيرا ما أغار على البصرة والكوفة وأحرق مساجدهما وأعمل فيهما السلب والنهب. وفى سنة 317 حدثت الكارثة الكبرى بهجومه الوحشى على الحجاج فى موسم الحج يوم التروية وسفكه لدماء الآلاف منهم ورمى كثير من جثثهم فى بئر زمزم واقتلاعه الحجر الأسود ونقله إلى البحرين على نحو ما مرّ بنا، وهو فى أثناء ذلك ينشد أشعارا كافرة مارقة. ونرى القرامطة فى سنة 358 ينفضون أيديهم من الدعوة الفاطمية الإسماعيلية، ومر بنا كيف أن الأعصم (359 - 366 هـ) حارب الفاطميين تحت ألوية الدولة العباسية سنة 360 وظلت دولة القرامطة قائمة بعده-كما مر بنا-حتى سنة 378. وعلى الرغم من انتهاء دولتهم ظلت عقيدتهم منبثة فى البحرين إلى أن قامت الدولة العيونية سنة 466 وقد عنى مؤسسها عبد الله بن على بالقضاء على تلك العقيدة وكان مما قضى عليه عادة سيئة لهم هى عادة الماشوش، إذ كان يجتمع رجالهم ونساؤهم فى الليلة العاشرة من شهر المحرم، ويشعلون الشموع والمصابيح ويغنون ويرقصون، ثم يطفئون الشموع ويختلطون. ويبدو أن عبد الله العيونى لم يستطع استئصال العقيدة القرمطية من نفوس أهل البحرين نهائيا، فقد ظلت منها بقايا بعده، بل يقول فؤاد حمزة فى كتابه «قلب جزيرة العرب» ! إنها لا تعدم فى الأحساء-إن صح ما يقول-من يعتنقونها إلى اليوم. وعرفت الدعوة القرمطية فى اليمن، فقد أرسل إليها حمدان قرمط داعيتين من دعاته، هما المنصور بن حوشب وعلى ابن الفضل وكان على من أهل اليمن بينما كان المنصور من أهل الكوفة، ونزلا على حافة اليمن النجدية، غير أن دعوتهما اختلفت، فكان المنصور يدعو للفاطميين قبل تحولهم من إفريقيا إلى مصر منذ العقد الثامن من القرن الثالث الهجرى، وكأنما نفض يده من القرامطة، وانتشرت دعوته فى بعض الجبال وبعض القبائل، ويسميه الفاطميون منصور اليمن، وقد ظل أربعين عاما يدعو لهم، إذ توفى سنة 331 وخلفه ابنه فى الدعوة وشركه فيها بعض اليمنيين إلى أن تزعمها الصليحى، كما سنرى عما قليل. ونفض على بن الفضل يده ولسانه من الدعوة الفاطمية، فلم يدع للفاطميين، بل أخذ يدعو لنفسه، واستطاع الاستيلاء على صنعاء سنة 293 وادّعى أنه من بنى يعرب أو قحطان، كما مرّ بنا،
واستحلّ المحارم، ودعا الناس إلى ارتكاب المآثم وانتهت دعوته بموته سنة 303 كما قدمنا.
وظل دعاة الفاطميين الإسماعيليين نشطين باليمن إلى أن استمالوا على بن محمد الصليحى للدعوة الإسماعيلية، واستطاع-كما رأينا فى غير هذا الموضع-أن يؤسس الدولة الصّليحيّة، وأن يستولى على زبيد وصنعاء وعدن، واتخذ صنعاء عاصمة له. وحرى بنا أن نتوقف قليلا للحديث عن المذهب الفاطمى الإسماعيلى الذى كان يدين به هو وكثيرون من أهل إمارته. وقد ذكرنا آنفا أن القرامطة كانوا فرعا من المذهب الإسماعيلى ضلّ هداه.
وقد اتخذ هذا المذهب فى أول أمره شكل جمعية سرية كوّن مبادئها عبد الله بن ميمون القدّاح، وهى مبادئ غمست غمسا فى نظرية الفيض الأفلاطونية التى سكبوها فى نظرية الأدوار عندهم، إذ يذهبون إلى أن الأئمة يتوالون فى أدوار، وكل دور يتألف من سبعة من هؤلاء الأئمة يتعاقبون والسابع هو العقل الكلى الناطق عن القوى الخارقة، والأئمة الستة السابقون له نفوس كلية تمهد له وتدعم عمل الناطق قبل ظهوره. والإمام له نسبتان: نسبة إلى عالم القدس، ونسبة إلى عالم الطبيعة. وفى مبادئهم أن قدرة الله تنتقل إلى العقل الكلى أو بعبارة أخرى إلى الإمام السابع فى كل دور، ولذلك يوصف- عندهم-بما توصف به الذات العلية من أسماء وصفات، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وفى عقيدتهم أن آيات القرآن الكريم ينبغى أن تفهم فهما باطنا مجازيا، ولا تفهم فهما ظاهرا أو ظاهريا، حتى يؤوّلوها كما يشاءون. والمنتظم فى سلك الدعوة-عندهم-يتدرّج فى سبع مراتب وبلغت تسعا. وظلت الدولة الصليحية قائمة-كما أسلفنا-حتى سنة 532 ولم تنته الدعوة الإسماعيلية بانتهائها فقد كان بنو زريع حكام عدن إسماعيليين فاطميين، وظلوا على عدن حتى تسلمها منهم توران شاه سنة 569. وتلاشت بذلك الدعوة نهائيا بقضاء الأيوبيين عليها فى اليمن ومصر، وبقيت فترة حية فى المدينة بالحجاز لما ذكرناه من أن الأسرة الحسينية الحاكمة هناك كانت إسماعيلية، ونظن ظنا أن هذه الأسرة لم تمض بعد القضاء على الدولة الفاطمية الإسماعيلية بمصر فى اعتناق هذه العقيدة طويلا وأنها اعتنقت نحلة الشيعة الإمامية الاثنى عشرية.
ومعروف أن النحلة الإمامية تسربت إلى شرقىّ الجزيرة، وعند أصحاب هذه النحلة أن الإمامية تتوالى فى اثنى عشر إماما. ولذلك يسمى أصحابها باسم الاثنى عشرية، وآخرهم المهدى المنتظر المتوفى سنة 260 وقد ذهبوا إلى أنه لم يمت وإنما غاب وسيعود ليملأ الأرض عدلا. ولم تقم للإمامية دولة فى الجزيرة العربية، غير أنها تسربت إلى بعض البيئات وبعض الأسر فى الخليج العربى، وقد مر بنا أنه غلب على البحرين بعد القرامطة ولاة كانوا يدينون