الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
نشاط الشعر والشعراء
1 - كثرة الشعراء
ظلت موجة الشعر التى مرت بنا فى العصرين العباسى الأول والثانى حادة طوال القرن الرابع الهجرى، بل لعلها ازدادت حدة، ويكفى للدلالة على ذلك أن يبزغ فى مستهله المتنبى وفى أواخره الشريف الرضى ومهيار، غير شعراء كثيرين، فتح لهم الثعالبى فى كتابه اليتيمة ثم فى تتمة اليتيمة الفصول تلو الفصول، وقد بلغ عددهم فى العراق عنده أكثر من سبعين شاعرا مما يصور ازدهار الشعر حينئذ، وهو ازدهار هيأت له عوامل مختلفة، من رعاية الخلفاء وأمراء بنى بويه ولاتهم ووزرائهم للشعراء، فقد أغدقوا عليهم المكافآت والجوائز، وليس ذلك فحسب. فقد استقبلوهم فى مجالسهم وحولوها أو حولها بعضهم مثل عضد الدولة البويهى إلى نواد أدبية.
وربما كان الجيل الأول من البويهيين لا يحسن العربية، فقد روى أن معزّ الدولة أول حاكم منهم لبغداد حين دخلها احتاج إلى من يترجم له كلام الوزير على بن عيسى (1)، غير أن الجيل التالى له أكبّ على الثقافة العربية والتمرين على نظم الشعر، حتى لنجد صاحب اليتيمة يسلك فى الشعراء ابنه بختيار، غير أمراء آخرين من بيته (2). وكان وزراء بنى بويه يتنافسون فى جذب الأدباء والشعراء إليهم، حتى غدت مجالسهم نوادى شعرية حقيقية، وأول من اشتهر بذلك من وزرائهم فى العراق المهلبى وزير معز الدولة، وكان غيثا مدرارا للشعراء، فأكبّوا على مجالسه يمدحونه، ويفيض كتاب اليتيمة بمدائحه. وكان لا يقل عنه رعاية للشعراء سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، وقد عقد صاحب اليتيمة لمدّاحه بابا مستقلا عرض فيه خمس عشرة مدحة لنابهيهم (3). وكان يرعى
(1) الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى لآدم مينز (طبعة القاهرة) 1/ 28
(2)
اليتيمة 2/ 216
(3)
اليتيمة 3/ 124
الشعراء بجانب ذلك كثير من ذوى البيوتات، وفى مقدمتهم الشريف الرضى ورعايته لمهيار مشهورة. ولابد أن نلاحظ أن الثعالبى فاته الوقوف عند بعض الشعراء، فى عصر البويهيين مثل مدرك بن محمد الشيبانى، وهو بدوى قدم بغداد فى شبابه وتولى بها القضاء وتوفى سنة 390 واشتهر بأرجوزة ماجنة نظمها فى غلام نصرانى فى نحو خمسين دورا ذكر فيها شعائر الديانة المسيحية وطقوسها وحوارييها ذكرا مفصلا (1)، ومثل أبى الحسن محمد بن عمر الأنبارى، وكان صديقا للوزير ابن بقية، فلما صلبه عضد الدولة البويهى رثاه بمرثية رائعة. وتلقانا بعد اليتيمة وتتمتها موجه ثانية من الشعراء فى كتاب دمية القصر للباخرزى، وقد توفى بعد الثعالبى بنحو ثلاثين عاما سنة 467 للهجرة، مما جعلهما يتواردان أحيانا فى الحديث عن بعض الشعراء. وفى الحق أن شعراء الدمية مخضرمون لحقوا عصر بنى بويه وامتد بهم الأجل فى عصر السلاجقة.
وبذلك كانت الدمية لا تصور تماما الحركة الشعرية فى العصر السلجوقى، لسبب طبيعى، وهو أنها إنما ألمّت بأوائله. ومرّ بنا فى الفصل الثانى ما دفع إليه وزير ألب أرسلان نظام الملك (465 - 485 هـ) من نهضة علمية وأدبية مباركة، فقد فتح أبوابه للشعراء وأغدق عليهم نوالا غمرا، فجاءوه يمدحونه من كل أنحاء العراق، وينشد الباخرزى فى مواضع كثيرة بعض مدائحه. وتلقانا بعد الباخرزى ثغرة أو فجوة نحو خمسين عاما، لو أن ذيل الدمية المسمى كتاب زينة الدهر وعصرة أهل العصر للحظيرى نشر لسدّ هذه الثغرة، فإن الحظيرى توفى سنة 567 وكان قد جمع طائفة كبيرة من شعراء أهل عصره ومن تقدمهم، وذكر لكل شاعر طرفا من أحواله وشيئا من أشعاره. وحرى بنا أن نذكر صرّدرّ (على بن الحسن) الشاعر المشهور ببغداد فى أواسط القرن الخامس، وقد توفى سنة 465 وله ترجمة فى ابن خلكان، وبالمثل ابن السّراج البغدادى (جعفر بن أحمد) صاحب مصارع العشاق المتوفى سنة 500 وله ترجمة فى ابن خلكان وغيره. وقد تلا الحظيرى مباشرة العماد الأصبهانى بكتابه الخريدة التى ترجم فيها لشعراء العالم العربى على طريقة الدمية واليتيمة، غير أن ترجماته مستفيضة، وهو ينقل فيها مرارا عن الحظيرى، مما يدل على أنه يتلافى كثيرين ممن سقطوا فى الثغرة التى تحدثنا عنها آنفا. والمنشور حتى الآن من قسم العراق فى الخريدة أربعة مجلدات ضخمة. وهى تتناول فى العراق، كما فى الأقاليم الأخرى، شعراء القرن السادس الهجرى حتى نحو سنة 570، وقد تعرضت لبعض شعراء
(1) معجم الأدباء 19/ 135 وانظر تاريخ بغداد للخطيب 12/ 273
القرن الخامس. والعماد فيها يجمع بين فترتين: فترة سلجوقية تبتدئ من القرن السادس حتى سنة 551 ثم فترة الخلافة العباسية إذ ردّ إلى الخلفاء صولجان الحكم منذ هذا التاريخ، وانتهى بذلك عهد السلاجقة فى بغداد والعراق. والعماد يفتتح المجلد الأول من الخريدة بعرض تراجم للخلفاء العباسيين منذ القائم بأمر الله (422 - 467 هـ) حتى المستضئ بأمر الله (566 - 575 هـ) ومع كل خليفة ماله من أشعار. ثم يفتح بابا يذكر فيه محاسن الوزراء والكتاب منذ أواسط القرن الخامس حتى زمن المستضئ، منشدا ما عرفه من أشعارهم، وقد يذكر بعض ما قيل من مدائح، ويمضى فى ذلك كله نحو مائتى صفحة من القطع الكبير من المجلد الأول، ويترجم للشاعر المعروف باسم الحيص بيص ترجمة ضافية، يعرض فيها أشعارا كثيرة من ديوانه مرتبة على الحروف فى نحو مائة وخمسين صحيفة، ويتبعه فى المجلد الثانى بالترجمة لستة وثلاثين شاعرا، لعل أهمهم على بن أفلح وابن الهبّارية وابن جلّينا. ونلتقى فى المجلد الثالث بجماعة من أعمال سواد بغداد شرقا وغربا، لعل أهمهم الحظيرى والبندنيجى، ثم يذكر جماعة من شعراء الحلّة والكوفة وهيت والأنبار.
وقد عرضنا لشعراء الحلة عند العماد فى القسم الأول من هذا الكتاب فى تضاعيف حديثنا عن شعراء البدو، وينتهى المجلد الثالث بالحديث عن شعراء واسط، وربما كان أهمهم ابن السوادى، وهو ماجن من طراز ابن سكّرة وابن حجاج. ويستمر المجلد الرابع فى عرض شعراء من واسط أهمهم ابن المعلم، ثم يذكر طائفة من شعراء البصرة وأدبائها، أهمهم الحريرى ويحيى بن سعيد بن مارى النصرانى، وله ستون مقامة حاكى فيها الحريرى ولكنها دون مقاماته. ونظل بعد سنة 570 دون مرشد هاد، إلا ما اشتمل عليه كتابا معجم الأدباء لياقوت ووفيات الأعيان لابن خلكان من شعراء بغداد، مما يكاد يشغل المائة التالية للخريدة. ولو أن كتاب عقود الجمان فى شعراء هذا الزمان لابن الشعّار الموصلى المتوفى سنة 654 نشر لسدّ الفراغ الشاغر من شعراء النصف الأول من القرن السابع الهجرى فى العراق وغير العراق، ولكنه لما ينشر. وفى معهد المخطوطات بالجامعة العربية مصوّرة منه، والأعلام فيه ليست مرتبة على الأقاليم والبلدان مثل الخريدة والدمية واليتيمة، وإنما على حروف المعجم، كترتيب المعاجم، وهو كتاب نفيس، على كل حال يسدّ ابن خلكان وياقوت وأيضا فوات الوفيات هذه الثغرة التى تمتد حتى اكتساح التتار لبغداد سنة 656.
ونستطيع أن نتعرّف على بعض الشعراء النابهين فى تلك الحقبة مثل ابن التلميذ هبة الله بن صاعد المتوفى سنة 560 وسبط ابن التعاويذى المتوفى سنة 583 ولعل العماد الأصبهانى ترجم لهما فى المجلدين اللذين لما ينشرا من القسم العراقى بالخريدة، ومثلهما الأبله الشاعر المتوفى سنة