الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فليست تعقل الدنيا إزاء هذا الفساد الذى يعم كل شئ فى الكون من أحياء وغير أحياء.
وفى الحق أن الفلسفة عمقت تفكيره، وقد جمع إليها شاعرية خصبة وحسّا دقيقا مرهفا.
ابن الهبّاريّة
(1)
هو أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح بن الهّباريّة العباسى، نسب إلى هبّار جده لأمه، ولد ونشأ ببغداد، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة، وكان خبيث اللسان، فلم يكد يسلم من هجائه أحد، وفيه يقول العماد الأصبهانى:«من شعراء نظام الملك (وزير ألب أرسلان وابنه ملكشاه) غلب على شعره الهجاء والهزل والسخف، وسبك فى قالب ابن الحجاج وسلك أسلوبه وفاقه فى الخلاعة والمجون، والنظيف من شعره فى نهاية الحسن» ويقول ابن تغرى بردى: «كان فيه إقدام بالهجو على أرباب المناصب» . ومرت بنا فى حديثنا عن الهجاء فى الفصل السابق إشارة إلى قصيدة له فى هجاء أرباب الدولة فى عهد ملكشاه السلجوقى. وحتى راعيه نظام الملك لم يسلم من لسانه، ويقال إنه حين سمع هجاءه له أمر بأن يصرف رسمه أو راتبه مضاعفا. وعدّت تلك منّة من نظام الملك دالة على مكارم أخلاقه وسعة حلمه. وأشعاره مليئة بالهجو إلى حد الإقذاع، حتى ليهجو الإنسانية جميعا قائلا:
خذ جملة البلوى ودع تفصيلها
…
ما فى البريّة كلّها إنسان
وجعلته صلته بنظام الملك يقيم بجواره مدة طويلة فى أصبهان عاصمة ألب أرسلان وملكشاه، ويبدو أن مقامه لم يستمر بها طويلا بعد وفاة نظام الملك سنة 485. ولم يعد إلى بغداد، بل اتجه إلى كرمان وأقام بها إلى أن توفى سنة 504.
ولسنا نريد الحديث عن ابن الهبارية وهجائه ومديحه، وإنما نريد الحديث عن شعره التعليمى فقد نهض بعملين كبيرين فيه: أوّلهما نظمه لقصص كليلة ودمنة، وقد سماه «نتائج الفطنة فى نظم كليلة ودمنة» وهو على غرار نظم أبان من وزن الرجز المزدوج، فكل بيت فيه يتفق شطراهما فى قافية واحدة. وفى فواتحه ما يدل على أنه نظمه فى كرمان، وقد نوه بنظم أبان للقصص، وأبان يتفوق عليه فى جودة شعره وإن كان عمله سقط من يد الزمن إلا ما رواه منه الصولى فى ترجمته له بكتابه الأوراق، ونتائج الفطنة مطبوع فى بومباى من قديم.
(1) انظر فى ترجمة ابن الهبارية وأشعاره كتاب خريدة القصر (قسم العراق) 2/ 70 وابن خلكان 4/ 453 والنجوم الزاهرة 5/ 210 والوافى 1/ 130 ولسان الميزان 5/ 367 والشذرات 4/ 24.
والعمل الثانى من شعره التعليمى ديوان الصادح والباغم، والصادح: رافع صوته بالطرب والباغم خافض الصوت فى لين. والديوان أراجيز قصصية مزدوجة، أو قل كثرته قصص ثم يليها وعظ خلقى وحكم متعاقبة. وقد طبع الديوان فى القاهرة وبيروت ولكنو فى الهند. وهو يستهله بالحمد لله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول:
هذا كتاب فيه علم وأدب
…
يفوق أنواع القريض والخطب
عملته لسيّد الملوك
…
وموئل الملهوف والصّعلوك
فجاء مثل الذهب المسبوك
…
سلكت نهجا ليس بالمسلوك
وضعته مخترعا معناه
…
لملك ما خاب من رجاه
ويصرح باسم الملك وهو صدقة بن منصور الأسدى صاحب الحلة المتوفى سنة 501 وقد مضى يمدحه طويلا، حتى إذا تمّ الديوان سيّره إليه من كرمان مع ولده فأجزل صلته وأسنى جائزته. ويمضى ابن الهبّارية فى الديوان بعد تقديمه لصدقة ومديحه فيذكر مناظرة بين هندى وفارسى استمع إليها فى أحد أسفاره، وفيها يفتخر كل منهما لوطنه، أما الهندى فافتخر باختراع بلاده للشطرنج ووضعها لكليلة ودمنة، وأما الفارسى فافتخر باختراع بلاده للنّرد. وتتوالى القصص، وقليل منها الذى يشبه كليلة ودمنه فى جريانه على ألسنة الحيوانات والطير. ونقرأ قصة الناسك واللص الفاتك، والبعير والجمال والتاجر، وامرأة الراعى، وامرأة التاجر، والذئب والغزالة، إلى غير ذلك من قصص تعليمية أراد بها ابن الهبارية العظة والعبرة. غير أن هذا الصوت القصصى فى الديوان لا يلبث أن ينقطع، ويحل محله صوت آخر، ليس فيه شئ من القصص، إذ يتحول ابن الهبارية مربّيا يقدم النصائح فى السياسة ومعاملة الناس وفى الزهد وعلو الهمة والنهى عن الظلم والأمر بالعدل، وكأن ابن الهبارية نفسه فقد إيمانه بعمله القصصى الأدبى، ولعل ذلك ما جعل الأدباء بعده ينصرفون عن مجاراته فى هذا العمل الفنى، وكان حريا أن تأخذ القصص مجرى كبيرا فى الشعر العربى، غير أن النموذج الذى وضعه ابن الهبارية كان من الضعف-فى رأيى- بحيث لم يمهّد تمهيدا حسنا لهذا الاتجاه الكبير. ونراه يختم الديوان بقوله:
هذا كتاب حسن
…
تحار فيه الفطن
أنفقت فيه مدّه
…
عشر سنين عدّه
بيوته ألفان
…
جميعها معانى
ولعل ابن الهبارية بالغ فى قصة السنوات العشر، ومع ذلك كله لابد أن نبقى له على