المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٥

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌القسم الأولالجزيرة العربيّة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - أقاليم ودول وإمارات

- ‌اليمن ودولها

- ‌ حضرموت وظفار وتاريخهما

- ‌عمان وأمراؤها

- ‌البحرين ودولها

- ‌2 - المجتمع

- ‌3 - التشيع

- ‌4 - الخوارج: الإباضية

- ‌5 - الدعوة الوهابية السلفية

- ‌6 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل

- ‌علم الملاحة البحرية

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ القاسم بن هتيمل

- ‌أحمد بن سعيد الخروصىّ الستالىّ

- ‌علىّ بن المقرّب العيونى

- ‌عبد الصمد بن عبد الله باكثير

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌ التهامى

- ‌جعفر الخطّى

- ‌5 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ نشوان بن سعيد الحميرى

- ‌سليمان النبهانى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن القم

- ‌السلطان الخطّاب

- ‌عمارة اليمنى

- ‌2 - شعراء الدعوة الزيدية

- ‌يحيى بن يوسف النّشو

- ‌موسى بن يحيى بهران

- ‌على بن محمد العنسىّ

- ‌3 - شعراء الخوارج

- ‌أبو إسحق الحضرمىّ

- ‌ابن الهبينى

- ‌4 - شعراء الدعوة الوهابية السلفية

- ‌ محمد بن إسماعيل الحسنى الصنعانى

- ‌ابن مشرف الأحسائى

- ‌5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌عبد الرحيم البرعى

- ‌عبد الرحمن العيدروس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وأنواعه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - رسائل ديوانية

- ‌3 - رسائل شخصية

- ‌4 - مواعظ وخطب دينية

- ‌5 - محاورات ورسائل فكاهية ومقامات

- ‌القسم الثانىالعراق

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون

- ‌2 - الدول: المغولية والتركمانية والصفوية والعثمانية

- ‌الدولة المغولية الإيلخانية

- ‌الدولة الصفوية

- ‌الدولة العثمانية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - كثرة الشعراء

- ‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ المتنبى

- ‌ سبط ابن التعاويذى

- ‌ صفى الدين الحلى

- ‌4 - شعراء المراثى والهجاء والشكوى

- ‌ السرى الرفاء

- ‌5 - شعراء التشيع

- ‌ الشريف الرضى

- ‌مهيار

- ‌ابن أبى الحديد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن المعلم

- ‌الحاجرى

- ‌التّلعفرىّ

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ ابن سكرة

- ‌ابن الحجّاج

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن السّراج البغدادى

- ‌المرتضى الشّهر زورىّ

- ‌الصّرصرىّ

- ‌4 - شعراء الفلسفة والشعر التعليمى

- ‌ ابن الشّبل البغدادى

- ‌ابن الهبّاريّة

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌الأحنف العكبرى

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع النثر:

- ‌2 - كتّاب الرسائل الديوانية

- ‌5 - الحريرى

- ‌القسم الثالثإيران

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - دول متقابلة

- ‌الدولة السامانية

- ‌الدولة البويهيّة

- ‌الدولة الزّياريّة

- ‌الدولة الغزنوية

- ‌2 - دول متعاقبة

- ‌دولة السلاجقة

- ‌الدولة الخوارزمية

- ‌الدولة المغولية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ على بن عبد العزيز الجرجانى

- ‌الطّغرائىّ

- ‌الأرّجانى

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌5 - شعراء الهجاء والفخر والشكوى

- ‌الأبيوردىّ

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ أبو بكر القهستانى

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ عبد الكريم القشيرى

- ‌ يحيى السهروردى

- ‌4 - شعراء الحكمة والفلسفة

- ‌ أبو الفضل السكرى المروزى

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌أبو دلف الخزرجى: مسعر بن مهلهل

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - كتّاب الرسائل

- ‌قابوس بن وشمكير

- ‌رشيد الدين الوطواط

- ‌3 - ابن العميد

- ‌خاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

عجيبة، مما أتاح بحق لبغداد أن تعظم منزلتها العلمية وأن يحج إليها العلماء وخاصة فى أوائل هذا العصر، يريدون أن يتزودوا منها زادا علميا رفيعا.

‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

رأينا فى كتاب العصر العباسى الثانى كيف ازدهرت الترجمة خاصة عن اليونانية، وكيف تحوّل المترجمون من الترجمة الحرفية إلى ترجمة المعنى الكلى للفقر ترجمة أكثر دقة، وكادوا لا يتركون كتابا يونانيا مهما فى أصله اليونانى أو فى ترجمته السريانية إلا نقلوه إلى العربية، وكانت الدولة حينئذ تغدق على المترجمين إغداقا واسعا، ومن يرجع إلى كتاب الفهرست لابن النديم أو أخبار الحكماء للقفطى أو طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة يبهره كثرة ما نقلوه من المأثورات الإغريقية فى الفلسفة والعلوم. ومنذ العصر العباسى الأول لا يكتفى النقلة بما يترجمون، بل يضيفون إليه، وكذلك يضيف إليه معهم من استوعبوا من الناطقين بالضاد علوم الأوائل إضافات لا تكاد تحصى فى كل فروع الفلسفة والعلم على هدى ما قرءوه وجرّبوه بأنفسهم ونفذوا إليه بفطنهم. وقد افتتح العصر العباسى الثانى بعالم رياضى عظيم هو الخوارزمى مؤسس علم الجبر وبفيلسوف عربى هو الكندى. ومضت الترجمة فى النشاط والازدهار، ومضت معها الحركة العلمية والفلسفية تؤتى ثمارها حتى ظهر الفارابى الفيلسوف الكبير الملقب بالمعلم الثانى.

وتبلغ الحركة الفلسفية والعلمية أوجها فى القرن الأول من هذا العصر قرن ابن سينا والبيرونى فى إيران وابن الهيثم فى العراق، وقد ظلت الترجمة حية ناشطة فيه، وانصبّ عمل المترجمين حينئذ على تصحيح بعض الترجمات القديمة ومن أهمهم يحيى (1) بن عدى النضرانى اليعقوبى المتوفى سنة 364 وهو من تكريت على نهر دحلة، تتلمذ على الفارابى ومتّى بن يونس، ويقول القفطى:«إليه انتهت رياسة أهل المنطق فى زمانه» ويذكر له كتبا عدة ترجمها لأرسططاليس وشراحه اليونانيين، ويقول أبو حيان التوحيدى «تخرج

(1) انظره فى صوان الحكمة لأبى سليمان المنطقى السجستانى (طبع طهران) ص 327 والإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدى (طبع القاهرة) 1/ 37 والفهرست لابن النديم (الطبعة الثانية بالقاهرة) ص 383 وأخبار الحكماء للقفطى (طبعة ليبزج) ص 361 وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة (نشر دار مكتبة الحياة ببيروت) ص 317 والعلم عند العرب لألدومييلى (الترجمة العربية طبع القاهرة) ص 183 وتاريخ الأدب العربى لبروكلمان (طبع دار المعارف) 4/ 120

ص: 282

عليه كثير من المترجمين والمتفلسفة» مثل عيسى (1) بن على بن عيسى المتوفى سنة 391 وكان حاذقا فى الترجمة قيما بعلم الأوائل، ويقول القفطى: رأيت نسخته من السماع الطبيعى التى قرأها على يحيى بن عدى بشرح يحيى النحوى وهى فى غاية الجودة والحسن والتحقيق». ومن تلامذة يحيى بن عدى عيسى (2) بن زرعة، وكان نصرانيا يعقوبيا مثله توفى سنة 398 يقول القفطى عنه:«أحد المتقدمين فى علم المنطق والفلسفة وأحد النقلة المجّودين» ويشيد به أبو سليمان المنطقى السجستانى وينوه بما ينقله إلى العربية تنويها كبيرا ومن تلامذة يحيى بن عدى أيضا أبو الخير الحسن (3) بن سوار النصرانى المعروف بابن الخّمار البغدادى وقد نقل عدة مؤلفات يونانية من السريانية إلى العربية، وكان متفلسفا وطبيبا ومن علماء الطبيعة، وكان فصيحا متمكنا فى العربية، وهناك مترجمون مختلفون سوى يحيى بن عدى وتلاميذه، منهم من شطّت به الدار فى إيران، ومهم من نزل بغداد مثل نظيف (4) الرومى الشيرازى القسّ، وله ترجمة المقالة العاشرة لأقليدس، وكان طبيبا حاذقا.

ويخيل إلى الإنسان أنه لم تبق فى العراق وإيران مدينة إلا اهتمت بالفلسفة وعلوم الأوائل، يدل على ذلك أكبر الدلالة ظهور إخوان الصفا فى البصرة أوائل هذا العصر، وهى جماعة سرية متفلسفة، دانت بالمذهب الإسماعيلى الشيعى ورأت أن تدعو له دعوة مستترة فى رسائل فلسفية وعلمية، وهى عصابة-كما وصفها أبو حيان-تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قرّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنّته، وذلك أنهم قالوا:

الشريعة قد دنّست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، وذلك لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، وصنفوا خمسين رسالة فى جميع أجزاء الفلسفة: علميّها وعمليّها، وأفردوا لها فهرستا وسموها «رسائل إخوان الصفا

(1) راجعه فى صوان الحكمة ص 332 والإمتاع والمؤانسة 1/ 36 والقفطى ص 244.

(2)

انظره فى صوان الحكمة ص 333 والإمتاع والمؤانسة 1/ 33 والفهرست ص 383 والقفطى ص 245 وابن أبى أصيبعة ص 318 وبروكلمان 4/ 122.

(3)

راجعه فى صوان الحكمة ص 335، 353 والإمتاع والمؤانسة 1/ 33 والفهرست ص 484 والقفطى ص 164 وابن أبى أصيبعة ص 428 وبروكلمان 4/ 158.

(4)

انظره فى صوان الحكمة ص 338 وفى الإمتاع والمؤانسة 1/ 37 والمقايسات لأبى حيان التوحيدى (طبع بغداد) ص 424 والفهرست ص 385 وابن أبى أصيبعة ص 322 ويقول إنه كان ينقل من اليونانية إلى العربية وراجع القفطى ص 337 وبروكلمان 4/ 183.

ص: 283

وخلان الوفا، وكتموا أسماءهم وبثوها فى الوراقين (1)». ويسمى أبو حيان طائفة من مؤلفى هذه الرسائل هم زيد بن رفاعة وأبو سليمان المقدسى وأبو الحسن على بن هرون الريحانى وأبو أحمد المهرجانى والعوفى، ويشير إلى أنه شركهم آخرون غيرهم (2). ويبدو أن هؤلاء المتفلسفة الكثيرين كانوا يعدّون مادة هذه الرسائل وأن أبا سليمان المقدسى هو الذى أخرجها وأعطاها صورتها النهائية، ولذلك ينسبها إليه معاصره أبو سليمان المنطقى السجستانى أكبر متفلسفة بغداد حينئذ، إذ يقول عنه:«له الرسائل الإحدى والخمسون المسماة رسائل إخوان الصفا (3)» . والمظنون أنه أضيفت إليها فيما بعد رسالة، فأصبحت اثنتين وخمسين رسالة، منها 14 رسالة فى الرياضيات والمنطق و 17 فى العلوم الطبيعية وعلم النفس و 10 فى الميتافيزقا والإلهيات و 11 فى التصوف والتنجيم والسحر. وهى مغموسة فى الأفلاطونية، وتشوبها نزعات أرسططاليسية وأفكار مانوية وإسماعيلية، وتهبط درجات عن مستوى الفلسفة والعلم المعاصرين لها، ولعل ذلك ما جعل أبا حيان يقول عنها إنها نتف من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات، وقد عزّ الصواب فيها لغلبة الخطأ عليها. ويقول إنه عرض منها عدة رسائل على شيخه أبى سليمان المنطقى السجستانى فنظر فيها أياما، واختبرها طويلا، وردّها عليه قائلا: «تعبوا وما أغنوا. .

وحاموا وما وردوا». ويردّ أبو سليمان على نظريتهم فى وصل الدين أو الشريعة بالفلسفة ردا طويلا سنلخصه فى الفصل الخامس ومن قوله: إن الدين وحى من السماء والفلسفة من عمل العقل، ولا حاجة للدين بالفلسفة بكل فروعها من رياضيات وطبيعيات ومنطق وموسيقى (4))

على كل حال توضح لنا هذه الرسائل لإخوان الصفا كيف أن الثقافة الفلسفية كانت شائعة فى كل الأوساط، حتى لتلجأ جمعية سرية إسماعيلية لاتخاذها وسيلة لنشر مذهبها.

وظن بعض المعاصرين حين رأوا فى هذه الرسائل إنكارا لفكرة الإمام المهدى المختفى أن العصابة التى اجتمعت لتأليفها لم تكن شيعة وهو ظن مخطئ حقا يؤيد هذا الإنكار أنهم لم يكونوا إماميين يؤيدون فكرة الإمام المهدى المختفى، ولكنهم كانوا أكثر إيغالا فى التشيع إذ كانوا يعتنقون المذهب الإسماعيلى، يدل على ذلك مثل قولهم فى أهل البيت: «هذه الولاية المخصوصة لأهل بيت الرسالة لا يحتاجون فيها إلى مدبّرين غيرهم وإلى علماء سواهم، ولا يطلع الناس على أسرارهم. . إن هو إلا علم إلهى وتنزيل ربانى، تنزل به

(1) الإمتاع والمؤانسة 2/ 5.

(2)

الإمتاع والمؤانسة 2/ 4.

(3)

صوان الحكمة ص 361.

(4)

الإمتاع والمؤانسة 2/ 6.

ص: 284

ملائكة كرام كاتبون، وحفظة حاسبون، يلقونه بأمر الله على من اصطفاه من خلقه وارتضاه لخلافته فى أرضه» (1). والإسماعيلية معروفون بترتيب أتباعهم فى طبقات، ونرى أبا سليمان المنطقى السجستانى حين يقتبس نصّا من الرسائل لأبى سليمان المقدسى يقتبس له النص الذى رتب فيه جماعتهم، وقد جعلهم فى أربع مراتب حسب أعمارهم وقواهم، أما المرتبة الأولى فلمن بلغوا خمس عشرة سنة وهم أصحاب القوة العقلية والنفوس الصافية.

والمرتبة الثانية لمن بلغوا الثلاثين سنة وهم أصحاب القوة الحكيمة الرؤساء ذوو السياسة.

والمرتبة الثانية لمن بلغوا الأربعين وهم أصحاب القوة الناموسية أولو الأمر والنهى. والمرتبة الرابعة لمن بلغوا خمسين سنة وهى مرتبة التسليم ومشاهدة الحق عيانا. ونراهم يطلبون إلى إخوانهم فى كل قطر أن يعقدوا اجتماعات دورية يتذاكرون فيها العلم وشئون الإخوان.

وكل ذلك دليل على أنهم كانوا يريدون برسائلهم تنظيم الدعوة الإسماعيلية، أما لماذا أخفوا أسماءهم فلأنهم كانوا يعيشون فى العراق وسط أصحاب المذهب الإمامى الاثنى عشرى، فخافوا على أنفسهم وخاصة أنهم هاجموا هذا المذهب الشيعى كما قدمنا.

ومع ذلك فيبدو أنهم حاولوا نشر مذهبهم فى بغداد، إذ يحدثنا أبو حيان عن لقائه المتكرر لاحدهم، وهو زيد بن رفاعة. وينقل مناقشة طويلة بين أبى سليمان المقدسى والحريرى فى وصل إخوان الصفا بين الشريعة والدين. ويبدو أن استيلاء عضد الدولة على بغداد سنة 367 هيأ لهم هذه الفرصة، فقد كان يقرب القرامطة الإسماعيليين منه، وكان يتخذ أحيانا لنفسه منهم وزيرا أو نائبا، ويقول صاحب النجوم الزاهرة إنه كان يتشيع ويكرم جانب الرافضة (2). على كل حال يبدو أن دعوة المقدسى وزيد بن رفاعة باءت بالإخفاق والخذلان فى بغداد خذلانا إلى أقصى حد.

وتشير هذه الرسائل-كما مر بنا-إلى أن الفلسفة وعلوم الأوائل كانتا من مدارك الطبقة العامة المثقفة فى مطالع هذا العصر، عصر الدول والإمارات، وخاصة فى بغداد. ولعل أكبر شخصية متفلسفة كانت بها حينئذ شخصية أبى سليمان (3) المنطقى السجستانى، الذى نشأ بسجستان وشدا فيها علوم الأوائل، ويبدو أنه أراد منها زادا أكبر، فرحل إلى بغداد فى شبابه، ولزم يحيى بن عدى وأخذ عنه كل ما عنده، وسرعان

(1) رسائل إخوان الصفا 4/ 103 وما بعدها.

(2)

النجوم الزاهرة 4/ 142.

(3)

انظر فى أبى سليمان المنطقى القفطى ص 282 والإمتاع والمؤانسة فى مواضع متفرقة (انظر الفهرس) وكذلك المقايسات، وراجع ابن أبى أصيبعة ص 427 والفهرست ص 383 وبروكلمان ص 151 ومقدمة عبد الرحمن بدوى لصوان الحكمة.

ص: 285

ما عرف فضله وتألق نجمه، وكان دميم الخلقة وبه وضح ظاهر فلزم داره، وتحوّلت هذه الدار إلى منتدى كبير يختلف إليه الفلاسفة والعلماء والمثقفون من حوله، ينهلون من ينابيع فكره ما يمتعون به عقولهم ونفوسهم. وكانوا مختلفى المشارب، فمنهم المسلم وغير المسلم ومنهم المتفلسف، مثل الطبيب المجوسى المعروف بفيروز (1) وأبى إسحاق (2) الصابئ الكاتب وابن زرعه (3) النصرانى ومثل أبى زكريا الصيمرى وأبى الفتح النوشجانى وأبى محمد العروضى المتفلسفين، ومثل أبى القاسم عبيد الله بن الحسن المعروف بغلام زحل المنجم، ومثل على بن عيسى الرمانى مفلسف النحو ومباحثه ومثل القومسى الكاتب والمقدسى صاحب رسائل إخوان الصفا وقد ترجم له أبو سليمان فى نهاية كتابه صوان الحكمة كما أشرنا إلى ذلك آنفا. يقول أبو حيان:«وكل واحد من هؤلاء إمام فى شأنه وفرد فى صناعته، سوى طائفة دون هؤلاء فى الرتبة (4)» . وهذا المنتدى الكبير ظل عشرات السنين تثار فيه مشاكل الميتافيزيقا والإلهيات والطبيعيات والرياضيات والأخلاق والنفس والروح والجسم والعقل وعلم التنجيم والكهانة وأطراف من اللغة والبلاغة والأدب. ويلقى كل فيلسوف بدلوه، ثم يردّ الرأى النهائى إلى أبى سليمان، فيسمعه الجميع خاشعين مكبرين، وبلسانهم يقول له فيروز:«عين الله عليك أيها السيد، فو الله ما نجد شفاء لداء الجهل إلا عندك، ولا نظفر بقوت النفس إلا على لسانك، ولا نعلم يقينا أنا لا نحسن شيئا إلا إذا فاتحناك، ولا يجمل ظننا بأنفسنا إلا إذا بعدنا عن مجلسك، ولو كانت هذه الفائدة (يريد ما سمعه منه فى المسألة المطروحة) بعينها عندنا متى كنا نأتى بها على هذه الطلاوة والحسن، أمتع الله الأرواح برؤيتك، والعقول بهدايتك (5)» . ولأبى حيان التوحيدى يد لا تجحد، لتسجيله ما كان يدور فى مجالس أبى سليمان من حوار يتناول كل وجوه الفكر والتفلسف فى عصره، على نحو ما صنع فى كتابه النفيس «المقابسات» وهى تعنى مجالس أبى سليمان وما كان يقبس منها من أضواء المعرفة. ويصرّح أبو حيان مرارا بعمله فيها وأنه هو الذى أخرجها فى صورتها المكتوبة (6)، وينبغى أن لا نبالغ فى هذا التصور وخاصة بالقياس إلى أبى سليمان وإن قال إنه كان مصابا «بلكنة ناشئة من العجمة (7)» واللكنة شئ والتعبير الفصيح شئ

(1) المقايسات (طبع بغداد) ص 427.

(2)

المقايسات ص 272.

(3)

المقايسات ص 242 وهنا أيضا يذكر أن عيسى ابن على بن عيسى كان حاضرا.

(4)

المقايسات ص 57 وقد توقف أبو حيان فى هذا الكتاب وفى الإمتاع والمؤانسة ليعرف بهم (انظر فهرسيهما).

(5)

المقايسات ص 429.

(6)

انظر المقايستين: الثانية والرابعة.

(7)

الإمتاع والمؤانسة 1/ 33.

ص: 286

آخر، ومرت بنا آنفا كلمة فيروز الطبيب ووصفه لما على كلامه من الطلاوة والحسن، وقد نقل أبو حيان بعض المقابسات البديعة عن صوان الحكمة دون أن يخرم حرفا من كلام أبى سليمان! (1). على أن بين المقابسات مقابسات لبعض المتفلسفة من ندوة أبى سليمان مثل عيسى بن على بن عيسى وأبى الحسن العامرى وغيرهما.

ومنتدى ثان ببغداد لم يكن عاما مثل المنتدى السابق، فقد كان خاصا بوزير من وزراء الدولة البويهية وكان يعقده ليلا بداره، هو ابن سعدان الذى وزر لصمصام الدولة فى سنة 373 ولم يكد يدور عامان حتى قتله سنة 375. وكانتا سنتين غنيتين بالفكر والفلسفة والأدب، إذ كان يختلف إلى ندوته صفوة من المتفلسفة المفكرين مثل ابن زرعة النصرانى المتفلسف ومسكويه صاحب تهذيب الأخلاق وأبى الوفاء الرياضى الفلكى المهندس وبهرام بن أردشير المجوسى وابن عبيد وأبى بكر القومسى الكاتبين وابن الحجاج الشاعر وزيد بن رفاعة أحد إخوان الصفا وقرمطى يسمى ابن شاهويه (2). وكان ابن سعدان يباهى برفاقه ويفخر بهم على رفاق غيره من الوزراء قائلا: «والله ما لهذه الجماعة بالعراق شكل ولا نظير، وإنهم لأعيان أهل الفضل وسادة ذوى العقل (3). وكان أبو الوفاء قريبا من ابن سعدان فوصله بأبى حيان التوحيدى، ليعرض عليه ثمار الفكر والفلسفة فى عصره، واستقبله ابن سعدان استقبالا حسنا، وأخذ يلقى عليه فى ليال متصلة أسئلة فى مختلف فروع الفكر واللغة والأدب، ويتلقى من أبى حيان إجاباته، ويتشقق الحوار والحديث فى مسائل فلسفية وإلهية وطبيعية وأخلاقية ونفسية وروحية وسياسية وأدبية ولغوية. وقد يحكى له مناظرة طويلة كمناظرة السيرافى ومتى بن يونس فى النحو والمنطق وقد مرت بنا فى كتاب العصر العباسى الثانى، ويروى له أحيانا أخبار بعض المتصوفة، ويذكر له بعض جوانب الحياة فى بغداد. وبحق يقول القفطى عن الكتاب إنه «كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة فى فنون العلم فإنه خاض كل بحر وغاص فى كل لجّة» (4).

ولم يرو أبو حيان فى الكتاب الذى يقع فى ثلاث مجلدات كل الليالى التى قضاها محاورا مناقشا فى منتدى ابن سعدان، فقد اقتصر منها على سبع وثلاثين ليلة وزع عليها الكتاب وقد ألفه لأبى الوفاء المهندس، ذكرى عزيزة لابن سعدان. وربما صنفه لأبى الوفاء فى

(1) قارن المقايسة السابعة والثلاثين بصوان الحكمة ص 333 وما بعدها.

(2)

انظر فى هؤلاء الجلساء الصداقة والصديق لأبى حيان (طبع القاهرة) ص 77 والإمتاع والمؤانسة 2/ 3 وراجع النجوم الزاهرة 4/ 125.

(3)

الصداقة والصديق ص 83.

(4)

القفطى ص 283.

ص: 287

حياة صديقه، ويبدو أنه كان قد كتب مسوّدات هذه الليالى، حتى إذا رأى إهداءها لأبى الوفاء عنى أحيانا بتقويم بعض عباراتها مع شرح الغامض وصلة المحذوف وإتمام المنقوص، ومع سبكها بناصع اللفظ (1) وما عرف من ميله فى كتابته إلى الأزدواج.

وكان وراء هذين المنتديين الفلسفيين العلميين منتديات كثيرة فى دور العلماء والمتفلسفة مثل دار يحيى بن عدى وفى المكتبات الكبيرة مثل مكتبة سابور بن أردشير. ونذكر نفرا من الرياضيين والفلكيين فى القرن الرابع الهجرى لندل على النهضة العلمية حينئذ، وأول من نقف عنده أبو القاسم على بن الحسن المعروف بابن الأعلم (2) المتوفى سنة 375 وكان عضد الدولة يرعاه واشتهر بزيجه الذى ظل به العمل حتى زمن القفطى. وكان يعاصره ويجن (3) بن رستم الكوهى وكان رئيسا للمرصد الذى أسسه شرف الدولة البويهى فى حديقة القصر ببغداد، وقد أمره فى سنة 378 برصد الكواكب السبعة وعاونه فى ذلك فلكيون ورياضيون أهمهم أبو الوفاء (4) محمد بن محمد بن يحيى البوزجانى صديق أبى حيان التوحيدى الذى توفى سنة 388 وفيه يقول ابن خلكان: أحد الأئمة المشاهير فى علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يسبق بها، وكان شيخنا العلامة كمال الدين أبو الفتح موسى بن يونس، تغمده الله برحمته وهو القيم بهذا الفن، يبالغ فى وصف كتبه ويعتمد عليها فى أكثر مطالعاته ويحتج بما يقوله، وكان عنده من تواليفه عدة كتب وله فى استخراج الأوتار تصنيف جيد نافع». ويقول عنه ألدومييلى:«كان أحد المترجمين العظام الأواخر من اليونانية، وشارح أقليدس وديوفانتوس وبطليموس وهو كذلك عالم أصيل رفيع المنزلة، ويقترن اسمه على وجه الخصوص بتنمية حساب المثلثات، والمسائل الهندسية التى عالجها بخبرة جد كبيرة، وكان له تأثير قوى فى الفلكيين المحدثين» .

وبالمثل كانت العلوم الطبيعية ناهضة ناشطة، ولعل خير ما يصور ذلك ظهور أبى على الحسن (5) بن الهيثم البصرى المتوفى حوالى سنة 432 للهجرة، وقد ذكر له ابن أبى أصيبعة ثلاثة وأربعين كتابا فى الفلسفة والعلم الطبيعى وخمسة وعشرين كتابا فى الرياضيات

(1) الإمتاع والمؤانسة 2/ 1.

(2)

انظر فى ابن الأعلم القفطى ص 235.

(3)

راجعه فى الفهرست ص 409 والقفطى ص 351 وبروكلمان 4/ 219 وألدومبيلى ص 212.

(4)

انظره فى الفهرست ص 408 والقفطى ص 287 وابن خلكان 5/ 167 والوافى بالوفيات للصفدى 1/ 209 وتتمة البيهقى 76 وبروكلمان 4/ 222 وألدوميبلى ص 211، 215.

(5)

راجع فى ابن الهيثم القفطى ص 165 وابن أبى أصيبعة ص 550 وألدومييلى ص 206 وما به من مراجع وانظر كتاب ابن الهيثم لمصطفى نظيف ودائرة المعارف الإسلامية وما بها من مراجع.

ص: 288

والهندسة. وهو يعدّ بحق من علماء الطبيعة العالميين، يشهد له بذلك كتابه «المناظير» فى البصريات وانعكاس الضوء والعدسات فقد ترك تأثيرا عميقا فى كل من روجر بيكون ووايتلو عن طريق ترجمته قديما إلى اللاتينية، واتسع تأثيره فى كثيرين من علماء الغرب كما يحدثنا بذلك ألدومييلى. وسمع الخليفة الحاكم الفاطمى بذكائه وقدرته الهندسية وشاع عنه أنه يقول لو نزل مصر لوضع مشروعا ينظم المياه فى النيل، واستقدمه الحاكم، غير أنه رأى صعوبة تطبيق مشروعه. ويقول ابن أبى أصيبعة: إنه لخص كثيرا من كتب أرسططاليس وشرحها وكثيرا من كتب جالينوس فى الطب. وحين نزل مصر أقام بقبة على باب الجامع الأزهر. وكان يقتات من نسخه سنويّا أقليدس والمجسطىّ، ويضيف إليهما القفطى كتابا ثالثا، ويقول إنه كان يبيعها جميعا بمائة وخمسين دينارا مصريا، وصار ذلك كالرسم المعتاد له.

وكان الطب والعلوم الطبية بالمثل ناهضين، وساعد على ذلك منذ العصر العباسى إنشاء البيمارستانات فى بغداد، ومن البيمارستانات المهمة التى أنشئت فى القرن الرابع الهجرى البيمارستان العضدى نسبة إلى عضد الدولة، أنشأه فى الجانب الغربى لبغداد وأنفق عليه أموالا عظيمة، ويقول ابن خلكان:«ليس فى الدنيا مثل ترتيبه وبه من الآلات ما يقصر الشرح عن وصفه» ولما فرغ من بنائه سنة 368 عيّن به أربعة وعشرين طبيبا رتّبهم فيه لمعالجة المرضى، منهم نظيف القس الرومى وأبو الحسن بن كشكرايا وأبو الخير الجرائحى وأبو يعقوب الأهوازى وابن مندويه» (1).

وهذه النهضة العلمية الفلسفية فى القرن الرابع اطردت فى القرنين التاليين إذ يلقانا بهما متفلسفة ورياضيون وفلكيون وطبيعيون وأطباء مختلفون فى كتابى القفطى وابن أبى أصيبعة، نذكر منهم أبا الفرج عبد الله (2) بن الطيب المتوفى سنة 435 وفيه يقول القفطى «فيلسوف فاضل. . اعتنى بشرح الكتب القديمة فى المنطق وأنواع الحكمة من تأليف أرسططاليس وبشرح كتب جالينوس فى الطب، ويقال إنه بقى عشرين سنة فى تفسير ما بعد الطبيعة. وأهم تلاميذه ابن بطلان (3) النصرانى المتوفى بعد سنة 455 وكان حاذقا فى الطب واشتهر برحلته إلى القاهرة حيث لقى الفيلسوف المصرى ابن رضوان، ونشبت بينهما مناظرات حادة، وأشهر مؤلفاته كتاب تقويم الصحة، ولا يوجد منه إلا

(1) انظر القفطى ص 337، 403، 407، 436، 438. وراجع ابن خلكان 4/ 54.

(2)

القفطى ص 223.

(3)

القفطى ص 294 وابن أبى أصيبعة ص 325 وألدومييلى ص 241، 253 ودائرة المعارف الإسلامية.

ص: 289

ترجمة لاتينية وأخرى ألمانية فى عصر النهضة. ومن الأطباء النابهين بعده أبو الحسن سعيد (1) بن هبة الله طبيب الخليفتين المقتدى والمستظهر، وكان لا يزال على قيد الحياة فى سنة 489 ويظن أنه توفى سنة 496 وقد اشتهر بكتاب كبير فى الطب صنفه للمقتدى، سماه المغنى فى تدبير الأمراض وتعريف العلل والأعراض. وكان يعاصره يحيى بن عيسى (2) بن جزلة المتوفى سنة 473 وكان نصرانيا ثم اعتنق الإسلام، وصنف كثيرا من الكتب باسم الخليفة المقتدى أهمها كتاب تقويم الأبدان فى تدبير الإنسان، وقد ترجم إلى اللاتينية ثم الألمانية، ويشتمل على 44 لوحة، وبه وصف لنحو 350 مرضا. وأنبه الأطباء فى القرن السادس هبة (3) الله بن التلميذ النصرانى المتوفى سنة 560 وكان طبيب الخليفة المقتفى، ويقول ألدومييلى إن كتبه خالية من كل أصالة، وهى صفة تشمل أطباء العراق بعامة بعده. وليس معنى ذلك أن العناية قلت بالبيمارستان وأطبائه، فقد زار ابن جبير بغداد سنة 580 وشاهد البيمارستان ووصفه بقوله: إنه «على دجلة وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس ويطالعون أحوال المرضى به ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قومة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية» (4).

وتمضى الحركة العلمية والفلسفية فى نشاطها بالعراق إلى أن يكتسحه قطعان المغول فى منتصف القرن السابع الهجرى، إذ قوّضوا صرحها فى بغداد وغير بغداد، وربما كان أنبه المشتغلين بعلوم الأوائل قبل هذا الانهيار الفظيع أثير الدين الأبهرى (5) الموصلى المتوفى سنة 663 وله مختصر فى علم الهيئة ورسالة فى الإسطرلاب وشرح لإيساغوجى وكتاب هداية الحكمة فى المنطق والطبيعيات والإلهيات. ويضعف الاشتغال بعلوم الأوائل أو يأخذ فى الضعف، ومن المؤكد أنه ظل، ولكن لم تعد له نفس القوة القديمة، ويلقانا من حين إلى آخر بعض المتفلسفين أو العلماء مثل أبى القاسم محمد بن أحمد السيماوى (6) العراقى الذى عاش فى النصف الثانى من القرن السابع الهجرى، وله كتب كثيرة فى الكيمياء أشهرها كتاب العلم المكتسب فى زراعة الذهب، وممن نلتقى بهم فى القرن التاسع الهجرى بدر

(1) راجع ابن أبى أصيبعة ص 342 وألدومييلى ص 242، 254.

(2)

ابن أبى أصيبعة ص 343 والقفطى 365 وألدومييلى ص 241، 253.

(3)

ابن أبى أصيبعة ص 349 والقفطى ص 340 وألدومييلى ص 321.

(4)

ابن جبير ص 225.

(5)

راجع فيه ابن خلكان 5/ 313 فى ترجمة كمال الدين بن يونس ودائرة المعارف الإسلامية وما بها من مراجع وبروكلمان (فى الطبعة الألمانية) 1/ 464.

(6)

انظر ألدومييلى ص 308.

ص: 290

الدين محمد سبط الماردينى (1) المتوفى سنة 891 وله كتب مختلفة فى الحساب والهندسة.

وتأخذ المعرفة بعلوم الأوائل فى الضعف مع الحقبة العثمانية إذ لم تعد هناك عناية بها ولا رعاية لها.

ولابد أن نقف قليلا عند مصنفاتهم فى السياسة على هدى كتابات أفلاطون وأرسطو وما ترجمه ابن المقفع عن الفارسية هو وغيره من آداب الحكم والسياسة، وقد افتتح ابن قتيبة كتابه عيون الأخبار بباب طويل عن السلطان والسياسة والحكم، وتناول هذا الموضوع كثيرون بعده مثل الوزير المغربى أبى القاسم الحسين بن على المتوفى سنة 418 فإنه ألف فى السياسة رسالة طريفة. ومن خير الكتب التى ألفت فى هذا الموضوع كتاب الأحكام السلطانية للماوردى (2) أبى الحسن على بن محمد البصرى البغدادى المتوفى سنة 450 للهجرة، وكان فقيها شافعيا، وتولى القضاء فى بلدان كثيرة بالعراق، وهو فى كتابه يصل بين السياسة والمسائل الشرعية فى النظم الإسلامية، وبذلك يصبح الكتاب فى سياسة الحكم الإسلامى، وهو يستهله بالحديث عن إمامة المسلمين ثم يتحدث عن تقليد الوزارة وقيادة الجيوش المجاهدة فى سبيل الله، ويتحدث عن ولاية القضاء والمظالم والولاية على الصلاة والحج والصدقات وأحكام الفئ والغنيمة والجزية والخراج وأحكام الإقطاع والدواوين وبيت المال.

وقد نشط العراقيون لهذا العصر فى الكتابات الجغرافية، وأول من يلقانا منهم أبو إسحاق الفارسى الإصطخرى (3) الكرخى المتوفى حوالى منتصف القرن الرابع الهجرى، ويبدو أنه عاش طويلا فى بغداد، كما يدل على ذلك لقبه الكرخى، وله كتاب جغرافى سماه «المسالك والممالك» تحدث فيه عن مملكة الإسلام وصور أقاليم الأرض ومدنها وبحارها وأنهارها وسهوبها وجبالها، وقد نقل إلى كتابه صور الأقاليم التى بثها أبو زيد البلخى فى كتابه المعروف بهذا الاسم، ولابن حوقل البغدادى (4) معاصره كتاب باسم المسالك والممالك أيضا هو تهذيب لكتاب الإصطخرى. وكان شيعيا إسماعيليا، واستغله الفاطميون فى الدعوة لهم على ما يظهر وقد زار الأندلس وإفريقيا الشمالية وبلدان إيران وجزءا من الهند.

(1) راجع فيه بروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/ 357.

(2)

انظره فى ابن خلكان 3/ 282 والمنتظم 8/ 199 وطبقات الشافعية 5/ 267 وتاريخ بغداد 12/ 102 ومعجم الأدباء 15/ 52 ودائرة المعارف الإسلامية وما بها من مراجع.

(3)

انظره فى إصطخر بمعجم ياقوت وفى دائرة المعارف الإسلامية. وتاريخ الأدب الجغرافى العربى. لكراتشكوفسكى 1/ 199.

(4)

راجعه فى ألدومييلى ص 227 وفى دائرة المعارف الإسلامية. وفى كراتشكوفسكى 1/ 200.

ص: 291