الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان وجوه من محاسن المتنبى فى إرسال الأمثال والحكم وينهيه بالثناء عليه وعلى شعره.
والكتاب يدل على بصر جيد بمعرفة الشعر ونقده وفيه ما يصور ثقافة هذا الناقد الحضرمى المكى وأنه اطلع على كثير مما كتب عن المتنبى قبله وقد حاول أن يضيف إضافات جيدة فى بيان محاسن شعره ومعايبه، وهو يشيد به فى فواتح كتابه إشادة بالغة وكذلك فى تضاعيفه وفى خاتمته ونهايته. ومن أطرف صحفه الصحف التى تحدث فيها عن السرقات إذ عرض فيها أسماء شعراء متأخرين نابهين كثيرين مما يدل على ثقافته الواسعة بالشعر والشعراء حتى زمنه.
4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام
.
ما قلناه عن التراث اللغوى والنحوى والبلاغى وأنه كان مشتركا بين البلدان العربية على اختلاف أقطارها ينطبق أشد الانطباق على تراث الفقه والحديث والتفسير والقراءات وعلم الكلام، فهو تراث مشترك يدرس فى كل أنحاء الجزيرة العربية كما يدرس فى كل أنحاء العالم العربى، لا فرق بين بلد وبلد ولا بين زمن وزمن. ولم يكن طلاب العلم حينئذ يكتفون بأخذه عن علماء بلدهم، بل كانوا يرحلون إلى لقاء العلماء النلبهين فى كل بلد وخاصة فى العراق والشام ومصر، ليتلقوا العلم عنهم شفاها. ولا يكتفى الطالب بالرحلة مثلا إلى بغداد ولقاء علمائها، بل يرحل إلى بلاد أخرى طامعا فى أن يجمع لنفسه كل ما يستطيع من مواد المعرفة فى علم بعينه أو فى مجموعة من العلوم.
وجعل الحجّ والزيارة النبوية مكة والمدينة قبلتين للطلاب والعلماء جميعا، على نحو ما مرّ بنا فى علوم العربية فكان يفد عليهما أنبه العلماء فى العالم الإسلامى، وكثيرا ما ينزلون بهما سنة أو سنوات، وطلاب البلدتين ينهلون من ينابيع علومهم الغزيرة. ونضرب مثلا فى الفقه بالجوينى (1) عبد الملك بن عبد الله النيسابورى شيخ الإسلام العلامة الأصولى الفقيه المتكلم المتوفى سنة 478 وقد جاور بمكة أربع سنوات قضى منها شطرا فى المدينة ولذلك سمّى إمام الحرمين، وكان يدرس هناك ويفتى ويجتهد فى نشر العلم بفقه الشافعى، وكان علمه بهذا الفقه قد أحدث دويا هائلا لاسمه فى موطنه وحين نزل بغداد ولقى علماءها وناظروه، ويقولون عنه: وقف علماء المشرق والمغرب معترفين بالعجز بين يديه، ويقول
(1) انظر مصادر ترجمته فى الفصل الثانى من القسم الخاص بايران.
السبكى: «لا يشك ذو خبرة أنه كان أعلم أهل الأرض بالفقة والأصول والكلام وأكثرهم تحقيقا. . وأن الوجود ما أخرج بعده له نظيرا، مما جعل اسمه يطير فى الأقطار وذكره يملأ الديار» . ومن تصانيفه فى الفقه الشافعى النهاية فى الفقه ويقول السبكى: «لم يصنف فى مذهب الشافعى مثلها فيما أجزم به» ويذكر له فى أصول الدين أو علم الكلام كتاب الشامل وكتاب الإرشاد كما يذكر له فى أصول الفقه كتاب البرهان غير كتب أخرى. ولم يكن يحضر مجلسه طلاب الفقه والأصول والكلام فى مكة والمدينة فحسب، بل كان يحضره أيضا الوافدون على البلدتين من أقطار العالم الإسلامى، مما جعل اسمه يسير ويشتهر وتضرب به الأمثال. وعاد إلى نيسابور، فبنى له نظام الملك وزير ألب أرسلان السلجوقى مدرسة ليلقى بها محاضراته من مدارسه المعروفة باسم المدارس النظامية وكانت حلقته تضم نحوا من أربعمائة طالب، وحين توفى طافوا ببلده ينوحون عليه وكسروا المحابر والأقلام حزنا وجزعا.
والفقهاء بمكة والمدينة كانوا كثيرين، وكان لكل مذهب من المذاهب الأربعة المشهورة:
مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعى ومذهب أحمد بن حنبل فقيه يمثله، يسمى مثلا إمام الحنابلة أو إمام المالكية بالحرم ويضم منهم كتاب العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين للفاسى طائفة كبيرة. وكذلك غيره من كتب (1) التراجم ومن أهم فقهاء مكة المتأخرين ابن حجر الهيثمى المتوفى سنة 973 وله شرح كبير على المنهاج للنووى ومصنفات كثيرة.
ونلتقى فى مكة بمحدث من كبار المحدثين فى العالم الإسلامى هو محب (2) الدين الطبرى المكى المتوفى سنة 694 شيخ الحرم وحافظ الحجاز وعالمه المولود بمكة سنة 615 فهو من علماء مكة. وهى مسقط رأسه وموطنه، نشأ بها، وفيها طلب العلم وسمع الحديث على أستاذه أبى الحسن على بن المقيّر، ومما قرأه عليه سنن أبى داود عن أبى الفضل بن سهل الإسفرايينى وعن الخطيب البغدادى وسنن النسائى أبى عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن على عن البزدى عن عبد الرحمن بن محمد الدونىّ. وكانوا يدققون فيمن يذكرونهم من الحفاظ فلابد أن يكونوا حملوا كتب الحديث عن شيوخ نابهين على نحو ما حمل ابن المقير سنن أبى داود
(1) راجع مثلا فى إمام للحنفية بالمسجد الحرام المنهل الصافى 1/ 404 هو شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن على بن يوسف، وفى إمام للمالكية العقد الثمين 4/ 324 هو خليل بن عبد الرحمن القسطلانى المكى، وفى إمام للشافعية العقد الثمين 1/ 280 وهو الرضى الطبرى المكى، وفى إمام للحنابلة العقد الثمين 7/ 119 وهو ابن الطباخ الحنبلى.
(2)
انظره فى طبقات الشافعية للسبكى 8/ 18 والمنهل الصافى 1/ 320 وتذكرة الحفاظ 4/ 1474 وشذرات الذهب 5/ 426 ومرآة الجنان 4/ 224 والنجوم الزاهرة 8/ 74.
عن علمين من أعلام الحديث هما الإسفرايينى والبغدادى، فلا يذكرون فقط أخذ كتاب الحديث عن محدث كبير بل يحاولون أن يذكروا عمن أخذه لصحة السند وللثقة بالرواية، وينصون كما رأينا الآن على قراءة التلميذ على شيخه للكتاب كلمة كلمة، وقد يقولون سمعه من شيخه، وكانوا عادة يسمعون الكتاب وفى أيديهم نسخ للمراجعة والمعارضة. وقد يجمعون الحسنيين من السماع على الشيخ للكتاب وقراءته أمامه مرة واحدة، فيقولون: سماعا وقراءة.
وقرأ محب الدين الطبرى صحيح البخارى على عبد الرحمن بن حرمى سبط السلفى الحافظ المشهور، وقرأه أيضا على عمين لأبيه وأخ له. وقرأ جامع الترمذى على يعقوب بن أبى بكر الطبرى وصحيح مسلم وصحيح ابن حبان على شرف الدين بن أبى الفضل المرسى، وقرأ الأربعين للحافظ الثقفى على أبى الحسن بن الجمّيزى وكذلك قرأ عليه الأربعين للسلفى، وقرأ الأربعين البلدانية على شعيب الزعفرانى، وقرأ بعض الجمع بين الصحيحين للحميدى عن ابن البطّى، وقرأ على ابن العديم وريحان السّكينى وشيخ الحرم نجم الدين التبريزى جزء الأنصارى. وكان يعنى بالفقه، وقرأ كتاب التنبيه المشهور فى الفقه الشافعى والذى ألفه أبو إسحق الشيرازى على ابن سكينة وتفقه عليه. وسمع بعض كتاب الغريب لأبى عبيدة عن شهدة، وهى إحدى المحدثات الكبيرات. وكأنما تعب من يعدون كتب الحديث والفقه والغريب التى أخذها عن العلماء، فيعقبون على ما سبق بقولهم: وأخذ العلم عن جماعة كثيرين من شيوخ مكة والقادمين إليها. والحرم المكى بذلك كان أشبه بجامعة كبيرة لعلوم الشريعة والعربية. ونقف قليلا عند المشايخ والأعيان الذين تتلمذوا له فمنهم القاضى جمال الدين الطبرى قاضى مكة قرأ عليه فى سنة 649 بالروضة بالمسجد النبوى. وهذا يعنى أنه كان يدرس فى المدينة أحيانا.
ومن تلاميذه المحدث عبيد الله بن عبد العزيز المهدوى والقطب القسطلانى المصرى ثم المكى ونجم الدين بن عبد الحميد والحافظ الزاهد علاء الدين العطار وقاضى المدينة المنورة شمس الدين بن مسلم والحافظ الدمياطى المصرى المشهور وعلم الدين البرزالى الدمشقى المصرى وقاضى مكة نجم الدين الطبرى وقطب الدين الحلبى وأبو حيان الغرناطى وخلق كثير، كما يقول مترجموه، آخرهم وفاة عثمان بن الصفى الطبرى، وآخر أصحابه بالإجازة الشهاب الحنفى. وأساتذته وتلامذته هم أعلام الحديث فى عصره بالحجاز وبغداد وإيران ودمشق والقاهرة، غير من انتفع به فى الفقه الشافعى، واستدعاه المظفر السلطان الرسولى مرارا، وسمع عليه بعض مروياته وتآليفه ولا بد أنه كان يلقى فى أثناء ذلك محاضراته على الطلاب بزبيد. ونقف مرة أخرى عند مؤلفاته الكثيرة، منها فى الحديث كتاب الأحكام
الكبرى جمع فيه صحاح الأحاديث وحسانها، وهو فى خمسة أجزاء، وكتاب الأحكام الوسطى مجلد كبير، وكتاب الأحكام الصغرى يتضمن ألف حديث وخمسة عشر، وكتاب المحرر للملك المظفر جمع فيه أحكام الصحيحين، واختصره فى كتاب سماه العمدة، وكتاب الرياض النضرة فى فضائل العشرة المبشرين بجنة الرضوان مجلدان وهو مطبوع، وكتاب ذخائر العقبى فى مناقب ذوى القربى، وكتاب السمط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين، وتقرب المرام فى غريب القاسم بن سلام، وكتاب القرى من ساكن أم القرى جرد فيه أحاديث المناسك من الكتب الستة وغيرها، وغاية بغية الناسك من أحكام المناسك، وصفة حجة النبى صلى الله عليه وسلم على اختلاف طرقها وجميع ألفاظها، غير كتب أخرى.
ومن مصنفاته الفقهية شرحه على كتاب التنبيه لأبى إسحق الشيرازى فى عشرة أجزاء ونكت كبرى عليه فى أربعة أجزاء وكتاب المسلك النبيه فى تلخيص التنبيه، وكتاب مختصر المهذب، مجلدان. ومما يتصل بالقرآن الكريم: القبس الأسنى فى كشف الغريب والمعنى، والكافى فى غريب القرآن، وكتاب التحفة المدنية، وكتاب مرسوم المصحف العثمانى المدنى. وله مختصر كتاب عوارف المعارف للسهروردى. ومحب الدين الطبرى، بهذا كله رمز كبير لتلك الحركة العلمية التى كانت منبثة فى الحجاز والتى كان شررها يتطاير إلى جميع البيئات فى الجزيرة العربية. ومن الطريف أن المرأة كانت تشارك فيها، وخاصة فى رواية الحديث، فكانت تأخذه عن شيوخه ويأخذه عنها الشيوخ، ومن يرجع إلى الجزء الثامن من كتاب العقد الثمين سيرى عشرات من النساء المحدثات من مكة أو النازلات بها يروى جلّة العلماء عنهن الحديث النبوى.
وطبيعى أن تنشط دراسة التفسير فى مكة مع دراسة الحديث، وقد رأينا محب الدين الطبرى بجانب عمله فى الحديث يخدم التفسير خدمات كبيرة، ويقال إنه كان قد نشط لكتابة تفسير جامع غير أنه توفى قبل إتمامه. وقد صنّف بمكة تفسير من أعظم التفاسير، صنفه الزمخشرى فى أثناء مجاورته بها وهو «الكشاف» ومع أنه ضمنه آراءه الاعتزالية أقبل عليه علماء السنة وغيرهم لروعته، ويلقبه الفاسى المالكى بأنه «الإمام الكبير فى التفسير. .
كان إمام عصره غير مدافع» ويقول ابن خلكان عن الكشاف وتفسيره للقرآن العزيز بأنه لم يؤلف قبله مثله. وكان يمليه فى مكة على الطلاب، وممن رواه عنه قاضيها أبو المعالى يحيى ابن عبد الرحمن الشيبانى، أخذه عنه بالحرم المكى الشريف، وظل العلماء بعد الزمخشرى يعنون بالكشاف فى التفسير، كما يعنون برواية كتب الزمخشرى المشهورة وإلقائها على
الطلاب والطالبات بالحرم المكى، ويقال إن أم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن الشّعرية خاتمة الرواة عن الزمخشرى وإن لها منه إجازة تفردت بها عنه، ويقول الفاسى فى العقد الثمين من طريقها وقع لنا حديثه.
ومنذ انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وقراء الذكر الحكيم يعلمون تلاوته وقراءته فى الحرمين المكى والمدنى، ويختار ابن مجاهد فى القرن الرابع قراءة ابن كثير التى كان يقرأ بها أهل مكة وقراءة نافع التى كان يقرأ بها أهل المدينة بين القراءات السبع المشهورة لعصره، وظلت قراءة كل منهما تتداول فى بلدته وينقلها جيل من القراء إلى جيل، وتلقانا فى كتاب طبقات القراء لابن الجزرى أسماء طائفة منهم مثل أبى يحيى المكى المتوفى سنة 344 وأبى عبد الله البلخى المولود بمكة المتوفى سنة 372 ويكتظ كتاب العقد الثمين بتراجم كثير من القراء فى مكة والمدينة. وكانتا دارين للقراءات وعلوم الشريعة، أما علم الكلام فلم يكن له بهما كبير شأن.
وإذا ما تحولنا إلى اليمن وجدنا للفقه فيها نشاطا من قديم منذ معمر بن راشد المتوفى سنة 153 وإليه ارتحل سفيان الثورى وابن عيينة، وخلفه تلميذة عبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 210 وعنه روى الحديث أحمد بن حنبل وغيره، وخلفه أبو قرة موسى بن طارق.
وكان الغالب فى اليمن حتى القرن الثالث مذهبى أبى حنيفة ومالك، ثم أخذ العلماء يعنون بمذهب الشافعى، وفى مقدمتهم موسى بن عمران المعافرىّ وآل زرقان إذ كان منهم عدة فقهاء عنوا بفقه الشافعى. ويقول الجعدى فى كتابه «طبقات فقهاء اليمن»: وخلف هذا الجيل إمام أئمة الشافعية فى صنعاء وعدن القاسم بن محمد القرشى المتوفى سنة 437 وهو الذى نشر مذهب الشافعى فى مخلاف الجند وفى صنعاء وعدن وزبيد، وكان قد جمع مع الفقه والحديث وأصول الفقة علم القراءات. وكان يعاصره الصعبى أحمد بن عبد الله وقد شرح مختصر المزنى المصرى صاحب الشافعى-كما يقول الجعدى-فى أربع سنوات مقابلا الكعبة الشريفة. ويخلف القاسم بن محمد مجموعة كبيرة من التلاميذ ينهضون بتعليم فقه الشافعى وبيان مذهبه. ولما ألف أبو إسحاق الشيرازى كتابيه: المهذب والتنبيه فى الفقة الشافعى، وأخذهما عنه حسين بن على الطبرى وأبو نصر البندنيجى وسكنا مكة حمل الفقهاء اليمنيون وغيرهم عنهما الكتابين، كما حملوهما عن تلميذه محمد بن عبدويه الذى سكن عدن مدة ثم انتقل منها إلى زبيد، وكان ينفق على طلبة العلم ويكرمهم كما يقول الجعدى. وينشط الفقه الشافعى أو المذهب الشافعى فى الفقه بتهامة وزبيد نشاطا واسعا،
ويكثر فقهاؤه، ومن أهمهم يحيى (1) بن أبى الخير شيخ الشافعيين باليمن المتوفى سنة 558 وقد تفقه على جماعة، منهم خاله أبو الفتوح بن عثمان العمرانى وزيد بن عبد الله اليفاعى، وقد قرأ كتاب التنبيه للشيرازى على موسى بن على الصعبى، وحفظ كتاب الشيرازى:
«المهذب» على عبد الله بن أحمد الهمدانى، وكذلك كتابه «اللمع» وأخذ عن زيد ابن الحسن الفايشى تعليق الشيخ الشيرازى فى أصول الفقة مع ملخصه، وحضر دروس فقهاء كثيرين، وقرأ على القاضى مسلم بن أبى بكر الصعبى كتاب الحروف السبعة فى علم الكلام والتوحيد وأصول الدين لمؤلفة الحسين بن جعفر المراغى، وسمع على الشيخ سالم ابن عبد الله كتاب الجامع للسنن للترمذى، ومما قرأه ونصّ عليه الجعدى شروح المزنى والمجموع للمحاملى والشامل لابن الصباغ والفروع لسليم وشروح المولدات لأبى الطيب والعدة للقاضى حسين بن على الطبرى تلميذ الشيرازى كما أسلفنا والإبانة وشرح التلخيص لأبى على السّنجى وكتاب التبصرة لأبى الفتوح على مذهب السلف الصالح.
وكان الفقهاء فى اليمن منقسمين بين أشعرية وأهل سنة ينصرون مذهب الحنابلة مع أنهم شافعية، وكان يحيى بن أبى الخير يختار مذهب أهل السنة ويناظر الفقهاء فى مذهب الأشعرى المتكلم. وكان يذكر لطلابه خلاف الإمامين مالك وأبى حنيفة، وله مصنفات مختلفة، من أهمها فى الفقه الشافعى كتابه الزوائد ألفه فى أربع سنوات وكتابه البيان ألفه فى ست، وكتابه استخراج المسائل المشكلة فى المهذب.
ومن الطريف أن الجعدى فى كتابه طبقات فقهاء اليمن يوالى ذكر أسماء جماعات من الفقهاء الشافعية نبغوا فى بيت بعينه، من ذلك أسرة بنى أبى عقامة، ويقول عنهم الجعدى:«وفضائل بنى أبى عقامة مشهورة، وهم الذين نصر الله بهم مذهب الإمام الشافعى فى تهامة» ومن أهمهم أبو الفتوح (2) عبد الله بن محمد بن على بن أبى عقامة المتوفى سنة 550 تفقه على جده على وعلى أبى الغنائم الفارقى، وله مصنفات جيدة منها كتاب الخناثى وفيه نفائس حسنة، قال النووى: لم يسبق إلى تصنيف مثله. وعقد العماد الأصبهانى لهذه الأسرة فصلا فى الخريدة، ويقول الجندى فى كتابه السلوك عن أحدهم، وهو القاضى أبو محمد الحسن بن أبى عقامة:«له كتاب نوادر مذهب أبى حنيفة التى يستشنعها أصحاب الشافعية» وقد صار هذا الكتاب فى اليمن قليل الوجود، لأن الحنفية
(1) طبقات فقهاء اليمن للجعدى (طبع القاهرة) ص 174 وطبقات الشافعية للسبكى (الطبعة الثانية) 7/ 336 وشذرات الذهب 4/ 185.
(2)
انظره فى طبقات فقهاء اليمن ص 240 والسبكى 7/ 130 وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 262 وقسم الشام من كتاب الخريدة للعماد الأصبهانى 3/ 246.
اجتهدت بتحصيله وإذهابه (1)».
وكان للحنفية نشاطهم ومن أشهر علمائهم فى القرن الخامس فى اليمن القاضى محمد بن أبى عوف، ويعقد لهم الجعدى فصلا قصيرا فى كتابه يذكر أسماء طائفة منهم، ويقف عند القاضى المذكور، ويقول إنه صنف كتابا بعنوان «القاضى» وهو مشهور فى اليمن والعراق عند الحنفية. واشتهر منهم فى القرن السابع أبو بكر بن عيسى المعروف بابن حنكاش (2) المتوفى سنة 664 وإليه انتهت رياسة الحنفية فى اليمن، ويقال: لو لم يوجد لمات مذهب أبى حنيفة هناك، إذ حمل السلطان نور الدين الرسولى على بناء مدرسة للحنفية بزبيد وكان قد بنى بها مدرسة للشافعية.
وكان يقابل فقه الشافعية فى تهامة وزبيد فقه الزيدية فى صعدة من قديم، وكان الأئمة الرسّيون كلما غلبوا على بلد فى اليمن حاولوا أن يشيعوا فيه مذهبهم، حتى إذا تمت لهم الغلبة فى العصر العثمانى أشاعوا مذهب الزيدية، غير أن مركز الشافعية فى زبيد وتهامة ظل ثابتا إلى اليوم. ومعروف أن الفقه الزيدى نشأ مبكرا. فإن زيد بن على زين العابدين بن الحسين المقتول سنة 122 بالكوفة هو الذى أرسى قواعده فى كتاب فقهى له اشتهر باسم المجموع الفقهى (3)، وهو أساس الفتوى والأحكام القضائية عند الزيدية، وقد طبع فى القاهرة سنة 1340 وطبع قبل ذلك مع شرح له باسم الروض النضير للحسين الخيمى فى أربعة أجزاء سنة 1337 وطبع أيضا بشرح شرف الدين السباعى، والشرحان مطبوعان فى القاهرة. وعنى أئمة الزيدية فى اليمن-منذ تأسيس الإمام الهادى إلى الحق يحيى بن الحسين دعوتهم-بهذا الكتاب فهو عمدتهم فى الفقه والتأليف فيه، وللإمام الهادى كتاب يسمى.
كتاب جامع (4) الأحكام فى الحلال والحرام. ويتكاثر تأليف أئمة الزيدية لكتب الفقه فى اليمن، ونذكر من كتبهم أطرافا، فمن ذلك المنصور بالله عبد الله بن حمزة، له فتاوى كثيرة مجموعة. ومن ذلك الإمام محمد بن المطهر المتوفى سنة 728 له المنهاج الجلى شرح مجموع الإمام زيد بن على. ومن ذلك الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة صاحب الطراز الذى تحدثنا عنه فى النشاط البلاغى له كتاب الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار فى ثمانية عشر جزءا. ومن ذلك الإمام المهدى أحمد بن يحيى المتوفى سنة 840 له البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار طبع مع تخريج أحاديثه فى خمسة أجزاء، وله أيضا كتاب
(1) كتاب (السلوك-النكت) للجندى ص 632.
(2)
العقود اللؤلؤية للخزرجى 1/ 155.
(3)
انظر تاريخ الأدب العربى لبروكلمان (الطبعة العربية) 3/ 323.
(4)
بروكلمان 3/ 328.
الأزهار فى فقه الأئمة الأخيار وصنع عليه شرحا سماه «الغيث المدرار» . وهناك كثيرون من علماء الزيدية، من الأمراء وغيرهم، تعمقوا فى الفقه الزيدى وألفوا فيه وحوله كتبا ومصنفات مختلفة، ومن طريف ما يذكر فى هذا الصدد أن أحد أمراء الزيدية فى القرن التاسع صنف رسالة استبعد فيها إمكان الاجتهاد حينئذ، فرد عليه محمد بن إبراهيم الوزير بكتابه «العواصم والقواصم» فى أربعة مجلدات، واختصره فى كتابه «الروض الباسم فى الذب عن سنة أبى القاسم» وهو مطبوع.
وبجانب هذا النشاط الفقهى فى اليمن كان هناك نشاط واسع فى علم الحديث، وهو يبدأ فى الحديث كما بدأ فى الفقه بمعمر بن راشد فله الجامع المشهور فى السنن، ونمضى بعده فى كتاب طبقات فقهاء اليمن فنجد لمحمد بن عبد الأعلى الصنعانى كتاب المنتقى فى السنن، وقلما يذكر فقيه إلا ويذكر معه أنه حمل عنه الحديث، وكثيرا ما يقول الجعدى عن هذا أو ذاك إنه سمع صحيح البخارى، أو سمع موطأ مالك أو جامع السنن للترمذى أو صحيح مسلم أو سنن أبى داود أو سنن النسائى. ومن حين لآخر نجد الجعدى ينعت الفقيه الذى يترجم له بأنه الحافظ المحدث، أو يقول سيف السنة. وبنفس النشاط فى هذه الرواية للحديث كانت بيئة الزيديين تنشط فى روايته وللإمام المنصور بالله المتوفى سنة 670 كتاب فى الحديث يسمى الشفاء، وللإمام القاسم المتوفى سنه 1029 فى الحديث كتاب الاعتصام.
وعنيت اليمن بالتفسير والقراءات كما عنيت بالحديث والفقه، وكان فيها من المفسرين قديما طاووس بن كيسان تلميذ ابن عباس. وهو باب هذه الحركة، ومضى اليمنيون بعده يعنون بكتب التفسير، حتى إذا ظهر تفسير الطبرى أقبلوا على تداوله، ولهم بحوث كثيرة تتصل بناسخ القرآن ومنسوخه وبشرح غريبه. ومر بنا نشاط الفيروزابادى لعهد الرسوليين فى هذا الاتجاه. ونجد الزيديين يعنون بالتفسير وكل ما يتصل به، وقد ذكر بروكلمان لإمامهم زيد مخطوطات مختلفة منها تفسير غريب القرآن المجيد، ومدخل إلى القرآن وتفسير لمواضع منه، وذكر للإمام الهادى مؤسس العقيدة فى اليمن تفسيرا لبعض سور الذكر الحكيم. ولأبى الفتح الديلمى المتوفى سنه 440 تفسير للقرآن المجيد، وللإمام المهدى محمد بن المطهر المتوفى سنة 728 كتاب عقود العقيان فى الناسخ والمنسوخ من القرآن. ولعل أروع تفسير صنفته اليمن فى عصورها جميعا على الإطلاق تفسير محمد (1)
(1) انظره فى كتابه البدر الطالع 2/ 214 وترجم له ابن زبارة فى كتابه (نيل الوطر من تراجم اليمن فى القرن الثالث عشر» وقال إنه أستاذه.
ابن على الشوكانى المتوفى سنة 1250 هـ/1834 م سماه «فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية فى التفسير» وكان قد بدأ حياته زيديا ونزع إلى الدعوة الوهابية، وهو يعد إماما مجتهدا، وله عشرات المصنفات فى الفقه والأصول وعلم الكلام واللغة.
واهتمت اليمن من قديم بالقراءات، ويشتهر من قرائها الأولين أبو قرة موسى بن طارق الذى حمل عن نافع أحد القراء السبعة قراءته التى كان يقرأ بها أهل المدينة، وأذاعها فى اليمن، ومن أعلام القراء هناك زيد (1) بن الحسن الفايشى المتوفى سنة 458 وكان عالما بعلوم كثيرة، منها التفسير. ومنها القراءات أخذها عن أبى معشر الطبرى بمكة، وكان شيخ الشافعية والفقهاء باليمن، وعليه تفقه يحيى بن أبى الخير المار ذكره. ومن أعلام القراء أيضا ممن ترجم لهم الجزرى فى طبقاته ابن شداد البرعى على بن أبى بكر الزبيدى شيخ القراء ببلاد اليمن، وكانت إقامته بزبيد أقرأ بها زمنا وأسمع الحديث، توفى سنة 770 وخلفه أحمد بن محمد الأشعرى العبدلى شيخ زبيد فى القراءات، ويقول ابن الجزرى: لما دخلت اليمن لازمنى كثيرا وسمع منى نصف كتاب النشر وكتبا أخرى، ويقول إنه أعطاه إجازة بالقراءات العشر (2). ومعروف نشاط ابن الجزرى فى القراءات، ولا شك أن اليمن أفادت منه كثيرا. وهذا النشاط فى القراءات كان يمتد ليشمل البيئة الزيدية وجميع البلدان اليمنية.
وعنيت اليمن فى هذا العصر بالمباحث الكلامية، وظلت عنايتها بها متصلة، وقد توزع فقهاءها من غير الزيديين منزعان: منزع أشعرى ومنزع أهل السنة، وكانت الكثرة تنزع المنزع السنى، ونجد ذلك واضحا فى تأليف الكتب التى تعنى بنقض آراء المعتزلة، مثل «كتاب الحروف السبعة فى الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الضلال والبدعة» للمراغى (3) ومثل كتاب يحيى بن أبى الخير الذى تحدثنا عنه آنفا بين الفقهاء، وقد جعل عنوانه:
«الانتصار فى الرد على المعتزلة القدرية الأشرار» وفى مقدمته أنه ألفه للرد على شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السلام، أحد علماء الزيدية، وكان قد ألف كتابا انتصر فيه لرأى المعتزلة بأن الناس يخلقون أفعالهم، وأيضا لرأيهم بأن القرآن مخلوق وغير ذلك من آرائهم. وحاول يحيى بن أبى الخير تفنيد آرائه الاعتزالية، إذ رد عليه برسالة ذكر فيها الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى التحذير من القدرية. ولم يكد يقرأ رسالته شمس
(1) راجع ترجمته فى طبقات فقهام اليمن ص 155 والسبكى 7/ 85.
(2)
غاية النهاية فى طبقات القراء لابن الجزرى 1/ 103.
(3)
طبقات فقهاء اليمن ص 83.
الدين حتى نقضها بكتاب سماه «الدامغ للباطل من مذهب الحنابل» فأثار حفيظة يحيى ابن أبى الخير، ورد عليه بهذا الكتاب ردا عنيفا، وأضاف إلى المعتزلة فى الكتاب الأشعرية وأجحف بهم، مما جعل الشريف العثمانى الأشعرى يناظره ويجادله فى مذهب الحنابلة أهل السنة (1).
ومعروف أن زيد بن على زين العابدين صاحب مذهب الزيدية ومؤسسه تتلمذ لواصل ابن عطاء رأس المعتزلة ولذلك كان الزيدية جميعا ينتظمون فى المعتزلة، مما جعل الاعتزال يستقر فى مباحثهم، كما جعلهم يكثرون من هذه المباحث، ومن يرجع إلى الجزء الثالث من تاريخ الأدب العربى لبروكلمان سيجد للقاسم بن إبراهيم الرسى جد الإمام الهادى مؤسس مذهب الزيدية فى اليمن كتاب أصول العدل والتوحيد ونفى الجبر والتشبيه، وكتاب الأصول الخمسة وقد كتب فيها القاضى عبد الجبار أكبر معتزلى فى نهاية القرن الرابع الهجرى شرحا مطولا، وللإمام الهادى كتاب المسترشد فى التوحيد، وللإمام المهدى المتوفى سنة 403 كتاب الأدلة على الله ومختصر فى التوحيد. وتتوالى كتب كلامية كثيرة فى بيئة الزيدية، من ذلك شرح القلائد فى علم الكلام للإمام المهدى أحمد بن يحيى المتوفى سنة 840 وكتاب الأساس فى علم الكلام للإمام القاسم المنصور بالله المتوفى سنة 1029.
ولم تؤلف هذه البيئة فى الاعتزال وحده، بل ألفت أيضا كتبا فى رجاله، وكتاب ابن المرتضى فى المعتزلة مشهور.
ولم تكن حضرموت بعيدة عن كل هذه الحركة الثقافية فى اليمن والحجاز، فقد كان طلاب العلم فيها والعلماء يفدون بصورة منتظمة على اليمن ومكة والمدينة لحمل العلم وتلقينه، ويلقانا منهم كثيرون فى كتب التراجم، وعادوا أو عادت كثرتهم إلى موطنهم فى تريم وشبام وغيرهما من بلدان حضرموت وسرعان ما أخذت فى تلقينه للشباب. وبذلك كان هناك تواصل منظم بين حضرموت والعلماء اليمنيين والمكيين، بل منهم من كان يرحل فى طلب العلم إلى بغداد وغير بغداد، ويعود محملا بالكتب وبالإجازات العلمية التى تتيح له روايتها ونشرها. ويقول الرواة إن مجلس الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعى اليمنى المتوفى سنه 514 كان يغصّ بالفقهاء من حضرموت (2)، ويذكر الجعدى من تلاميذ الفقيه يحيى بن أبى الخير الذى مر بنا فى الحديث عن فقهاء اليمن محمد (3) بن عبد الله الحضرمى من تريم حاضرة حضرموت وأيضا محمد بن مفلح الحضرمى وهو الذى طلب إليه تأليف كتابه
(1) طبقات فقهاء اليمن ص 179 - 180.
(2)
طبقات فقهاء اليمن ص 152.
(3)
نفس المصدر ص 203.
«استخراج المسائل المشكلة فى المهذب» لأبى إسحق الشيرازى وأجابه إلى طلبه (1).
ويذكر الجعدى من فقهاء حضرموت أبا زنيج وأبا جحوش وأبا أكدر قاضى تريم وقد جمع بين الفقه والقراءات السبع (2)، وفى كتاب الجعدى فقيهان من شبوة بحضرموت هما عيسى بن مفلح وأحمد (3) بن سليمان. ويقول المؤرخون إنه قتل كثير من فقهاء حضرموت وقرّائها فى الحملة التى وجهها نائب توران شاه من عدن إلى حضرموت. ويشيد السبكى بقطب (4) الدين الحضرمى شارح المهذب المتوفى سنة 676 ويقول «تفقه به خلائق» وله مصنفات كثيرة. وفى ذلك ما يدل على نشاط الفقهاء والقراء هناك. وكانوا يعنون إلى جانب ذلك بالحديث والتفسير. ويحدثنا السقاف فى كتابه تاريخ الشعراء الحضرميين عن فقهاء كثيرين ترجم لهم، نذكر منهم ابن عقبة المتوفى فى عدن سنة 695 وعلى بن أبى بكر السقاف المتوفى سنة 895 وعبد الله بن عمر بامخرمة المتوفى سنة 972 وعلى بن عبد الرحيم باكثير المتوفى سنة 1145 وعبد الله بن حسين بن طاهر المتوفى سنة 1272. وممن ذكرهم السقاف من المحدّثين عمر بن عبد الرحمن المتوفى بتعزّ فى سنة 889 وقد رحل إلى اليمن ومكة وكان يقرأ للناس الصحيحين، ومثله حسين بن عبد الله العيدروس المتوفى سنة 917. وكثيرا ما ينعت السقاف أشخاصا بأنهم محدثون. وممن نعتهم بأنهم مفسرون ومحدثون عبد الرحمن ابن على السقاف المتوفى سنة 923. ومن مقرئيها العظام محمد ابن إبراهيم بن أبى مشيرح الحضرمى المجاور بمكة مقرئ الحرمين صاحب كتاب المفيد فى القراءات الثمان، وقد أشاد به وبكتابه ابن الجزرى، وقال إنه توفى فى سنه 560 وإنه قرأ بكتابه المذكور على الشيوخ المصريين (5) وممن ذكرهم السقاف من المقرئين محمد بن عمر بن مبارك المتوفى سنة 922 وقال: له مختصر نهاية الناشرى فى القراءات وشرح الجزرية. ويذكر السقاف ممن عنوا بعلم الكلام شيخ بن عبد الله العيدروس المتوفى سنة 990 ويذكر له مصنفات فى علم التوحيد، وكان المقرئ محمد بن عمر بن مبارك يهتم بعلم الكلام وينهج منهج أهل السنة.
وهذه الصورة من النشاط العلمى لحضرموت هى صورة ظفار وعمان والبحرين، ونجد لظفار فقيها ينسب إلى مينائها مرباط هو مفتيها محمد بن على القلعى، ويقول الجعدى: له مصنفات حسنة، منها قواعد المهذب وغيره (6). ولا ريب فى أن النشاط العلمى فى دراسة
(1) طبقات فقهاء اليمن ص 179.
(2)
نفس المصدر ص 220.
(3)
طبقات فقهاء اليمن للجعدى ص 202.
(4)
طبقات الشافعية للسبكى 8/ 130.
(5)
انظر طبقات القراء لابن الجزرى 2/ 46 وكتابه: «النشر فى القراءات العشر 1/ 93.
(6)
الجعدى ص 220.
الفقه والحديث والتفسير والقراءات ظل محتدما فى عمان لزمن بنى مكرم وبنى نبهان، أما فى نزوى عاصمة الخوارج وحين أصبح لهم حكم عمان فى العصور المتأخرة فكانوا يعنون بالحديث وقراءات القرآن وتفسيره، وقد عنوا طويلا بمسند الربيع بن حبيب بن عمر الأزدى الإباضى المتوفى سنة 170 وهو أقدم كتب المساند المعروفة فى الحديث النبوى، وانصبّت عنايتهم الفقهية والكلامية على التأليف فى عقيدتهم الإباضية. وفرقتهم، كما قدمنا، أكثر فرق الخوارج اعتدالا، وأقربها إلى الجماعة، ونصب إمام المسلمين عندهم واجب، وتجب طاعته ما اتخذ الحق والعدل شعاره، فإن جار ولم يتب وجبت الثورة عليه، ومر بنا حديث عن عقيدتهم فى الفصل الماضى.
وكانت البحرين مثل عمان نشطة فى دراسة علوم الدين الحنيف، وكانت تدخل فى دائرة بغداد ومدن العراق مثل البصرة والكوفة، فكان طلابها وعلماؤها لا يزالون ذاهبين آيبين من العراق وإليه. وكان كثير من علماء العراق يرحل إلى البحرين، ويتخذها مقاما له وموطنا، وظلت هذه الصلة العلمية مستمرة حتى نهاية هذا العصر. وكانت علوم الشريعة مطروحة فى كل مسجد، وظلت حلقاتها قائمة، واشتهر كثير من الأسر بتوارثها للعلوم الشرعية واللغوية مثل آل عبد الجبار وآل عمران وآل عبد القادر وآل مبارك، وبرز من بينهم الشيخ سلمان آل عبد الجبار بأخرة من العصر وله مصنفات مختلفة فى المباحث الكلامية وشروح على تهذيب المنطق للتفتازانى وكتاب إيساغوجى (1) وشاع هناك مذهب مالك قبل دخول المذهب الحنبلى مع الوهابيين، وكانوا يعنون دائما برواية كتب الحديث وخاصة الصحاح الستة. ومنذ دخلت الأحساء فى المملكة السعودية سنة 1331 عمّت فيها كتب محمد بن عبد الوهاب وأهل السلف، غير أن هذا لا يدخل فى عصرنا إنما يدخل فى العصر الحديث.
ولم تكن نجد طوال هذا العصر غائبة عن الحركة العلمية العامة فى البلاد العربية، فقد كانت كتب الفقه والتفسير تدرس فى قرى نجد، وظل ذلك إلى الأزمنة المتأخرة، إذ نجد من ترجموا للشيخ محمد بن عبد الوهاب يذكرون أنه لزم الشيخ عبد الرحمن بن أحمد فى قريته تريم ست عشرة سنة، وأنه قرأ عليه فيها صحيحى البخارى ومسلم ومسند ابن حنبل وأنه تركه إلى الشيخ حسان التميمى فى قرى القصيم حيث تتلمذ عليه فى علم الفقه والتفسير سبع سنوات. ورحل بعد ذلك إلى المدينة وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى العراق
(1) ساحل الذهب الأسود لمحمد سعيد المسلم ص 238.