الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفضائل، استهل أولهما بقوله:
بمحمّد خطر المحامد يعظم
…
وعقود تيجان العقود تنظّم
وله الشفاعة والمقام الأعظم
…
يوم القلوب لدى الحناجر كظّم
فبحقّه صلّوا عليه وسلّموا
ويدور الشطر الأخير مع كل بيتين تاليين، وبذلك جعل المخمس صالحا لأن ينشده منشد وترد عليه جماعة بالشطر الخامس. وعلى شاكلة هذا المخمس مخمسه الثانى، وقد جعل الشطر المكرر فيه:«صلوا عليه وسلموا تسليما» . ونبوياته بحق رائعة وقد شغف بها المغنون الجوّالون فى اليمن يغنونها ويوقعون أشعارها على الطّارات أزمنة متطاولة.
عبد الرحمن العيدروس
(1)
حضرمى من بيت علم وفضل، ولد بمدينة تريم فى سنة 1136 هـ/1723 م، وبها نشأ فى رعاية أبيه وجده فحفظ القرآن الكريم وشدا العربية، وتفقه على الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه. وسافر مع أبيه إلى الهند، وكثرت رحلاته بعد ذلك، فقد عاد منها، بعد أن تزوّد من علمائها زادا حسنا. وذهب إلى مكة للحج وأخذ عن شيوخ الحجاز، وزار مصر سنة 1158 هـ/1745 وعاد إلى مكة وسكن الطائف، ثم زار مصر سنة 1162 هـ/1748 م فمكث بها عاما واحدا وعاد إلى الطائف، ثم رأى أخيرا أن يستوطن مصر فنزلها بأسرته سنة 1174 هـ/1760 م وفى أثناء استيطانه مصر زار دمشق سنة 1182 وزار الآستانة سنة 1191 وعاد إلى مصر وتوفى بها سنة 1192 هـ/1778 م ودفن فى مقام العتريس إلى جانب مسجد السيدة زينب. وكانت قد طارت شهرته بالصلاح والنسك فى حياته. وتعلق به شيوخ الطرق الصوفية. وله مصنفات كثيرة، تغلب عليه فيها النزعة الصوفية، ويذكرون له شرحا على بيتى ابن العربى:
إنما الكون خيال
…
وهو حقّ فى الحقيقه
كلّ من يفهم هذا
…
حاز أسرار الطريقه
وهو لا يغلو غلوه فى التصوف الفلسفى، فليس فى أشعاره حلول ولا اتحاد بالذات العلية ولا شعور بأن فيه قبسا من الحقيقة الإلهية ولا أنه ينعم برؤية النور الربانى. وحقا نجد
(1) انظر فى عبد الرحمن العيدروس وشعره تاريخ الجبرتى 2/ 27 وسلك الدرر للمرادى وتاريخ الشعراء الحضرميين 2/ 189 ونشر العرف لزيارة 2/ 50 وشعر الغناء الصنعانى ص 191 وديوانه تنميق الأسفار مطبوع بالقاهرة.
عنده بعض أحاديث عن الفناء وعن المحو والصّحو، ولكن لا تظن أنه يستغرق فى ذلك استغراق ابن عربى، أو حتى استغراق ابن الفارض، كأنه يلمّ بظاهر من ذلك دون توغل فيه، كما يلم بالخمر ونشوتها على طريقة الصوفيين، ولكن دون أن تسلبه حواسه على شاكلة قوله:
أنعشتنى خمرة للغير تمحو
…
فاعتلالى بالهوى القدسىّ شطح
عاذلى كن عاذرى أو عاذلى
…
أنا من خمر التجلّى لست أصحو
أنا فان والفنا عين البقا
…
فى رشا من دونه سيف ورمح
هام شخص القلب من خمر الفنا
…
فهو من تلك الحميّا ليس يصحو
أنا فى محو وصحو دائما
…
حيث لى فى مجمع البحرين سبح
وكل ما يمكن أن يقال عن تصوفه هو أن فكرة الفناء الصوفية وما يتصل بها من فكرة المحو حتى لتزول فى المتصوف جميع الصفات البشرية ليكون على استعداد لشهود ربه، وأيضا فكرة الصحو وأنه يظل له القرب والشهود للذات العلية دون سكر، كل ذلك نجد ظاهرا منه عند العيدروس، ولكن لا نجد حرارة ولا استغراقا فى لذة الفناء المسكرة كما يقول المتصوفة، ومن خير غزلياته غزلية يشدو بها اليمنيون ويتغنون بها إلى اليوم يستهلها بقوله:
شرح الدمع على متن الخدود
…
ما ألاقيه من الظّبى الشّرود
يا لقومى من غزال صادنى
…
وعجيب رشأ صاد الأسود
أهيف القامة فى وجنته
…
جنّة الخلد ونيران الخلود
غصن حسن قد سقى ماء البها
…
مثمرا-أضحى برمّان النّهود
وواضح أن هذا الغزل الإلهى لا يفترق فى شئ عن غزل الحب الإنسانى، حتى ليؤمن من يقرؤه لأول وهلة أنه غزل فى فتاة حقيقية صبت قلب العيدروس بجمالها المغرى. وكأنى به يتأثر فى هذا الغزل المادى بديوان ابن عربى:«ترجمان الأشواق» الذى يكتظ بالوصف الحسى لجمال محبوبته، حتى ليظن قارؤه أنه يتغزل غزلا إنسانيا، وهو إنما يرمز به إلى حبه الربانى. ويمضى العيدروس منشدا:
أيها الظّبى التفت نحو الحشا
…
أيها الشمس أزل نار الصدود
عطفة بالقدّ من هذا الجفا
…
وأبيك العطف من شأن القدود
كم أرى بارق وعد أومضا
…
قد مضى وقت المعنّى فى وعود
وصلاة الله تغشى المصطفى
…
ما تلالا البرق من أقصى النّجود
وهو يتمنى لفتة من الظبى الشرود أو قبسا من الشمس الهادية يطفئ غليل ظمئه،
ويأمل فى عطفة نحوه أو فى وصل طالما رأى بروق وعوده، وكأنه دائما فى هجر وفراق ومطل وبين وإنه ليتوسل إلى ربه ضارعا أن يمنحه القرب والشهود، وإنه ليشكو دائما من الضّنّ بالوصال، يقول:
أتسأل عن عينى لما هى تدمع
…
وجسمى نحيل والحشا يتقطّع
ولونى كئيب والفؤاد بحسرة
…
ومالى سهير الطّرف والقلب موجع
فما نالنى هذا سوى من فراق من
…
له النّور يبدو فى البقاع ويلمع
فهو دائم البكاء، حتى لقد شحب جسمه وضؤل، وحتى لقد تقطّعت أحشاؤه واكتأب لونه والتاع فؤاده، ودائما مسهّد الطرف ساهره، وقلبه مكتظ بالأوجاع واللوعات لهجر محبوبه الذى يملأ العالم بنوره، وهو ما ينى يذكره ويرسل دموعه، لعل محبوبه-كما يقول-يعطف عليه ويخلصه من عذاب الهجر وأوصابه ومن قوله:
ألهيتنى عن جهاتى
…
يا راحتى يا حياتى
ما ضرّ يا من سبانى
…
لوجدت لى بالتفات
بالله يا من رمانى
…
بأسهم صائبات
عطفا على الصّبّ عطفا
…
من قبل كأس الممات
وهو يصرّح فى الشطر الأول من هذه الأبيات بأنه لم يعد يشعر بمكانه ولا بما حول مكانه، وكأنما غاب عن وجوده، ونتأهب لكى يتحدث لنا عن وجوده الإنسانى وفنائه فى الوجود الربانى، وكأنما لم يعد له وجود ذاتى، أو كأنه يدخل عالم الفناء الصوفى أو عالم الشهود الإلهى، ولكنه لا يستمر فى بيان ذلك، وكأنه استعار الشطر من ابن عربى وأمثاله، ولم يفكر فى الشهود ولا فى الفناء. ولا نريد أن ننفى بذلك عنه صفة التصوف، فهو متصوف سنى، لا يتعمق فى تصوفه تعمقا من شأنه أن يجعله يتجرد من حواسه ومن وجوده ومن كيانه المادى. وله يائية يعارض بها يائية ابن الفارض يقول فى فواتحها:
صاحبى عرّج على نجد وحىّ
…
أهل حىّ لم يكن يحكيه حىّ
وهو إنما يعارض بيائيته ظاهرا من يائية ابن الفارض، فليس عند وجده ولا التياعه ولا مجاهداته فى الوصول إلى مرتبة الشهود ولا شغفه بالجمال المطلق وفيوضاته الإلهية. لم يكن العيدروس يتعمق فى تصوفه هذا التعمق، فتصوفه إنما كان تصوفا سطحيا نجد عنده لغة الصوفية ومصطلحاتهم ولكن دون حرارة ودون وله جارف.