المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - الشعر العربى على كل لسان - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٥

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌القسم الأولالجزيرة العربيّة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - أقاليم ودول وإمارات

- ‌اليمن ودولها

- ‌ حضرموت وظفار وتاريخهما

- ‌عمان وأمراؤها

- ‌البحرين ودولها

- ‌2 - المجتمع

- ‌3 - التشيع

- ‌4 - الخوارج: الإباضية

- ‌5 - الدعوة الوهابية السلفية

- ‌6 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل

- ‌علم الملاحة البحرية

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ القاسم بن هتيمل

- ‌أحمد بن سعيد الخروصىّ الستالىّ

- ‌علىّ بن المقرّب العيونى

- ‌عبد الصمد بن عبد الله باكثير

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌ التهامى

- ‌جعفر الخطّى

- ‌5 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ نشوان بن سعيد الحميرى

- ‌سليمان النبهانى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن القم

- ‌السلطان الخطّاب

- ‌عمارة اليمنى

- ‌2 - شعراء الدعوة الزيدية

- ‌يحيى بن يوسف النّشو

- ‌موسى بن يحيى بهران

- ‌على بن محمد العنسىّ

- ‌3 - شعراء الخوارج

- ‌أبو إسحق الحضرمىّ

- ‌ابن الهبينى

- ‌4 - شعراء الدعوة الوهابية السلفية

- ‌ محمد بن إسماعيل الحسنى الصنعانى

- ‌ابن مشرف الأحسائى

- ‌5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌عبد الرحيم البرعى

- ‌عبد الرحمن العيدروس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وأنواعه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - رسائل ديوانية

- ‌3 - رسائل شخصية

- ‌4 - مواعظ وخطب دينية

- ‌5 - محاورات ورسائل فكاهية ومقامات

- ‌القسم الثانىالعراق

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون

- ‌2 - الدول: المغولية والتركمانية والصفوية والعثمانية

- ‌الدولة المغولية الإيلخانية

- ‌الدولة الصفوية

- ‌الدولة العثمانية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - كثرة الشعراء

- ‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ المتنبى

- ‌ سبط ابن التعاويذى

- ‌ صفى الدين الحلى

- ‌4 - شعراء المراثى والهجاء والشكوى

- ‌ السرى الرفاء

- ‌5 - شعراء التشيع

- ‌ الشريف الرضى

- ‌مهيار

- ‌ابن أبى الحديد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن المعلم

- ‌الحاجرى

- ‌التّلعفرىّ

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ ابن سكرة

- ‌ابن الحجّاج

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن السّراج البغدادى

- ‌المرتضى الشّهر زورىّ

- ‌الصّرصرىّ

- ‌4 - شعراء الفلسفة والشعر التعليمى

- ‌ ابن الشّبل البغدادى

- ‌ابن الهبّاريّة

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌الأحنف العكبرى

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع النثر:

- ‌2 - كتّاب الرسائل الديوانية

- ‌5 - الحريرى

- ‌القسم الثالثإيران

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - دول متقابلة

- ‌الدولة السامانية

- ‌الدولة البويهيّة

- ‌الدولة الزّياريّة

- ‌الدولة الغزنوية

- ‌2 - دول متعاقبة

- ‌دولة السلاجقة

- ‌الدولة الخوارزمية

- ‌الدولة المغولية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ على بن عبد العزيز الجرجانى

- ‌الطّغرائىّ

- ‌الأرّجانى

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌5 - شعراء الهجاء والفخر والشكوى

- ‌الأبيوردىّ

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ أبو بكر القهستانى

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ عبد الكريم القشيرى

- ‌ يحيى السهروردى

- ‌4 - شعراء الحكمة والفلسفة

- ‌ أبو الفضل السكرى المروزى

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌أبو دلف الخزرجى: مسعر بن مهلهل

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - كتّاب الرسائل

- ‌قابوس بن وشمكير

- ‌رشيد الدين الوطواط

- ‌3 - ابن العميد

- ‌خاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

‌الفصل الثالث

نشاط الشعر والشعراء

‌1 - الشعر العربى على كل لسان

رأينا فى حديثنا عن الحياة السياسية لإيران أنها أخذت تستشعر منذ القرن الثالث الهجرى نزعة قومية قوية كان من آثارها فى أوائل هذا العصر أن تقابلت دويلات وإمارت فارسية كثيرة على رقعة إيران الفسيحة، فكان البويهيون فى الوسط والجنوب ومدوا أجنحتهم حتى شملت بغداد والعراق. وكان الزياريون فى الشمال بطبرستان وجرجان، وكان السامانيون فى خراسان، وبذلك كانت إمارتهم أبعد الإمارات عن حاضرة اللغة العربية والخلافة الإسلامية: بغداد، وتليها إمارة الزياريين فى البعد. وهيأ ذلك للإمارتين جميعا أن تعملا على إحياء اللغة الفارسية الأدبية. وكان السامانيون أسبق إلى ذلك، لأن إمارتهم أسبق فى التاريخ، ولأنهم ورثوا إمارة الطاهريين التى سبقتهم منذ عصر المأمون، إذ منح طاهر بن الحسين قائده المشهور خراسان طعمة له ولبنيه، فاستقلوا بها مبكرين، وكانت أول الإمارات الفارسية فى الظهور والنشأة، فساعد ذلك أهلها على أن يكونوا السابقين فى استشعار القومية الفارسية والعمل على استظهار شعر فارسى لهم ينافسون به الشعر العربى. وكذلك الشأن فى إمارة الصفّاريين التى عاصرتها، ويذكر مؤرخو الشعر الإيرانى عادة بعض أسماء الشعراء الذين عرفهم القرن الثالث الهجرى، واتخذوا الفارسية لسانا لهم، يعبرون بها عن مشاعرهم، وغير قليل منهم يلفّه ضباب الأساطير، وأول شاعر معروف حقا هو الرودكى السمرقندى جعفر بن محمد المتوفى سنة 329 للهجرة وكان يتغنى بمديح السامانيين ووزيرهم البلعمى مترجم تاريخ الطبرى إلى الفارسية، ويقال إن هذا الشاعر ترجم من العربية كليلة ودمنة شعرا فارسيا، غير أن ترجمته سقطت من يد الزمن.

وخلفه الدقيقى الطوسى المتوفى سنة 367 وهو بدوره من شعراء الدولة السامانية، واشتهر بأنه اعتزم نظم الشاهنامه فى تاريخ ملوك الفرس وأبطالهم وأساطيرهم القديمة وأنه نظم منها

ص: 562

ألف بيت، ثم حال الموت بينه وبين إكمالها، فأكملها من بعده الفردوسى فى عهد محمود الغزنوى.

ولم يهتم البويهيون أى اهتمام بهذا الاتجاه القومى فى إحياء الآداب الفارسية، فقد آثروا الانضواء تحت لواء الثقافة العربية الخالصة، وكثير منهم أتقنوا العربية، حتى اتخذوها لسانهم للتعبير عن عواطفهم وأهوائهم، مما جعل الثعالبى يترجم لطائفة كبيرة منهم بين شعراء العربية فى إيران. وكان وزراؤهم من كبار الأدباء وفى مقدمتهم ابن العميد والصاحب بن عباد المشهوران بأشعارهما وكتاباتهما فى العربية. ومع أنه يقال إنه وفد على الصاحب شاعران قدّما له مدائحهما بالفارسية، وهما منصور بن على الرازى الملقب بالمنطقى ومحمد بن على السّرخسى الملقب بالكسروى، غير أن ذلك يعدّ شذوذا فى بيئة البويهيين، فقد كانت بيئة عربية خالصة، وكان مثل هذين الشاعرين يعدّان طارئين عليها. وبالعكس عنيت الدولة الغزنوية، وخاصة فى عهد محمود الغزنوى (388 - 421 هـ) بالعمل على إحياء الآداب الفارسية، مع أن هذه الدولة ترجع إلى أصول تركية. وفى عهد محمود أنجز الفردوسى نظم الشاهنامه فى نحو ستين ألف بيت من الشعر الفارسى (1)، وكان الفرّخى والعنصرى والعسجدى ومنوجهرى يتبارون فى تمجيد فتوحه ومديح أبنائه. وخلفت كل هذه الإمارات السالفة فى إيران الدولة السلجوقية، وفى عهدها أخذ الشعراء الإيرانيون من أمثال أبى سعيد بن أبى الخير وسنائى وفريد الدين العطار وعمر الخيام والأنورى يتجهون نحو التصوف. وتعم هذه الموجة شعراء إيران فى القرون التالية من أمثال الشيخ سعدى الشيرازى وجلال الدين الرومى وحافظ الشيرازى وعبد الرحمن الجامى.

وينبغى أن نعرف أن نشاط هذا الشعر الفارسى وأصحابه لم يكن يقاس فى شئ إلى نشاط الشعر العربى فى إيران وأصحابه طوال القرون الهجرية: الرابع والخامس والسادس.

وأكبر دليل على ذلك أنه بينما ألّفت المجلدات الضخام عن الشعر العربى فى تلك القرون على نحو ما تصوّر ذلك مجلدات اليتيمة ودمية القصر والخريدة لم يؤلف عن الشعر الفارسى كتاب يضم بين دفّنيه شعراؤه، وأول كتاب عنى بهم هو كتاب لباب الألباب لعوفى المؤلف فى أوائل القرن السابع الهجرى. ومعنى ذلك أنهم كانوا حتى هذا التاريخ قلة قليلة بالقياس إلى شعراء العربية، ولو أن الفتح المغولى لم يحدث فى هذا القرن لظل الشعر العربى هو المسيطر على روح الجماعة الإيرانية، ومع ذلك فقد ظل أشواطا من التاريخ والزمن، على الرغم

(1) ترجمت الشاهنامة بمصر فى العصر الأيوبى، ترجمها أبو الفتح البندارى، ونشر ترجمته فى القاهرة الدكتور عبد الوهاب عزام.

ص: 563

من الخراب الذى رافق المغول والذى عمّ إيران، فقد حرقوا ودمّروا كل ما صادفهم من حضارة، وكانت الحضارة العربية هى التى تسود فى كل تلك الديار، وكان يسود معها الشعر والعلم العربيان، فتراجعت تلك الحضارة أمام السيول المغولية وأمام ما أنزل بها جنكز خان وهولاكو من تدمير، حتى لقد كانا يحرقان المكتبات. أما المدن فقد أنزلا بها خرابا لا مثيل له فى التاريخ،

وما أنزل هولاكو ببغداد من دمار معروف مشهور. وكان ذلك كله ضربة قاصمة للحضارة العربية فى إيران وبالتالى للشعر والعلم العربيين، ومع ذلك فقد ظل العلم العربى حيا وبالمثل الشعر، وإن فقدا كثيرا من نشاطهما الهائل القديم. ولابد أن نعرف أن لغة العلم فى إيران ظلت حتى القرن العاشر الهجرى هى العربية، فبها كان يكتب علماؤهم وفلاسفتهم من أمثال ابن سينا والبيرونى فى القرن الخامس والزمخشرى والفخر الرازى فى القرن السادس ونصير الدين الطوسى والكاتبى القزوينى المعروف بدبيران فى القرن السابع. وسعد الدين التفتازانى وعضد الدين الإيجى فى القرن الثامن والسيد الشريف الجرجانى فى القرن التاسع. ففى كل هذه القرون-وخاصة حتى القرن السابع-لم تستطع الفارسية أن تستولى تماما على ألسنة العلماء الإيرانيين، حقا قد يكتب العالم بها رسالة أو يترجم بها عملا من أعماله، كما حدث أحيانا عند ابن سينا والبيرونى، ولكن تظل العربية لغته الأساسية التى يذيع بها كتبه ومعارفه، ومرجع ذلك إلى أن العربية كانت تفوق الفارسية فى القدرة على التعبير العلمى بفضل ما تتسم به من مرونة فى الاشتقاقات، وأيضا لأنها كانت قد أصبحت فعلا لغة علمية، تزخر بمصطلحات العلم، فكان من الصعب أن تحل الفارسية محلها، ويصوّر ذلك البيرونى قائلا:«إلى لسان العرب نقلت العلوم فى أقطار العالم، فازدانت وحلت إلى الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها فى الشرايين والأوردة. . والهجو بالعربية أحب إلىّ من المدح بالفارسية. ويعرف مصداق قولى من تأمل كتاب علم قد نقل إلى الفارسية. [فسيرى أنه] قد ذهب رونقه، وكسف باله، واسودّ وجهه، وزال الانتفاع به إذ لا تصلح هذه اللغة [الفارسية] إلا للأخبار الكسروية والأسحار الليلية (1)» .

وظل هذا الشعور ماثلا فى نفوس كثيرين من العلماء الإيرانيين حتى القرن العاشر الهجرى، فكانوا يشبّون فى مهاد العربية وينهلون من ينابيعها الأدبية، بل إننا نجد ذلك نفسه عاما بين الشعراء الذين اتخذوا الفارسية لسانا لهم منذ الرودكى، ولذلك مظهر عام

(1) انظر كتاب الأدب الفارسى فى العصر الغزنوى للدكتور على الشابى (طبع تونس) ص 338 نقلا عن كتاب الصيدلة للبيرونى.

ص: 564

عنده وعند غيره ممن جاءوا بعده من شعراء الفارسية، فإن الألفاظ العربية تكثر فى أشعارهم، بل لذلك مظهر أبعد عمقا وغورا، فإن ضروب النظم التى صاغوا فيها أشعارهم ضروب عربية، بل قل كل عروض الأشعار عندهم من نفس عروض الشعر العربى ومادة تفاعيله وأوزانه.

وقد اشتهرت عندهم طائفة من ضروب النظم العربى وأنماطه أولها المثنوىّ، وهو نفس الضرب المعروف فى العربية باسم المزدوج الذى أخذ يشيع-كما مر بنا فى كتاب العصر العباسى الأول-منذ بشار، وأشاعه بعده أبان بن عبد الحميد فى ترجمة كليلة ودمنة وما نظم من الشعر التعليمى (1)، وفيه تختلف القافية من بيت إلى بيت فى حين تتحد فى الشطرين المتقابلين، وقد اختاره الفردوسى لشاهنامته والتزم فيه وزن المتقارب.

والضرب الثانى القصيدة، وموضوعها ونسقها لا يختلف فى شئ عن موضوع القصيدة العربية، فقد يكون مديحا أو هجاء أو دينا أو فلسفة.

والضرب الثالث الغزل، وموضوعه غزلى أو صوفى وأبياته لا تزيد عن اثنى عشر بيتا إلا فى النادر، وهو بذلك المعروف فى العربية باسم المقطعات الغزلية.

والضرب الرابع الرباعيات، وهى تتألف من أربعة شطور، يتفق أولها وثانيها ورابعها فى قافية واحدة، أما الشطر الثالث فقد يختم بنفس القافية وقد لا يختم وهو بدوره نمط عربى ظهر عند بشار وأبى نواس وأبى العتاهية (2)، وكل ما للفرس أنهم مع الزمن التزموا فيه وزنين خاصين سبق أن تحدثنا عنهما فى قسم العراق.

والضرب الخامس المسمّط، وهو يتألف من أدوار وكل دور يتكوّن من أربعة شطور أو أكثر، وتتفق شطور كل دور فى قافية واحدة، ما عدا الشطر الأخير فإنه يستقل بقافية يتحد فيها مع الشطور الأخيرة فى الأدوار المختلفة، وقد أخذ هذا الضرب يشيع فى العربية منذ أبى نؤاس قبل نشأة الشعر الفارسى الحديث.

ومعنى ذلك أن الشعر الفارسى الذى أخذ ينظمه شعراء الفرس بإيران منذ القرن الثالث الهجرى فصل عن الشعر العربى كما يفصل الرضيع عن أمه، بل لقد ظل الشعر العربى يغذّيه طوال القرون التالية، ولذلك مظاهر مختلفة فيه، فإن موضوعاته من مديح وغير مديح هى نفس موضوعات الشعر العربى، وإذا أخذنا موضوعا مثل المديح وجدناه ينظم بنفس الصورة العربية، فللمدحة مقدمة من النسيب ومن وصف الطبيعة، وكأننا نقرأ مدحة

(1) العصر العباسى الأول (طبع دار المعارف) ص 196 وما بعدها.

(2)

العصر العباسى الأول ص 197.

ص: 565

عربية مترجمة على نحو ما يتضح عند شعراء الدولة الغزنوية: منوجهرى والعسجدى والعنصرى والفرّخى. ونما عندهم-على نحو ما هو معروف-شعر التصوف، ولكنه يتغذى فى نشوئه ونموه جميعا بشعر التصوف العربى عند الحلاج وأضرابه من القدماء وعند ابن العربى وابن الفارض والسّهرورديّين. ولا يوجد شاعر صوفى من فريد الدين العطار إلى عبد الرحمن الجامى إلا وهو يحسن العربية ويتربى ثقافيا فى مهادها، ولذلك دائما نجد لشعرائهم الصوفيين شعرا عربيا، وهو يقل عند بعضهم حقا، ولكنه على كل حال يرمز فى قوة إلى هذا التواصل الوثيق (1) بين شعراء الفارسية وشعراء العربية. وشاعت بينهم طريقة هى أن يقتبسوا فى بعض منظوماتهم شطورا أو أبياتا عربية، ويسمون ذلك الملمّع، فالشطر أو البيت العربى يلمع فى المنظومة كما تلمع المنارة وتتألق. ويكثر عندهم وراء هذه الشطور والأبيات أن يضمنوا كثيرا من أبيات منظوماتهم معانى أبيات عربية، فضلا عما يضمنونها من الآيات القرآنية والأحادث النبوية. وللدكتور حسين محفوظ بحث طريف بعنوان «متنبّى وسعدى» طبعه فى طهران، وفيه يذكر آيات الذكر الحكيم فى شعر سعدى الشّيرازى، وتشغل من البحث نحو عشرين صحيفة، ويتلوها ما استظهره سعدى من الأحاديث النبوية فى نحو ثلاثين صحيفة، ويعرض تضمينه لمعانى أبيات الشعر العربى فى أشعاره فى نحو خمسين صحيفة، وهى أبيات تمتد من العصر الجاهلى إلى العصر العباسى مصوّرة بقوة ثقافة سعدى الشّيرازى بالشعر العربى على مر العصور، ويلى ذلك تضمين سعدى أشعاره معانى أبيات المتنبى فى نحو خمسين صحيفة. وبجانب ذلك يذكر أشعار سعدى العربية الخالصة. وسعدى أو الشيخ سعدى هو أحد ثلاثة يعدّون أنبه شعراء الفرس فى تلك الحقب، والاثنان الآخران جلال الدين الرومى وحافظ الشيرازى، بل ربما كان هو أكثر الثلاثة شعبية ومحبة بين أبناء قومه. فإذا قلنا إن الشعر الفارسى كان دائم الاتجاه إلى الشعر العربى، وكان هذا الشعر دائما يقع منه موقع البوصلة أو موقع الإبرة المغناطيسية يجذبه إليه فى قوة لم نكن مغالين.

وليس هذا كل ما يلاحظ من ولاء الشعر الفارسى للشعر العربى فى تلك القرون، فإننا نجد أصحابه يعنون منذ نشأته بمصطلحات البديع التى أخذت تتزايد وتتراكم بين شعراء العربية فى إيران وغير إيران، وأكبر مثل يوضح ذلك «كتاب حدائق السحر فى دقائق الشعر» لرشيد الدين الوطواط المتوفى سنة 573 للهجرة، وقد أورد فيه ستة وخمسين فنّا

(1) من يرجع إلى كتابات الثعالبى والباخرزى يعرف أن هذا التواصل قديم فقد كان كثير من الشعراء بحسن اللسانين وينظم بهما. انظر اليتيمة 4/ 88 ودمية القصر 2/ 260، 280، 344، 362.

ص: 566

من فنون البديع، ونراه فى كل فن يذكر أمثلة من الشعر العربى وأمثلة أخرى من الشعر الفارسى تحاكيها جرت على ألسنة الرودكى والعنصرى والفرّخى والعسجدى ومنوجهرى والمنطقى وأضرابهم، وكان شعراء الفرس لم يتركوا لشعراء العربية فنا إلا حاكوه فيه، مهما يكن معقدا أو شديد التكلف، فمن ذلك تقليدهم «لزوم ما لا يلزم» فى القافية بحيث يلتزم فيها الشاعر حرفا قبل حرف الروى، وتقليدهم الأبيات التى يمكن بحذف أجزاء أخيرة منها أن تقرأ على وزنين، ومن ذلك المقطّع وهو أن يورد الشاعر بيتا لا تتصل حروف كلماته فى الكتابة، والموصّل وهو أن يقول الشاعر بيتا لا تقبل كلماته التقطيع فى الكتابة، والأرقط وهو البيت الذى يتوالى فيه حرف منقوط وحرف غير منقوط بالتعاقب، والأخيف وهو الذى تتوالى الكلمات فيه كلمة منقوطة وكلمة غير منقوطة. وقد أنشدنا أمثلة من هذه الصور المتكلفة فى قسم العراق ومن ذلك استخدامهم كثيرا اللغز، والتضمين، والتقسيم، وحسن التعليل، والمثل.

ولعل فى هذا ما يوضح كيف أن الشعر الفارسى كان يتبع خطوات الشعر العربى الماضى والمعاصر له خطوة خطوة، يتبعه فى الصياغة والسمات ويحاكيه محاكاة دقيقة وكان الشعر العربى هو الأكثر شيوعا، وهو الذى يدور على كل لسان، أما فى القرون الرابع والخامس والسادس فليس فى ذلك شك، حتى لنرى كثيرين ممن كانوا ينظمون بالعربية والفارسية من الشعراء إنما يشتهرون بشعرهم العربى، مثل بديع الزمان الهمذانى إذ تروى له بعض أبيات فارسية بينما له ديوان بالعربية، وبالمثل أبو الفتح البستى، إذ يقول الرواة إنه كان ينظم بالفارسية. ولكن هذا النظم ضاع، وبقى له ديوانه العربى، ومثلهما الباخرزى ضاع شعره الفارسى إلا ما احتفظ به محمد عوفى فى كتابه اللباب، وظل ديوانه العربى تتناقله الأجيال حينا من الدهر. ومنذ حروب المغول وتخريبهم لإيران انعكست الحال، فكثر من ينظمون بالفارسية، وأصبح المعوّل فى شهرة الشاعر على ما ينظمه بتلك اللغة، كما هو الشأن فى سعدى الشيرازى الذى مرّ بنا حديث عنه، أما قبل ذلك فكان الشعر العربى هو الأكثر ذيوعا، وكأنه العملة الشعبية المتداولة فى بيئات المثقفين جميعا، فالفلاسفة والعلماء ينظمونه كما ينظمه الكتاب، غير من كان ينظمه من الشعراء، ويعدّون بالمئات.

ص: 567