المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - رسائل ديوانية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٥

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌القسم الأولالجزيرة العربيّة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - أقاليم ودول وإمارات

- ‌اليمن ودولها

- ‌ حضرموت وظفار وتاريخهما

- ‌عمان وأمراؤها

- ‌البحرين ودولها

- ‌2 - المجتمع

- ‌3 - التشيع

- ‌4 - الخوارج: الإباضية

- ‌5 - الدعوة الوهابية السلفية

- ‌6 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل

- ‌علم الملاحة البحرية

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ القاسم بن هتيمل

- ‌أحمد بن سعيد الخروصىّ الستالىّ

- ‌علىّ بن المقرّب العيونى

- ‌عبد الصمد بن عبد الله باكثير

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌ التهامى

- ‌جعفر الخطّى

- ‌5 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ نشوان بن سعيد الحميرى

- ‌سليمان النبهانى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن القم

- ‌السلطان الخطّاب

- ‌عمارة اليمنى

- ‌2 - شعراء الدعوة الزيدية

- ‌يحيى بن يوسف النّشو

- ‌موسى بن يحيى بهران

- ‌على بن محمد العنسىّ

- ‌3 - شعراء الخوارج

- ‌أبو إسحق الحضرمىّ

- ‌ابن الهبينى

- ‌4 - شعراء الدعوة الوهابية السلفية

- ‌ محمد بن إسماعيل الحسنى الصنعانى

- ‌ابن مشرف الأحسائى

- ‌5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌عبد الرحيم البرعى

- ‌عبد الرحمن العيدروس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وأنواعه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - رسائل ديوانية

- ‌3 - رسائل شخصية

- ‌4 - مواعظ وخطب دينية

- ‌5 - محاورات ورسائل فكاهية ومقامات

- ‌القسم الثانىالعراق

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون

- ‌2 - الدول: المغولية والتركمانية والصفوية والعثمانية

- ‌الدولة المغولية الإيلخانية

- ‌الدولة الصفوية

- ‌الدولة العثمانية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - كثرة الشعراء

- ‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ المتنبى

- ‌ سبط ابن التعاويذى

- ‌ صفى الدين الحلى

- ‌4 - شعراء المراثى والهجاء والشكوى

- ‌ السرى الرفاء

- ‌5 - شعراء التشيع

- ‌ الشريف الرضى

- ‌مهيار

- ‌ابن أبى الحديد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن المعلم

- ‌الحاجرى

- ‌التّلعفرىّ

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ ابن سكرة

- ‌ابن الحجّاج

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن السّراج البغدادى

- ‌المرتضى الشّهر زورىّ

- ‌الصّرصرىّ

- ‌4 - شعراء الفلسفة والشعر التعليمى

- ‌ ابن الشّبل البغدادى

- ‌ابن الهبّاريّة

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌الأحنف العكبرى

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع النثر:

- ‌2 - كتّاب الرسائل الديوانية

- ‌5 - الحريرى

- ‌القسم الثالثإيران

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - دول متقابلة

- ‌الدولة السامانية

- ‌الدولة البويهيّة

- ‌الدولة الزّياريّة

- ‌الدولة الغزنوية

- ‌2 - دول متعاقبة

- ‌دولة السلاجقة

- ‌الدولة الخوارزمية

- ‌الدولة المغولية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ على بن عبد العزيز الجرجانى

- ‌الطّغرائىّ

- ‌الأرّجانى

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌5 - شعراء الهجاء والفخر والشكوى

- ‌الأبيوردىّ

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ أبو بكر القهستانى

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ عبد الكريم القشيرى

- ‌ يحيى السهروردى

- ‌4 - شعراء الحكمة والفلسفة

- ‌ أبو الفضل السكرى المروزى

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌أبو دلف الخزرجى: مسعر بن مهلهل

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - كتّاب الرسائل

- ‌قابوس بن وشمكير

- ‌رشيد الدين الوطواط

- ‌3 - ابن العميد

- ‌خاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌2 - رسائل ديوانية

مسجوع (1). وقلما يورد نور الدين السالمى فى كتابه «تحفة الأعيان» شيئا من رسائل بنى مكرم الشيعة الإماميين الذين حكموا مدينة عمان من سنة 390 إلى سنة 442 وكذلك قلما يورد شيئا من رسائل بنى نبهان السنيين الذين حكموها من القرن السادس الهجرى إلى القرن التاسع.

حتى إذا رجع الحكم بعدهم إلى أئمة الإباضيين أخذ يورد رسائلهم، وهى رسائل منمقة إذ يغلب عليها السجع والترصيع. ويشيع هذا الترصيع والسجع فى رسائل موجهة من بعض شيوخ الخوارج إلى أئمتهم فى شكل نصائح ووصايا أو موجهة إليهم من بعض أشياعهم أو من أهل نزوى ابتغاء إحقاق العدل ونشر الرأفة والعفو عند المقدرة.

وليس بين أيدينا نشاط كتابى كثير لأهل البحرين، غير أننا نجد فى صبح الأعشى فى رسم المكاتبة إليهم فصلا (2) طريفا مما يدل على تبادل الرسائل بينهم وبين حكام مصر وخاصة فى عهد المماليك. ودوّن ابن معصوم فى كتابه «سلافة العصر» بعض رسائل شخصية لأدبائها. وفى كتاب شعراء هجر من القرن الثانى عشر إلى القرن الرابع عشر بعض رسائل أخرى. وجميعها يشيع فيها السجع وقد يسود بعضها تصنع شديد.

‌2 - رسائل ديوانية

مرّ بنا أن الرسائل الديوانية بين المدينتين المقدستين بالحجاز وبين مصر كانت متصلة فى العصرين الأيوبى والمملوكى بل لا شك فى أن تاريخها يرجع إلى ما قبل ذلك فى العصر الفاطمى، غير أن ما بقى من هذه الرسائل فى المصادر التاريخية وغيرها قليل جداّ من ذلك ما كتب به الظاهر بيبرس إلى أبى نمىّ أمير مكة سنة 675 يزجره عن الظلم (3):

«من بيبرس سلطان مصر إلى الشريف الحسيب النسيب أبى نمىّ محمد بن أبى سعد:

أما بعد فإن الحسنة فى نفسها حسنة، وهى من بيت النبوة أحسن، والسيئة فى نفسها سيئة، وهى من بيت النبوة أو حش. وقد بلغنى عنك أيها السيد: أنك آويت المجرم، واستحللت دم المحرم، ومن يهن الله فما له من مكرم، فإن لم تقف عند حدك، وإلا أغمدنا فيك سيف جدك، والسلام». فكتب إليه أبو نمىّ:

«من محمد بن أبى سعد إلى بيبرس سلطان مصر: أما بعد فإن المملوك معترف بذنبه،

(1) التحفة 1/ 295.

(2)

صبح الأعشى 7/ 370.

(3)

العقد الثمين 1/ 465.

ص: 206

تائب إلى ربه، فإن تأخذ فيدك الأقوى، وإن تعف فهو أقرب للتقوى. والسلام».

وكان سلاطين المماليك حين يتوقعون من أحد أمراء المدينتين المقدستين اعوجاجا فى حكمه أو جورا يأخذون عليه العهود والأيمان أن يسير مسيرة قويمة ملتزما فيها بما عاهدهم عليه من شأن رعية بلدته وشأن الحجيج، مع ذكرهم فى الخطبة، ومع ضرب السكة أو النقود بأسمائهم، وفيما يلى عهد أبى نمىّ للسلطان قلاوون سنة 681 أن ينفذ السياسة المرسومة له وهو يمضى على هذا النمط (1):

«أخلصت يقينى وأصفيت طويّتى وساويت بين باطنى وظاهرى فى طاعة مولانا السلطان الملك المنصور (قلاوون) وولده السلطان الملك الصالح وطاعة أولادهما. . وإنى عدوّ لمن عاداهم، صديق لمن صادقهم، حرب لمن حاربهم، سلم لمن سالمهم. . وإننى ألتزم ما اشترطته لمولانا السلطان وولده فى أمر الكسوة الشريفة المنصورية الواصلة من مصر المحروسة وتعليقها على الكعبة المشرّفة فى كل موسم وأن لا يتقدم علمه علم غيره، وإننى أسبّل زيارة البيت الحرام أيام مواسم الحج وغيرها للزائرين والطائفين والبادين والعاكفين اللائذين بحرمه والحاجّين والواقفين، وإننى أجتهد فى حراستهم من كل عاد بفعله وقوله، وإننى أؤمنهم فى شربهم، وأعذب لهم مناهل شربهم، وأننى أستمر-والله-بتفرد الخطبة والسكة بالاسم الشريف المنصورى، وأفعل فى الخدمة فعل المخلص الولى. وإننى-والله- أمتثل مراسيمه امتثال النائب للمستنيب، وأكون لداعى أمره أول سميع مجيب» .

وواضح أن أبا نمى لم يستخدم فى هذا العهد السجع كما استخدمه فى الخطاب الذى رد به على بيبرس، وكأنه عنى هنا بالمضمون أكثر من عنايته بالأسلوب، ولذلك لم يستخدم السجع، أو لعل الخطاب السابق من صنع كاتب الإنشاء لعهده، أما العهد فمن صنعه هو وإملائه، ولذلك جاء خاليا من التنميق.

والرسائل الديوانية فى اليمن كثيرة منذ الدولة الصليحية، ومن أبلغها بيانا رسالة الحسين ابن على بن القمّ كاتب الإنشاء للدولة الصليحية على لسان الملك المكرم أحمد بن على الصّليحى سنة 460 وهى موجهة إلى الخليفة المستنصر الفاطمى يخبره فيها باغتيال سعيد بن نجاح وأخيه جياش لعلى بن محمد الصليحى فى طريقه إلى الحج فى ذى القعدة لسنة 459 وما كان من استرداد هما لزبيد وكيف مضى الملك المكرم يستعد للأخذ بثأر أبيه، مما مكنه أن ينقضّ على آل نجاح فى السنة التالية، ويسحق جموعهم. ويفتك بسعيد ويهرب أخوه جياش إلى الهند، وتدخل زبيد فى طاعته. ويصور ابن القمّ فى الرسالة انتصارات الملك

(1) العقد الثمين 1/ 462.

ص: 207

المكرم على جيوش الزيدية والخارجين وكيف محقها محقا. والرسالة تفتتح بالبسملة والحمد لله والصلاة على رسوله، ويتوالى الثناء على الخلفاء الفاطميين وغمسه أو صبغه بالعقيدة الفاطمية الإسماعيلية، ونحن نسوق منها أطرافا تصور روعتها البيانية (1):

«المملوك يناجى حضرة الإمامة، ويناهى سدّة الخلافة، جعل الله عزهما باقيا على الأيام، ومجدهما غير منقطع الدوام، عالما أنه يلبس بذلك شرف الدارين، ويستولى به على الحسنيين، شائما (متطلعا) من مولاه برقا مضيّا، ومستظلا من سحاب الإكرام ودقا (غيثا) رويّا، ومتبوّئا من رتب الاختصاص مكانا عليّا، ومتعرضا لمنزلة من أدناه وقرّبه نجيّا. إنه قد كان قدّم خدمة يطالع بها بأنباء جزيرته، وينهى أخبار دعوته، وما جرى عليه أمرها من الفتن، ودارت فيه من دوائر المحن، التى ملأت قلوب أعداء الدين سرورا، وازداد بها الكافر طغيانا وكفورا، وأظهر كل منافق ما كان من الغدر كامنا مستورا، وقال الذين فى قلوبهم مرض {ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً} . . . وجدّ عزم المملوك (الملك المكرم) بعد خيرة الله تعالى وخيرة وليه صلوات الله عليه على المسير للعبيد (يريد آل نجاح الأحباش قتلة أبيه) إلى مدينة زبيد. . فوردها فى التاسع والعشرين من صفر سنة 460 وقد سبق النذير إلى العبد (يريد سعيد بن نجاح أمير زبيد) وألفاه المملوك صافاّ على أحد أبواب المدينة، وقد نفخ الشيطان ريح الطغيان فى أنفه، وأراه الحياة فى حتفه، قد عصب برأسه من الكبر تاجا ظن أن الله لا يستطيع له نزعا، وتجلبب من الجبروت بثوب لا يروم له ما عاش خلعا. . {(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً)} . فدلف إليه المملوك فى جماعة من المؤمنين قاموا لله أنصارا، واتخذوا الصبر شعارا، والله-عز وجل-جار المتمسكين بسبب الله الذى لا ينقطع من تمسك بسببه، جائدين بأنفسهم فى ابتغاء رضاه وطلبه، وخوف سخطه وغضبه. . فلما تراءى الجمعان وتدانى الفريقان، ماجت الصفوف، وسالت الزحوف، ولمعت السيوف، ووكفت (سالت) الحتوف، وتزلزلت الأقدام، وصال الحمام، واغبّر القتام (الغبار) وتداعت الأبطال، وتدانت الآجال، واكتأبت الرجال، وانقطعت الآمال. . وشخصت الأبصار، والتحمت الشّفار (السيوف) وطلبت الأوتار، وأعوز الفرار. . وطفقت سيوف الحق تلتهمهم، وأيدى المؤمنين تقتسمهم، فتركوهم بين ضريج بدمه، وهاو ليديه وفمه، وشارد لم ينجه سعى قدمه، ونادم لم ينتفع بندمه. . . ومعفور نطيح، ومطعون جريح، قد عادوا فرصة لكل واثب، وأكلة لكل ناهب، مصرّعين

(1) انظر الرسالة فى كتاب «الصليحيون والحركة الفاطمية فى اليمن» للدكتور حسين الهمذانى ص 308.

ص: 208

مصارع أمثالهم الكافرين، وواردين موارد أعمالهم خاسرين، قد قطع الله أوصالهم، وبتّ من حبله حبالهم».

والرسالة طويلة وابن القمّ يلتزم فيها السجع، وواضح أنه يعنى باصطفاء ألفاظه، والملاءمة بينها حتى يحكم ما يريد من الجرس لكلامه وحسنه واستوائه بحيث لا نحس نبوّا ولا نشازا فى عبارة من عباراته. ومما يصور عنايته بنغم كلامه أن الآيات القرآنية التى يقتبسها تلتقى فواصلها مع قوافيه التقاء طبيعيا، وهو التقاء كان يقصد إليه قصدا حتى يلتحم جرس النغم فى الرسالة التحاما تاما.

وكأنّ ابن القم كان استهلالا قويا لأن تأخذ اليمن منذ عصره فى العناية برسائلها الديوانية عناية يعمّ فيها غير قليل من التنميق ورصف السجع وتدبيجه. ويلاحظ ذلك بوضوح فى الرسائل والعهود المكتوبة فى الدولة الرسولية، على نحو ما يلاحظ فى العهد الذى فوّض فيه السلطان المظفر (647 - 694) الحكم من بعده لابنه السلطان الأشرف عمر، وهو يستهله بقوله بعد الحمد والثناء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء (1):

«أما بعد فقد ملّكنا عليكم من لا نؤثر فيه-والله-داعى التقريب، على باعث التجريب، ولا عاجل التخصيص، على آجل التمحيص، ولا ملازمة الهوى والإيثار، على مداومة البلوى والاختبار. وهو سليلنا الخطير، وشهابنا المنير، وذخيرتنا على المراد، وبصيرنا الذى نرجو به صلاح البلاد والعباد، ونؤمّل فيه من الله الفوز والنجاة فى المعاد، وقد رسمنا له من وجوب الذبّ والحماية، ومعالم الرفق والرعاية، ما قد التزم بوفاء عهده.

والمسئول فى إعانته من لا عون إلا عون من عنده. ولن نعرفكم من حميد خصاله، وسديد فعاله إلا بما قد بدا للعيان، وزكا مع الامتحان، وفشا من قبلكم فى كل لسان»

وواضح ما فى العهد من ميل شديد إلى تصفية اللفظ وأن يكون سلسا سلاسة الماء النمير، وواضح أيضا ما فيه من موازنة دقيقة بين سجعاته، فكلمة «داعى التقريب» توضع على وزنها كلمة «باعث التجريب» وكلمة «عاجل التخصيص» تليها موازنة لها كلمة «آجل التمحيص» وكلمة «ملازمة الهوى والإيثار» توازنها كلمة «مداومة البلوى والاختبار» وكل ذلك إرضاء لأذن السامع. ومثله محاولة الإتيان بالمترادفات فى نهاية السجعة مثل «الذب والجماية» و «الرفق والرعاية» و «حميد خصاله» و «سديد فعاله» مما يدل بوضوح على الرغبة فى اكتمال نغم الكلام.

وتلقانا فى عهد السلطان الأشرف وربما كان فى عهد أخيه المؤيد (696 - 720 هـ)

(1) العقود اللؤلؤية 1/ 274.

ص: 209

رسالة موجهة من الأمير الزيدى محمد بن المطهر إلى السلطان المملوكى. الناصر محمد بن قلاوون يستنصره فيها على السلطان الرسولى الذى طالت بينهما الحروب، معددا قبائحه، مؤملا أن يسعفه بجيش لإجلائه عن دياره، وإجرائه مجرى الذين ظلموا فى تعجيل دماره.

وقال فى رسالته: إنه إذا حضرت الجيوش المؤيّدة قام معها، وقاد الأشراف والعرب أجمعها، ثم إذا استنقذ منه ما بيده أنعم عليه ببعضه، وأعطى منه ما هو إلى جانب أرضه، ثم قال:«وكتبت إلى السلطان مؤذنا بالإجابة، مؤديا إليه ما يقتضى إعجابه. . ولا رغبة لنا فى السلب، وأن النصرة تكون لله خالصة وله كل البلاد لا قدر ما طلب» .

واقتطف القلقشندى قطعة من الرسالة مسجوعة (1)، وكأن السجع أصبح منذ ابن القم صفة عامة فى الرسائل والعهود اليمنية. ونمضى إلى زمن السلطان الرسولى الأشرف إسماعيل (778 - 803 هـ) فيرسل السلطان المملوكى برقوق إليه برسالة معها هدية، يحملها القاضى برهان الدين إبراهيم بن عمر المحلى لتسهيل متجره وما يحمله من عدن من عروض التجارة، ويبادله الأشرف إسماعيل هدية بهدية، وكتابا بكتاب أو رسالة برسالة.

ويطلب فى رسالته أن يرعى السلطان برقوق من يفد على مصر من رعيته اليمنية تاجرا وغير تاجر، وأن يأذن له فى حج البيت الحرام، لقضاء الفرض والتبرك بالمشاعر العظام.

ويشكو من ارتفاع النفقات فى مكة على حاج اليمن لعله يتوسط لدى أميرها كى يخفضها، لأنه تابعه. وإن كان لم يصرح بذلك. ونحن نسوق قطعة من هذه الرسالة يتحدث فيها الأشرف إسماعيل عن هديته إلى السلطان برقوق وأنها دون مقامه ومكانته، يقول (2):

«لو أهدينا إلى جلال المقام الشريف الظاهرى، أعزّ الله أنصاره، بمقدار همته الشريفة العالية، ورتبته المنيفة السامية، لاستصغرت الأفلاك الدائرة، والشهب السائرة، واستقلّت السبعة الأقاليم تحفة، والأرض وما أقلته طرفة، ولم نرض أن نبعث إليه الأنام مماليك وخولا (عبيدا)، ونجبى إليه ثمرات كل شئ قبلا، ولو رام محبّ المقام (يقصد نفسه) هذه القضية لقصر عنها حوله، ولم يصل إليها طوله (قدرته) ولكنه يرجع إلى المشهور، بين الجمهور، فيجد العمل يقوم مقامه الاعتقاد، وليس على المستمر على الطاعة سوى الاجتهاد، والمخلص فى الولاء محمول على قدرته لا على ما أراد» .

والرسالة كلها من هذا الأسلوب الذى يمتاز بانتخاب ألفاظه والسجع فى عباراته، حتى يروق الأسماع، بل حتى يبهرها، بحسن تنسيقه وجمال رصفه ونسجه. وكان كتّاب الإنشاء فى كل دولة عربية يتبارون فى تلك الحقب بما يصوغون من هذا الأسلوب

(1) صبح الأعشى 7/ 337.

(2)

صبح الأعشى 8/ 73.

ص: 210

الموسيقى، حتى تلذ ألفاظه الألسنة، وحتى تقع موقعا حسنا من القارئين لها والسامعين.

ومر بنا فى عمان أن الأئمة الإباضيين كانوا يوجهون بكتب إلى عمالهم، يأمرونهم فيها بالنهى عن المنكر والأمر بالمعروف وأن يسيروا فى الرعية سيرة عادلة، وكانت الرعية كثيرا ما ترسل إليهم برسائل تطلب فيها العدل والحكم الصالح. ومضوا على ذلك طويلا حتى إذا كنا فى القرن الحادى عشر الهجرى وجدنا الإمام الإباضى ناصر بن مرشد (1024 - 1050 هـ) يكتب إلى عماله عهودا كثيرة يشيع فيها السجع من مثل قوله لأحد عماله فى «الباطنة» (1):

«إنى قد وليتك على قرية لوىّ من الباطنة. . على أن تأمر أهلها بالعدل والمعروف، وتنهاهم عن المنكر المحوف، وأن تعمل فيهم بكتاب الله المستبين، وتحيى فيهم سنة النبى الأمين، وآثار الأئمة المهتدين، وسيرة القادة المخلصين، الذين جعلهم الله منار الهدى، وقادة الناس إلى التقوى، وأورثهم الكتاب والسنة، يدعون إلى طريق الجنة. . ولا تخف فى الله لومة لائم، ولا عذل مجرم آثم، وأن تخلط الشدة باللين، وأن تخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. . فالله! الله يا أبا الحسن فى اكتساب الحسنات، وإنكار المنكرات، بغير تجاوز منك إلى غير واجب أوجبه الله فى الجدّ والتشمير، وترك التهاون والتقصير» .

ولا يطّرد السجع دائما فى عهود ناصر بن مرشد، وحتى فى العهد الواحد يستعمله حينا وحينا لا يستعمله. ويغلب فى سجعه وسجع غيره من الأئمة الإباضية أن لا يكون متكلفا، وكذلك ألفاظهم لا يبدو فيها شئ من الرّيث فى اختيارها إلا قليلا، وكأنهم يقبلون ما يفد عليهم عفو الخاطر. وولى سلطان بن سيف (1050 - 1091 هـ) ويفتتح ولايته بعهد منه إلى جميع عماله يستهله بهذه الصورة (2):

«الحمد لله العزيز عزّ أن تعوم فى بحور صفاته جوارى (سفن) الفكر، وأن تروم تنظر كواكب تكيّفه بصائر أولى البصر، أو أن تشاهده بمخارق العيان والنظر، العالم بدبيب النملة والذر. . الذى {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} ولا {فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الجليل قدره عن مشاكلة صفات البشر، أو أن يدرك الأشياء بالسماع والخبر، أو أن تجرى عليه أحداث القضاء والقدر. أحمده على ما صبّ برياض قلوبنا من سلسال العبر، وحسم عنا من أوصاب الكدر. وأشكره على ما خوّلنا من يانع نعمه وقدّر، وسقانا من عصير كرم كرمه وعزّ وتكبّر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعدها جنّة ليوم المحشر، يوم لا ملجأ لنا من الله ولا وزر. . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

(1) تحفة الأعيان 2/ 26.

(2)

التحفة 2/ 47.

ص: 211

دعا إلى الله وأنذر، وقاد الناس إلى الخيرات وبشّر، ونصب أنموذج الهداية لمن خاف الله من ذات نفسه وفكّر».

وأكبر الظن أن كاتب هذا العهد ليس سلطان بن سيف نفسه، بل هو كاتب أديب من الإباضية كان يكتب بين يديه، بل لقد كان أديبا عالما، فهو يصدر فى أول العهد عن عقيدة الإباضية التى تحدثنا عنها فى الفصل الأول وأنهم كانوا يؤمنون بما آمن به المعتزلة من نفى التجسيم عن الله بكل صورة من صوره وتنزيهه تنزيها مطلقا عن الشبه بالمخلوقات وأن يلحق ذاته العلية كيف أو جهة أو أى صفة من صفات البشر. والكاتب أديب بارع، فقد التزم فى نحو صحيفة كبيرة صدّر بها الرسالة قافية الراء، وطاوعته دون أى عسر أو التواء، مما يدل على تملكه لناصية الكلام. وهو يعنى بالتنميق فى عباراته، إذ يضيف إليها وشى الجناس والتصاوير والاقتباس من الذكر الحكيم، على نحو ما يتضح فى اقتباسه لقوله جلّ شأنه:{لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} وقوله {فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . وتكثر الاقتباسات والجناسات فى العهد بعد تلك المقدمة.

وقد ذكرنا فى الفصل الأول أن سلطان بن سيف أهم سلاطين اليعربيين الإباضيين قبض على صولجان الحكم فى دياره ومدينتا صحار ومسقط فى أيدى البرتغاليين، فطردهم كما مر بنا منهما ومن سواحل بلاده شر طردة مستعينا فى ذلك بأسطول ضخم حطم به أسطول البرتغال وسيطر به على الهند وشواطئها الغربية، كما سيطر به على شواطئ إفريقيا الشرقية وتعقب أسطولهم فى كل موقع، ويبدو أن سفنا منه حاولت الإلمام باليمن، فدمرها تدميرا. ونعجب أن يغضب من صنيعه أمير اليمن الزيدى إسماعيل بن القاسم (1054 - 1079 هـ) ويعجب سلطان بن سيف أشد العجب، ويتبادلان رسالتين، فى أولاهما يقول سيف بن سلطان لصاحبه (1):

«إنكم علينا عاتبون، ومنا واجدون، لأجل قطع جنودنا فى العام الماضى رقاب المشركين على بابكم، وأخذهم لسفنهم الواردة لجنابكم. ولعمرى إنا لندرى أن العتاب بين الأخلاء عنوان المودة الخالصة والصفاء، وزائد محض المودة الصادقة والوفاء، غير أنه يجب عند اقتراف الجرائم، وانتهاك المحارم. ونحن لم نقصد إلى انتهاك دارك سبيلا، ولا نجد لك على إلزامنا فعل ذلك دليلا، إذ كنا لم نجهز مراكبنا، ونتخذ مخالبنا، لمشارّة (لمخاصمة) رعيتك، ولا لاستباحة دم أهل حكمك وأقضيتك (أقاليمك) ولكن جهزنا الجيوش والعساكر، وأعددنا اللهاذم والبواتر، لتدمير عبدة الأوثان، وأعداء الملك الديّان

(1) التحفة 2/ 56.

ص: 212

تعرّضا منا لرضا رب العالمين، وإحياء لسنة نبيه الأمين، ورغبة فى إدراك أجر الصابرين المجاهدين. وحاشا لمثلك أن يغضب لقتال عبدة الأصنام، وأعداء الله والإسلام، ألست من سلالة على بن أبى طالب، الساقى المشركين وبئ المشارب، وأنت تدرى ما جرى بيينا وإياهم من قبل فى سواحل عمان، وفى سائر الأماكن والبلدان من سفك الدماء وكثرة الصّيال، وتناهب الأملاك والأموال، وإنا لنأخذهم فى كل موضع تحلّ به مراكبهم وتغشاه، حتى من كنج وجيرون بندرى الشاه (ملك فارس) ولم يظهر لنا من أجل ذلك عتابا ولا نكيرا، وإن كنت فى شك من ذلك فاسئل به خبيرا»

ويذكر سيف بن سلطان لإسماعيل بن القاسم أنه ترك فى تعقب البرتغاليين مدافع فى ظفار التابعة له وأنه حرىّ أن يردها عليه. وتمتلئ قلوبنا أسى حين نقرأ رسالة إسماعيل بن القاسم التى ردّ بها على سيف بن سلطان إذ بدلا من أن يطلب منه الصفح عن كبوته وعثرته المردية، ويرجع إليه مدافعه وأسلحته، يبرق له ويرعد، ويتهدد ويتوعد، إذ تمضى رسالته على هذه الشاكلة (1).

«وصل كتابك الذى شحنته بالإبراق والإرعاد وعدلت به من تحسين العتاب، إلى تخشين الخطاب، ظنا منك أن هذيان وعيدك، وطنين ذباب تهديدك، يزعزع من بأسنا صخرة صمّاء، أو يحرّك من وقارنا جبالا شمّاء، وكيف يكون ذلك:

وأسيافنا فى كل شرق ومغرب

بها من قراع الدارعين فلول

أين ذهب حجاك حتى طلبت منا المدافع، بهذه الأراجيف والفقاقع، وإنما تقطع أعناق الرجال المطامع. أما علمت أن الليث إذا هيج على فريسة كان أشد إقداما، وأعظم جرأة واعتزاما، لا جرم أنها لما نأت بنا وبك الديار، وحالت دوننا ودونك الأمصار، استرسلت فى لفظك، وجاوزت فى سوء المقدار حدّك، وانفردت بأرضك، فطلبت الطعن والنزال وحدك:

يا سالكا بين الصوارم والقنا

إنى أشمّ عليك رائحة الدّم

فاقطع عرى آمالك عن هذه المدافع، فهى أول غنيمة-إن شاء الله-من قطرك الشاسع»

والكتاب حقا محزن، إذ كان المنتظر أن يضع إسماعيل بن القاسم يده فى يد سلطان بن سيف حين جاءه كتابه، ويعود إليه صوابه، ويعلن نصرته له ضد البرتغاليين الآثمين.

وعلى العكس من ذلك مضى فى غيّه يتوعد سلطان بن سيف بمعركة كمعركة النهروان التى

(1) التحفة 2/ 58.

ص: 213