الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويسترسل مبينا أنهم كانوا أبطلوا الصيام والصلاة وهدموا المساجد، فطهر البلاد منهم، ويمضى فى القصيدة مسجلا مآثر أبنائه وأحفاده لمدة قرن من الزمان. والديوان يمتلئ بفخر عنيف. وإذا كانت مدائح ابن المقرب سجلت تاريخ أمراء أسرته وأعمالهم ومآثرهم فإنها سجلت أيضا جوانب من أعمال الخليفة الناصر، وكذلك واليه باتكين حاكم البصرة فقد ضمن مدائحه له أعماله بمثل قوله:
بنى بالبصرة الفيحاء سورا
…
يضاهى السّدّ سبكا وانعقادا
وزيّنها بأسواق أرانا
…
بها كلّ البلاد لها سوادا (1)
وكم من مشهد ورباط زهد
…
ومدرسة بنى وهدى أفادا
ويردد فى مدائحه بجانب ذلك أنه بنى المدارس وأقام فيها علماء الفقه والحديث والتفسير وألحق بها المكتبات النفيسة، ومدائح ابن المقرب بذلك تعد وثائق ذات أهمية بعيدة فى تاريخ عصره، ولا نبعد إذا قلنا إنها هى الوثائق الوحيدة فى تاريخ الدولة العيونية، لأن تاريخ حكامها لم يعن به المؤرخون.
عبد الصمد بن عبد الله باكثير
(2)
الشعراء الثلاثة السابقون من شعراء القرن السابع الهجرى، أما عبد الصمد بن عبد الله باكثير فمن شعراء القرن الحادى عشر وهو حضرمى، ولد فى تريس سنة 955 للهجرة وتوفى بحضرموت فى سنة 1025. تلقن علومه وحفظ القرآن الكريم فى مسقط رأسه، واختلف إلى العلماء فى المدن الحضرمية. وحين سال الشعر على لسانه اتجه به أولا اتجاها صوفيّا على عادة أهل إقليمه، وأخذ يستغله فى مديح بعض الحكام والأعيان، حتى إذا تحول صولجان الحكم فى حضرموت إلى عمر بن بدر أبى طويرق المتوفى سنة 1021 للهجرة أصبح شاعره المفضل، وليس ذلك فقط؛ بل أصبح أيضا منشئ الرسائل فى عهده، وكذلك فى عهد ابنه عبد الله (1021 - 1024). حتى إذا تنازل عن الحكم لأخيه بدر طلب الشاعر إعفاءه من العمل بديوان الرسائل، ولم يكد يدور العام حتى لبى نداء ربه.
وجمهور مدائحه فى عمر بن بدر من مثل قوله:
(1) السواد: الريف بزروعة وقراه.
(2)
انظر فى ترجمة عبد الصمد خلاصة الأثر للمحبى 2/ 418 وكتابه نفحة الريحانة 3/ 546 وملحق البدر الطالع ص 121 وسلافة العصر ص 461 وتاريخ حضرموت السياسى 1/ 133، و 2/ 171 وتاريخ الشعراء الحضرميين 1/ 190 وله ديوان كبير لما يطبع.
عمر الذى أحيا المكارم وابتنى
…
للمجد بيتا دونه الجوزاء
فبه الزمان تفاخرت أيامه
…
وتعطّرت بوجوده الأحياء
ملك تفجّر من منابع مجده
…
كرم وحلم واسع ووفاء
وكان لا يزال يروح ويغدو عليه بمدائحه وخاصة فى أعياده وفى الاحتفال بانتصاراته، مرددا دائما الثناء على خصاله وشجاعته وكرمه، ومن مدحة له فيه:
إذا نابنى خطب الزمان فإننى
…
إلى عمر الخيرات بى ينتهى السّير
مواهبه موصولة بمواهب
…
إذا ضنّت الأنواء واحتبس القطر (1)
له فى النّدا أيد تسحّ بنانها
…
لجينا وإبريزا ونائله غمر (2)
ومن مدحه الرصين فى عمر بن بدر تهنئة له بانتصاره على بعض أعدائه من رجال القبائل الثائرين عليه وعلى حكمه، وفيها يقول مهنئا:
نصر عزيز من الرحمن قارنه
…
فتح وطالعه بالسّعد يبتدر
من كان معتصما بالله كان له
…
عونا وسار بما يختاره القدر
لما تألّبت الأعداء واعتصموا
…
بحبل غدرهم باءوا بما غدروا
فأمكن الله منهم فانثنوا هربا
…
كمثل ما نفرت من قسور حمر (3)
وكان يخلص للسلطان عمر بن بدر إخلاصا مصفى، ولذلك أكثر من مديحه، حتى إذا توفى أحس بحزن بالغ ولوعة ممضّة، مما جعله يرثيه مراثى حارة يبكى فيها خصاله الكريمة وما فقدته رعيته فيه ومحبوه من جود وعون وعفو عند المقدرة من مثل قوله:
هوى من سماء المجد كوكبها القطب
…
فأظلم فى أقطارنا الشّرق والغرب
تضعضع طود المجد وانهدّ ركنه
…
فيالك ركنا قد تضمّنه التّرب
ثوى عمر الخيرات أكرم من سعى
…
إلى ساحه تطوى سباسبها النّجب (4)
لقد كان للعافين ظلاّ وملجأ
…
وللجاهل الإغضاء والصّفح والعتب (5)
وله مرثية ثانية فيه تكتظ بزفراته ولوعاته. وله غزل رقيق يزخر بمشاعر فياضة، تدل على أنه كان يجد أحيانا وجدا شديدا، حتى ليقع فى شباك بعض النساء،
(1) الأنواء: الأمطار.
(2)
تسح: تهطل. اللجين: الفضة ويريد الدراهم. الإبريز: الذهب، ويريد الدنانير. والنائل: العطاء. غمر: كثير.
(3)
قسور: أسد. الحمر: حمر الوحش.
(4)
ساح: جمع ساحة. السباسب: المفاور. النجب: الإبل الكريمة.
(5)
العافون: طلاب المعروف.
ويطول تعثره فيها، وقد انقطعت به الحيل فى الخلاص فيفزع إلى دموعه، على شاكلة قوله:
يا ظبى وادى الأجرع
…
رفقا بصبّ مولع
يبكى أسى وصبابة
…
بكآبة وتوجّع
ودموعه فوق المحا
…
جر كالغيوث الهمّع (1)
ويقول من وجد ومن
…
كمد بقلب موجع
حيّا المرابع والرّبا
…
غيث كفائض أدمعى
يهمى على تلك الدّيا
…
ر بوابل لا يقلع
فهو يبكى بدموع غزار لا تزال تنهمر كأنها أمطار، ولا يزال يلتاع لوعات شديدة، كلها أوجاع وأوصاب وآلام. ويكثر غزله الرقيق من مثل قوله:
ولى من العرب ظبى ما رأى بصرى
…
شبها له فى الورى بدوا ولا حضرا
الورد فى خدّه المحمرّ من خجل
…
يدعو إلى حسنه الفتّان من نظرا
كم ليلة زارنى فيها على وجل
…
مستعجلا خائفا مستوفزا حذرا (2)
وتصويره لخوف المحبوبة فى البيت الأخير من أن يراها أحد معه رائع، فهى عجلة حذرة لا تكاد تطمئن، واختار بدقة شاعريته كلمة «مستوفزا» ليصور فيها هذه الحركة النفسية، فكأنها دائما مستوفزة تتهيأ لفراقه وتتأهب لوداعه. وله بعض خمريات طريفة يجمع فيها بين الروض والخمر والغناء والصّحب، مصورا بذلك بعض مجالس أنسه كقوله:
تلاعبت مرحا فى روضها القضب
…
كشاربى خندريس هزّهم طرب (3)
قم يا نديمى فقد نادى الهزاز إلى
…
صهبا مشعشعة تجلى بها الكرب (4)
يديرها رشأ كالشمس طلعته
…
وكفّه بدم الصّهباء مختضب
فى روضة أخذت بالزّهر زخرفها
…
وازّيّنت وتجلّت كلّها عجب
ولم يكن اللهو غالبا على حياته، فمثل هذه الخمرية وميض كان يلمع حينا فى سمائها وسرعان ما يخبو، وقد أمضى شطرا كبيرا من حياته بائسا يشكو الفاقة قبل اتصاله بعمر بن بدر أميره، ولذلك نجد عنده قطعا يشكو فيها من حظه العاثر، نذكر منها قوله:
(1) الهمع: الهاطلة السائلة.
(2)
مستوفزا: متحفزا للقيام.
(3)
القضب: الأغصان. الخندريس: الخمر.
(4)
الهزار: طائر صغير الحجم حسن الصوت. الصهباء: الخمر. المشعشعة: الممزوجة بالماء.