الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بصره، وأصبح ضحاه مثل دجاه، وأظلمت الدنيا فى عينيه، وأصبح كل شئ قطعا من الظلام بعضها فوق بعض، وعبثا يرى نور محبوبته فقد أرخى الظلام من حوله سدوله ولم يعد هناك أمل فى انفراجه، وهو يئنّ وينوح نواحا لا ينقطع كما يقول ابن خلكان. ولعل فى ذلك كله ما يصور كيف أن غزله الوجدانى كان خليقا أن تتداوله طائفة الرفاعية الصوفية، لتعبر به عما يختلج فى حنايا صدورها وقلوبها من الحب الإلهى وكل ما يطوى فيه من وجد ولهفة ولوعة وظمأ لا ينتهى إلى رؤية الذات العلية، وكأنما مسته-كما تصوّر شيوخهم- بركة أنفاسهم، أو كما نقول كأنما مسته أنفاس وجدهم الربانى الحار، مما جعلهم يحفظون شعره ويتناشدونه، وينشده معهم الوعاظ فى وعظهم. ويروى ابن خلكان أن الشاعر مرّ يوما على ابن الجوزى وهو يعظ الناس وهم مزدحمون فى مجلسه، وكان عجبه شديدا حين سمعه يستشهد على بعض إشاراته ببيت من شعره منوها به.
الحاجرى
(1)
هو أبو الفضل حسام الدين عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمار تكين بن طاشتكين الإربلى المعروف بلقبه الحاجرى نسبة إلى الحاجر بلدة كانت بالحجاز أكثر من ذكرها فى شعره، فنسب إليها. وهو إربلى الأصل والمولد والمنشأ، ويقول ابن خلكان إنه كان صاحبه، ومع ذلك لا يذكر لنا شيئا عن زمن مولده ولا عن أسرته ونشأته، وكل ما يقول إنه جندى من أولاد الأجناد الأتراك، ويبدو أنه كان على شئ من اليسار، إذ لا نراه فى ديوانه مشغولا بممدوحين مختلفين يهديهم أشعاره، إلا ما كان من مدحة يستهل بها ديوانه مدح بها الأمير ركن الدين أحمد بن الأمير شهاب الدين قراطايا بإربل، ولعله أراد أن يستلّ من نفسه ضغينة عليه، إذ جاء فى مقدمة مدحته إنه كان السبب فى مقتله، ويقول ابن خلكان إنه خرج من إربل فى سنة 626 بينما كان الحاجرى معتقلا فى قلعتها لأمر يطول شرحه ولعل الأمير السالف هو الذى دبّر له هذا الاعتقال، وله فى ذلك أشعار يشكو فيها من حبسه مثل قوله:
قيد أكابده وسجن ضيّق
…
يا ربّ شاب من الهموم المفرق
ويذكر ابن خلكان أنه بلغه بعد ذلك خروجه من الاعتقال وأنه اتصل بخدمة الملك
(1) انظر فى ترجمة الحاجرى ابن خلكان 3/ 501 والنجوم الزاهرة 6/ 290 والشذرات 5/ 156 وديوانه طبع طبعة سقيمة بالقاهرة سنة 1305 وذكر بروكلمان (5/ 17) منه مخطوطات كثيرة، وهو حرى بأن يحقق تحقيقا علميا.
المعظم مظفر الدين كوكبورىّ والى إربل من قبل صلاح الدين منذ سنة 586 وتقدم عنده وتزيّا بزىّ الصوفية. وتوفى مظفر الدين سنة 630 فغادر الحاجرى إربل، وكأنه كان لا يزال يخشى بأس غريمه المذكور آنفا، غير أنه سرعان ما عاد إليها حين صارت فى مملكة الخليفة المستنصر بالله وتولاها عنه الأمير شمس الدين أبو الفضائل باتكين، فأقام مدة قصيرة وهو لا يدرى أن وراءه من يقصده واتفق أن خرج يوما من بيته قبل الظهيرة، فوثب عليه شخص وضربه بسكين ضربة قاتلة توفى على إثرها فى شوال سنة 632 ويقدّر ابن خلّكان عمره بخمسين سنة. ويقول:«له ديوان شعر تغلب عليه الرقة، وفيه معان جيدة، وهو مشتمل على الشعر والدوبيت والمواليا، وقد أحسن فيها جميعا مع أنه قلّ من يجيد فى مجموع هذه الثلاثة، بل من غلب عليه واحد منها قصّر فى الباقى، وله أيضا «كان وكان» واتفقت له فيه مقاصد حسان وهو شعر عامى، سنعرض له فى غير هذا الموضع.
وأول ما نقرأ فى ديوانه مطلع مدحته لابن قراطايا، وفيه يقول:
ما للدموع تسيل سيل الوادى
…
أحدا بركب العامريّة حادى
نعم استقلّوا ظاعنين وخلّفوا
…
نارا لها فى القلب قدح زناد (1)
ما كان أطيب للوداع عناقنا
…
لو لم يكن منا عناق بعاد
يا سائق الوجناء غير مقصّر
…
يطوى المفاوز من ربى ووهاد (2)
مالى إليك سوى التحية حاجة
…
تلقى سعاد بها ودار سعاد
عرّج برامة إنّ رامة منتهى
…
أملى وغاية بغيتى ومرادى (3)
يأيّها الرّشأ الذى بلحاظه
…
دعج يصول به على الآساد (4)
الله فى كبدى التى أحرقتها
…
عبثا بجمرة خدّك الوقّاد
ويلى هذا الاستهلال غزل من هذا الطراز يكاد يستنفد الديوان جميعه بما فيه من مخمسات ودوبيتات أو رباعيات، وواضح أنه مرحلة جديدة للغزل بالبدويات الذى قرأناه عند المتنبى والشريف الرضى ومهيار، وكأن الحاجرى استوعب غزلهم وتمثله تمثلا نادرا، فإذا هو ينفذ مثل ابن المعلم إلى هذا الغزل الجديد الذى سميناه بحق شعرا وجدانيا، شعرا ينساب من معين ثرّ لا يزال يتدفق حارا دون أى تكلف أو تصنع. وإن نار الحب لتتقد فى قلبه وتسيل دموعه أنهارا فقد فارقته صاحبته إلى رامة، وهو لا يملك إلا أن يرسل إليها
(1) قدح الزناد: استخراج النار منه بضرب حجرين.
(2)
الوجناء: الناقة الشديدة.
(3)
رامة: موضع بالبادية.
(4)
الدعج: اشتداد السواد والبياض فى العين.
بتحية رقيقة، وإنه ليذكر سهام عينيها الفاتنتين ويتضرع إليها مستعطفا لكبده التى أحرقتها بجمرة خدّها الوقاد، ونحس دائما كأنما يتوجع حقا من حريق فكل شئ من صاحبته يلهب صدره وقلبه بنار لا تخمد أبدا حتى الرضاب أو الريق، يقول:
ويلاه من برد رضاب لها
…
أشكو إلى العذّال منه الحريق
وهو فى أثناء هذا الحريق الذى يأخذ فؤاده من كل جانب يلتاع لوعات ممضة، كان يروّع منها دائما، فيهتف منشدا أشعاره الوجدانية التى تكتظ بالحنين إلى رؤية صاحبته فى رامة وغير رامة من منازل نجد والحجاز، مثل قوله:
إنّ الألى رحلوا غداة محجّر
…
ملئوا القلوب لواعج الأحزان
نزلوا برامة قاطنين فلا تسل
…
ما حلّ بالأغصان والغزلان
فلأبعثنّ مع النسيم إليهم
…
شكوى تميل لها غصون البان
يا عاذلى فيمن أحبّ جهالة
…
عنى إليك فليس شأنك شانى
لم لا أحنّ إلى الحجاز صبابة
…
ويجود دمع العين بالهملان
فقد رحلت صاحبته عنه وتركته بحاجر يشكو آلام حبه ولواعج حزنه وأوجاعه، ونزلت رامة فأخجلت بقدّها وجمال عينيها الأغصان والغزلان، ولم يعد له إلا أن يبعث إليها بالسلام مع النسيم، لعلها ترقّ له وتذكره، ويلتفت إلى عذوله ينهاه أن يتعرض له فليس من دربه، وليس ذلك من شأنه، ويتساءل إن كل محب ليصبو قلبه إلى الحجاز ونازليه، ويذرف الدمع مدرارا. لغة سهلة هى لغة الشعر الوجدانى الذى ينساب فى النفس انسيابا. وله قصيدة تفيض بحنين رائع صوّر فيها تصويرا بديعا حزنه لفراق صاحبته كأقوى ما عرف الناس من الحزن للفراق بين المحبين قائلا:
أأحبابنا بنتم عن الخيف فاشتكت
…
لبعدكم آصالها وضحاها
كأنكم يوم الرحيل رحلتم
…
بنومى فعينى لا تصيب كراها (1)
رعى الله ليلات بطيب حديثكم
…
تقضّت وحيّاها الحيا وسقاها
فما قلت إيه بعدها لمسامر
…
من الناس إلا قال قلبى آها
متى تنقضى أيام ذلّى وأجتنى
…
ثمار وصال قد حرمت جناها
وأستصحب القوم الذين بمهجتى
…
لفقدهم نار يشبّ لظاها
(1) الكرى: النوم.