الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى رأينا أن هذا البيت هو الذى ألهم أبا العلاء قصيدته: «غير مجد فى ملتى واعتقادى» . وتسرى فيه روح تشاؤم جعلته ثائرا على الزمن والدهر والناس، وهى روح تحبّب أشعاره إلى قارئه، من مثل قوله:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
…
وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولّوا بغصّة كلّهم من
…
هـ وإن سرّ بعضهم أحيانا
وتكثر فى شعره الحكم والأمثال، حتى ليصبح جلّ ما يدور من خواطر فى أذهان الناس أمثالا أو حكما ينطق بها فى شعره، ولفت ذلك القدماء وحاولوا أن يصلوا بينه وبين أرسطو فيه، ولكن من المؤكد أن حكمه وليدة عقله الكبير وخبرته الواسعة بالحياة والناس، وقد أنشدنا منها أطرافا فيما مرّ من الحديث. وله غزل طريف، وهو فيه مفتون دائما بالبدويات لجمالهن الفطرى وفى ذلك يقول:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
…
وفى البداوة حسن غير مجلوب
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها
…
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
وأكبر الظن أن فيما قدمت ما يجلو بعض الجلاء شخصية المتنبى الفذة ويرد عنها جملة التّهم التى نسجها بعض الباحثين المعاصرين من العرب والمستشرقين حول نسبه وصحته وحول قرمطيته وعقيدته، وهو قد فرّ مع أبيه من وجه القرامطة حدثا ورحل بسببهم عن الكوفة فى باكورة شبابه، وحاربهم بأخرة من عمره، ومع ذلك يقال إنه قرمطى، ويلقى ظل من الشك على عروبته، مع أن العروبة لم تجد من يفضله لتختاره ترجمانا لها أروع ما يكون الترجمان.
سبط (1) ابن التعاويذى
هو أبو الفتح محمد بن عبيد الله بن عبد الله، كان أبوه مولى لبنى المظفّر واسمه نشتكين، فسماه ابنه عبيد الله وسمى جده عبد الله، وقد ولد لأبيه ببغداد سنة 519 ويبدو أنه توفى وابنه لا يزال صغيرا، فكفله جده لأمه أبو محمد المبارك الزاهد المعروف بابن التعاويذى وكان صالحا، فقام على تربيته خير قيام، إذ ألحقه بكتّاب، ثم بحلقات العلماء
(1) انظر فى ترجمة
سبط ابن التعاويذى
معجم الأدباء 18/ 235 وابن خلكان 4/ 466 ونكت الهميان ص 259 والوافى بالوفيات 4/ 11 وعبر الذهبى 4/ 253 والشذرات 4/ 281 والنجوم الزاهرة 6/ 105 وسبط ابن التعاويذى: حياته وشعره لنورى شاكر الألوسى (طبع بغداد) وديوانه طبع قديما بالقاهرة فى مطبعة المقتطف بتحقيق مرجليوث.
فى المساجد، ولم يلبث أن استيقظت موهبته الشعرية، ولم تشمله عناية جده فحسب، فقد عنى به أيضا بنو المظفر مواليه، إذ أسبغوا عليه وعلى جده من أفضالهم الكثير، وكان لهم شأن كبير فى الدولة، إذ كان منهم وزراء وكتاب مختلفون، فألحقوه بدواوين الخلافة، واختاروا له الكتابة بديوان الإقطاع، وجعلته وظيفته فى هذا الديوان يتصل بكبار رجال الدولة وموظفيها المختلفين من غير بنى المظفر، وله مدائح فى الخلفاء وفى غير وزير، وخاصة ابن هبيرة. ويظهر أنه كان من جملة من فصلهم وزير الديوان أبو جعفر أحمد بن محمد التميمى المعروف بابن البلدى لعهد الخليفة المستنجد (555 - 566 هـ) إذ نراه يهجوه هجاء مرا، وكان هذا الوزير قد عزل أرباب الدواوين وحبسهم وحاسبهم وصادرهم وعاقبهم ونكّل بهم، وفيه يقول:
يا قاصدا بغداد حد عن بلدة
…
للجور فيها زخرة وعباب
إن كنت طالب حاجة فارجع فقد
…
سدّت على الرّاجى بها الأبواب
بادت وأهلوها معا فبيوتهم
…
ببقاء مولانا الوزير خراب
وارتهم الأجداث أحياء تها
…
ل جنادل من فوقهم وتراب
ونراه فى قصيدة أخرى يشكو من ابن البلدى ومن ضائقته وعطلته مما يدل دلالة قاطعة على أنه كان قد فصل مع من فصلهم. ولم يلبث أن عاد إلى وظيفته، وأكبر الظن أن الخليفة المستنجد هو الذى أعاده، وكان جده لأمه ابن التعاويذى قد توفى ورثاه مرثية جيدة، استهلها بقوله:
لكلّ ما طال به الدهر أمد
…
لا والدا يبقى الرّدى ولا ولد
وليس فى الديوان بعد ذلك ما يدل على أن أحداثا خطيرة مرت به. وقد ظل فى ديوان الإقطاع حتى سنة 579 إذ كفّ بصره، ولم يعد يستطيع العمل فيه، ويلتمس حينئذ من الخليفة الناصر (575 - 622 هـ) أن ينقل راتبه فى الديوان إلى أبنائه، وكانوا كثيرين كما يبدو من إحدى قصائده، ويجيبه إلى ملتمسه، غير أنه يعود فيطلب إليه أن يجدّد له راتبا خاصّا به مدة حياته، ويحقق له طلبه، ويكثر حينئذ من ندب بصره بمثل قوله:
ألا من لمسجون بغير جناية
…
يعدّ من الموتى وما حان يومه
يروّعه عند الصباح انتباهه
…
فطوبى له لو طال وامتدّ نومه
ولم يعش طويلا وهو مكفوف، فقد توفى بعد نحو أربع سنوات سنة 583 وقيل بل سنة 584. وكان قد جمع ديوانه بنفسه قبل كفّ بصره، وعمل له خطبة طريفة، كما يقول ابن خلكان، ورتبه فى أربعة فصول، وكل ما نظمه بعد هذا الترتيب سماه الزيادات،
والفصل الأول فى مدائح الخلفاء، والفصل الثانى فى مدائح جماعة من الوزراء والأكابر كما يقول فى مقدمته، والفصل الثالث فى مدائح بنى المظفر، يقول:«لأننى نشأت فيهم، وصحبتهم أنا وجدى لأمى، وكنت منقطعا إليهم لا أشيم (أنظر) غير سمائهم، فنظمت فيهم جلّ شعرى، وأنفقت معهم طائفة من عمرى» والفصل الرابع متنوعات من مراث وزهد وغزل وعتاب وهجاء. والزهد عنده قليل مما يدل على أن أثر جده لأمه الورع فيه كان ضعيفا. وواضح أن جمهور الشعر فى الديوان مدائح، ومع ذلك نرى له قصيدة ينصح فيها الشعراء أن يهجروا المديح إلى الهجاء، ويبدو أنه قالها فى لحظة عارضة فى حياته. وقد نوّه به وبشاعريته ابن خلكان تنويها عظيما قائلا:«كان شاعر وقته، لم يكن فيه مثله، جمع شعره بين جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقة المعانى ودقتها، وهو فى غاية الحسن والحلاوة، وفيما أعتقده لم يكن قبله بمائتى سنة من يضاهيه» .
وأول خليفة مدحه سبط ابن التعاويذى الخليفة المستنجد (555 - 566 هـ) وليس لأبيه المقتفى ذكر فى الديوان، وليس له فى المستنجد نفسه سوى قصيدة، وكأنه كان بعيدا عنه لعهد وزير الديوان ابن البلدى. حتى إذا ولى المستضئ (566 - 575 هـ) رأيناه يكثر من مدائحه، كما أكثر من مدائح ابنه الناصر، وظاهرة مهمة تلاحظ فى هذه المدائح، هى أن الشاعر يقترض من بيئة الإمامية الشيعية وغيرها من الغلاة بعض الأوصاف التى يصفون بها أئمتهم، ويصف بها المستضئ وابنه الناصر، وكأنه لم يعد هناك فرق بين مدح الشيعة لأئمتهم ومدح الشعراء لخلفاء بنى العباس، واقرأ هذا الاستهلال لمدحة لسبط ابن التعاويذى فى المستضئ:
لك النّهى بعد الله فى الخلق والأمر
…
وفى يدك المبسوطة النفع والضّرّ
وطاعتك الإيمان بالله والهدى
…
وعصيانك الإلحاد فى الدين والكفر
ولولاك ما صحّت عقيدة مؤمن
…
تقىّ ولم يقبل دعاة ولا نذر
مر الدهر يفعل ما تشاء فإنه
…
بأمرك يجرى فى تصرّفه الدهر
والغلوّ واضح فى البيتين الأخيرين، بل فى الأبيات كلها، حتى ليجعله يصرّف الدهر كما يشاء. ويمضى فى القصيدة فيصفه بأنه أمين الله ووارث النبى وإمام هدى عمّ عدله الرعية، وقد نطقت بفضله آى الذكر الحكيم يقصد قوله تعالى:(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). ودائما يردّد فى مدائحه له أنه جار على سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن مديحه له سيعدّ يوم القيامة من حسناته. ويخطو الشاعر فى مديحه لنناصر خطوات أكثر غلوّا على شاكلة قوله:
أنت الإمام المهدىّ ليس لنا
…
إمام حقّ سواك ينتظر
يا صاحب العصر والزمان ومن
…
فى يده النّفع بعد والضّرر
ومن له الليل والنهار وما
…
كرّا عليه والشمس والقمر
والبرّ والبحر والشواهق وال
…
غرّ الغوادى والنّجم والشّجر
ولو لم نعرف اسم الممدوح لظنناه إماما شيعيا فهو المهدى الذى تنتظره الشيعة لينقذ العالم من مفاسده وشروره، وهو صاحب العصر والزمان الذى يختفى عن الأعين ومع ذلك يرعى أمور رعيته ويدّبر شئونها، بل إنه ليدبر الكون كله بليله ونهاره وأفلاكه وكواكبه وأرضه وسمائه وبره وبحره. وعلى نحو ما يضيف الشيعة إلى أئمتهم العلم وأنهم خزنته وذخائره كذلك يكرر الشاعر بأن العباسيين علماء الدين الحنيف وأعلام الهدى، ولا يملّ من تكرار نشرهم للعدل. وكان الشيعة يرددون أن أئمتهم حجج الله فى أرضه على عباده، ويقتبس الشاعر هذه الفكرة فى مدحه للناصر قائلا:
حجّة الله أنت والسّبب المم
…
دود ما بينه وبين الناس
ولعل فى ذلك كله ما يدل على أن من الخطأ أن يسلك سبط ابن التعاويذى بين شعراء الشيعة كما ظن بعض المعاصرين، فهو شاعر عباسى، متعصب لخلفاء بنى العباس أشد التعصب، ولذلك أمثلة كثيرة فى شعره، وهو يقرر دائما أنهم أصحاب الحق الشرعى فى الخلافة، ولذلك كنت أشك فى أنه نظم مرثية الحسين.
أرقت للمع برق حاجرىّ
…
تألّق كاليمانى المشرفىّ
ويغلب أن تكون المرثية أضيفت إلى الديوان فى زمن مبكر.
وحين كاد العماد الأصبهانى يعمل فى دواوين الخلافة ببغداد انعقدت بينه وبين الشاعر صلة مودة، فلما بارح العماد العراق إلى الشام واتصل بصلاح الدين كان الشاعر يراسله، ويقول ياقوت إن العماد ذكر فى ترجمته بعض ما كان بينهما من مراسلات، وفى ابن خلكان رسالة بديعة للشاعر أرسل بها إلى العماد يطلب منه فروة. ويبدو أن العماد عمل على أن يصل بينه وبين صلاح الدين من جهة ووزيره القاضى من جهة ثانية، وفى ديوانه أربعة مدائح وجه بها إلى صلاح الدين بين سنتى 670 و 680 كافأه عليها مكافآت سنية، لعل أهمها النونية، وفيها يقول:
قاد الجياد معاقلا وإن اكتفى
…
بمعاقل من رأيه وحصون
سهرت جفون عداه خيفة ماجد
…
خلقت صوارمه بغير جفون