الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شعراء اللسان العربى، بل كان يشمل المتصوفة الذين ينظمون باللسان الفارسى، على شاكلة الشيخ سعدى الشيرازى، وله أشعار صوفية عربية من مثل قوله (1).
يا نديمى قم بليل
…
واسقنى واسق النّدامى
خلّنى أسهر ليلى
…
ودع الناس نياما
فى أوان كشف الور
…
د عن الوجه اللّثاما
قل لمن عيّر أهل ال
…
حبّ بالحبّ ولا ما
لا عرفت الحبّ هيها
…
ت ولا ذقت الغراما
وهى خمرية صوفية طريفة. ومرّ بنا فى الفصل الأول أن المتصوفة فى إيران كانوا يمثلون اتجاهين: اتجاها سنيّا واتجاها فلسفيا، ولعل من الخير أن نقف قليلا عند شاعرين يمثلان النزعتين، هما
عبد الكريم القشيرى
ويحيى السّهروردىّ.
عبد الكريم (2) القشيرىّ
ولد فى قرية أستوا بخراسان سنة 376 وفيها بدأ تعليمه، ثم انتقل إلى نيسابور حاضرة خراسان العلمية لعصره، واتفق أن حضر مجلس الصوفى الكبير أبى على الدقّاق، فأعجب به وسلكه بين مريديه، وأشار عليه بالاشتغال بالعلم والفقه، فأقبل على دروس أبى بكر الطّوسى الفقيه الشافعى، ثم اختلف إلى دروس ابن فورك حتى أتقن علم الأصول، كما اختلف إلى دروس أبى إسحق الإسفراينى الفقيه الشافعى المتكلم الأصولى، ونظر فى كتب القاضى الأشعرى أبى بكر بن الطيب الباقلانى. وسرعان ما أصبح علامة فى الفقه الشافعى وفى التفسير والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة وعلم التصوف وعلم الكلام على مذهب الأشعرى. وزوّجه الدقاق ابنته حبّا له، حتى إذا توفى خلفه فى مجالسه سالكا مسالك المجاهدة والتجريد، وأخذ فى التصنيف، فصنف التفسير الكبير قبل سنة عشر وأربعمائة وسماه «التيسير فى علم التفسير» وهو-كما يقول ابن خلكان-من أجود التفاسير.
وخرج إلى الحج فى رفقة، فيها الشيخ أبو محمد الجوينى والد إمام الحرمين وأحمد
(1) الكشكول لبهاء الدين العاملى (طبعة الحلبى) 1/ 263
(2)
انظر فى ترجمة القشيرى كتاب الأنساب للسمعانى 453 ب وتاريخ بغداد 11/ 83 وابن خلكان 3/ 205 ودمية القصر والسبكى 5/ 153 والمنتظم لابن الجوزى 8/ 280 وإنباه الرواة للقفطى 2/ 193 وشذرات الذهب للعماد 3/ 319 واللباب 2/ 214 والنجوم الزاهرة 5/ 91 وتبيين كذب المفترى لابن عساكر 271 وعبر الذهبى 3/ 259.
ابن الحسين البيهقى وجماعة من المشاهير، فسمع معهم الحديث ببغداد والحجاز. وعقد لنفسه فى نيسابور مجلس الإملاء فى الحديث ومجالس الوعظ منذ سنة 437 وقصده الطلاب من كل صوب. وذكره الخطيب البغدادى، فقال:«قدم علينا بغداد فى سنة 448 وحدّث ببغداد وكتبنا عنه، وكان ثقة، وكان يقصّ، وكان حسن الوعظ مليح الإشارة» ويقول الباخرزى واصفا وعظه: «لو قرع الصّخر بصوت تحذيره لذاب، ولو ربط إبليس فى مجلسه لتاب» .
وكان يعتنق مذهب الشافعى فى الفقه والفروع ومذهب الأشعرى فى علم الكلام والأصول. وكان يجمع بين الشريعة والحقيقة، وهو-كما مر بنا فى الفصل الأول-من أوائل من رأبوا الصدع الذى كان قد تفاقم بين المتصوفة وأهل السنة، وذلك فى رسالته المشهورة التى نقلنا عنها فقرة طويلة فى الفصل المذكور، والتى وجّهها إلى الصوفية وأهل السنة، وخلفه فى هذا الصنيع الغزالى السنى. ولا ريب فى أن له فضلا كبيرا فى الجمع بين الطرفين المتعارضين وإزالة ما بينهما من خلاف، بحيث أصبح أداء الفروض الدينية جزء لا يتجزأ من التصوف، كما أصبح التصوف نتيجة طبيعية للتمسك بتلك الفروض تمسكا ينتهى إلى النسك والمحبة الإلهية، دون مغالاة من شأنها أن تدفع بالمتصوف إلى منازع فلسفية تتصل بالحلول وما إلى الحلول من اتحاد بالذات الإلهية. وتلك هى صورة التصوف السنى الذى رفع عماده القشيرى، وكان شاعرا وله أشعار كثيرة، تصور تصوفه وزهده من مثل قوله:
وإذا سقيت من المحبّة جرعة
…
ألقيت من فرط الخمار خمارى
كم تبت قصدا ثم لاح عذاره
…
فخلعت-من ذاك العذار-عذارى
والخمار بضم الخاء بقية السكر والخمار بكسر الخاء الحجاب. يقول إنه يسكر بنشوة الحب الإلهى، وإنه إذا أخذ يتناول جرعات تلك الخمر الإلهية رفعت الحجاب بينه وبين محبوبه. وإنه ليتوب ثم تتراءى له شواهده. فيعود ثانية إلى سكره والنشوة بحبه، أو كما يقول يخلع عذاره كناية عن أنه يتهمك فيه ويقول:
ومن كان فى طول الهوى ذاق سلوة
…
فإنّى من ليلى لها غير دائق
وأكثر شئ نلته من وصالها
…
أمانىّ لم تصدق كخطفة بارق
فهو لا يسلو هواه ولا يكفّ عنه، لأنه هوى يتعمق شغاف قلبه فلا يستطع انفكاكا عنه ولا خلاصا منه، هوى لا يزال يتعثر فى شباكه، ومع ذلك لا ينال من وصال المحبوب شيئا إلا أمانى تبدو له كما يبدو البرق الخاطف فى السحاب. ويقول:
سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم
…
وثغر الهوى فى روضة الأنس ضاحك
أقمنا زمانا والعيون قريرة
…
وأصبحت يوما والجفون سوافك
وهو يتحدث عن الوصال الذى يذكره المتصوفة هذا الحديث الرمزى. فقد كان ينعم به زمانا أو قل كان يخيّل إليه أنه ينعم به، وكانت تمتلئ نفسه بهجة وفرحة، غير أنه أصبح يوما، فإذا الوصال كان حلما، وإنه ليطلبه باكيا بكاء لا ينقطع، بكاء كله جزع، وكله لوعة وحسرة. وله وراء ذلك تبتلات طريفة من مثل قوله:
يا من تقاصر شكرى عن أياديه
…
وكلّ كلّ لسان عن معاليه
وجوده لم يزل فردا بلا شبه
…
علا عن الوقت ماضيه وآتيه
لا دهر يخلقه لا قهر يلحقه
…
لا كشف يظهره لا ستر يخفيه
لا عدّ يجمعه لا ضدّ يمنعه
…
لا حدّ يقطعه لا قطر يحويه
لا كون يحصره لا عون ينصره
…
وليس فى الوهم معلوم يضاهيه
جلاله أزلىّ لا زوال له
…
وملكه دائم لا شئ يفنيه
والتبتّل يقوم على التنزيه الشديد للذات العلية، وأنه فرد لا شبيه له، سما عن كل زمن ماض وحاضر، فلا زمن يحصره ولا دهر ينال منه، وهو القاهر فوق عباده، موجود فى كل زمان ومكان، دون انكشاف ودون حجاب، ودون حصر، ودون حدّ يطيف به أو مكان يحتويه، ليس كمثله شئ، أزلى لا زوال لجلاله ولا فناء لملكه. وهو تجريد قوىّ للذات العلية ينفصل به القشيرى وأصحاب التصوف السنى عن أصحاب التصوف الفلسفى وما آمنوا به من الحلول والاتحاد بالذات الإلهية. ويقول:
جنّبانى المجون يا صاحبيّا
…
واتلوا سورة الصّلاح عليّا
قد أجبنا لزاجر العقل طوعا
…
وتركنا حديث سلمى وميّا
ومنحنا لموجب الشّرع نشرا
…
وشرعنا لموجب اللهو طيّا
ووجدنا إلى القناعة بابا
…
فوضعنا على المطامع كيّا
كنت فى حرّ وحشتى لاختيارى
…
فتعوّضت بالرّضا منه فيّا (1)
والذين ارتووا بكأس مناهم
…
فعلى الصّدّ سوف يلقون غيّا
وهو يعلن فى الابيات سلوكه فى الطريق، وكأن الانحراف عن هذا السلوك مجونا أو يشبه المجون، وقد لبى عقله ودواعيه وترك اللهو وبواعثه، فهو يعيش للشريعة المحمدية قانعا، زاجرا مطامعه فى متاع الحياة. ويتصور كأنه كان يقضى أيامه قبل تصوفه فى فيافى
(1) فيا: ظلا