الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما اتخذ صفة شرعية على مر الزمن من عادات وسنن لم تعرف فى العهد الإسلامى الأول، ونادت بأنه يجب إزالته، حتى لو كانت بعض المذاهب السنية الأخرى أباحته، بل حتى لو حبذته. وكان اعتناق الحكومة السعودية لهذه الدعوة اعتناقا فى الوقت نفسه للمذهب الحنبلى، وتوثقت مع الزمن العلاقة بين أسرة السعوديين وأسرة محمد ابن عبد الوهاب عن طريق المصاهرة، وظلت للأسرة السعودية السلطة الزمنية، بينما ظلت لأسرة ابن عبد الوهاب السلطة الروحية، فللأولين الحكم والسياسة وللثانين الإفتاء والتعليم والقضاء.
6 - الزهد والتصوف
(1)
لم تكن نجد تعرف شيئا عن الترف والنعيم، إذ كانت حياتها تقوم على غير قليل من الشظف، فطبيعى أن لا يتعلق الناس بمتاع الحياة الدنيا، وحقا كانت بعض القبائل النجدية تقطع الطرق على الحجاج فى بعض السنوات طلبا لما فى أيديهم من مال ومتاع، ولكن كان وراءهم أقوام لا يفكرون فى متاع الحياة العاجل انتظارا لما عند الله من الثواب الآجل. ومعروف أن الوهابيين منعوا التلصص وقطع الطرق على الحجاج، كما منعوا التصوف والانتساب إلى الطرق الصوفية.
وكانت المدينتان المقدستان فى الحجاز، ولا تزالان، موئلا للنساك والعباد، ومن قديم كان يجاور فيهما وخاصة فى مكة كبار الزهاد والمتصوفة، فيقيمون فيهما بضع سنوات، وقد ينفقون فيهما العمر كله. ومعروف أن الحج ركن من أركان الإسلام وأن فؤاد كل مسلم يهوى إلى مكة لأداء فريضة الحج فكان طبيعيّا أن لا يوجد زاهد ولا متصوف مشهور فى العالم الإسلامى دون أن يفد على مكة، وقد يقرن حجه بالزيارة النبوية. ونذكر من كبار المتصوفة الذين ألموا بمكة وجاوروا فيها الحلاّج المقتول سنة 309 للهجرة، جاور فيها سنة كاملة. ومرّ بنا فى العصر العباسى الثانى ترجمة له وعرض لشعره الصوفى وبيان لتصوفه وأنه كان تصوفا فلسفيّا، إذ جرت على لسانه كلمات الاتحاد
(1) انظر العقد الثمين فى مواضع متفرقة وكتاب طبقات فقهاء اليمن للجعدى (طبع القاهرة) والعقود اللؤلؤية، وتاريخ الشعراء الحضرميين لعبد الله السقاف وسلافة العصر لابن معصوم وشعراء هجر لعبد الفتاح الحلو (نشر مكتبة دار العروبة).
والحلول. وممن جاور فى مكة بعده القشيرى المتصوف السنى المتوفى سنة 465 وقد سمع بها الحديث، وهو الذى رأب الصدع المتفاقم بين الفقهاء والمتصوفة، فنحّى عن التصوف أفكار الحلول والاتحاد والفناء، وجعل من أول واجبات المتصوف أداء الفروض الدينية.
وجاور بمكة بعده شهاب الدين السّهروردى شيخ الصوفية ببغداد المتوفى سنة 632 وبها لقى ابن الفارض المتصوف المصرى المشهور الذى كان يجاور هناك، وطالت مدة مجاورته إلى خمسة عشر عاما طوالا، وهو يطوف المشاعر مبتهلا إلى الله متغنيا بالحب الصوفى الإلهى ناظما أشعاره الرائعة. وإنشاد البوصيرى لميميته أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ذائع مشهور. ومن متفلسفة المتصوفة الذين جاوروا بمكة ابن عربى المتوفى سنة 638 وفيها نظم ديوانه الصوفى «ترجمان الأشواق» سنة 598 ووضع عليه بمكة أيضا سنة 610 شرحه المسمى:«الذخائر والأعلاق من شرح ترجمان الأشواق» وجاور بها أيضا من متفلسفة المتصوفة ابن سبعين الأندلسى المتوفى بها سنة 669 بعد أن أقام بها سنين كثيرة. ومن ذكرناه من هؤلاء المتصوفة المجاورين بمكة إنما هم قليل من كثير، وأكثر منهم من جاوروا بمكة من الزهاد والعباد وهم لا يحصون كثرة. وكان يتعبد الله معهم أهل المدينتين ومن كان بهما من النساك وإنهم ليفوتون الحصر والاستقصاء، ولنأخذ مثلا كتاب العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين «مكة» فإن من يتصفح تراجمه فى مجلداته الثمانية لا يزال يتنقل فيها من زاهد إلى زاهد ومن عابد إلى عابد.
وإذا ولينا وجوهنا نحو اليمن وجدنا كتاب طبقات فقهاء اليمن لعمر الجعدى لا يزال يتحدث عن زهد كثير من هؤلاء الفقهاء وإعراضهم عن متاع الدنيا الفانى، وحقّا أكثرهم من فقهاء زبيد الشافعية، ولكن الزهد كان يحيى فى كل البيئات وفى كل المدن. وكان كثير من أئمة الزيدية فى صعدة على جانب كبير من الورع والتقوى وكان لذلك أثره فى إمارتهم، فأكبّ فيها كثيرون على النسك والعبادة، وبالمثل كان الرسوليون أو كانت كثرة حكامهم. ولم تكتف اليمن بالزهد، فقد عرفت التصوف السنى وطرقه من شاذلية وجيلانية ورفاعية، واشتهر عندهم صوفى كبير يسمى أحمد بن علوان المتوفى سنة 665 للهجرة وله أتباع كثيرون أو بعبارة أدق دراويش يسمونهم فى اليمن المجاذيب، وهم يطوفون فى البلدان اليمنية مرددين أغانى وأناشيد فى مديح قطبهم الربانى، ويبدو أنه كان من كبار أتباع الطريقة الرفاعية العراقية التى شاعت منذ أواسط القرن السادس، يدل على ذلك ما يرى عند أتباعه إلى اليوم من احتمال الآلام الجسمانية، مصورين بذلك مقدرتهم الخارقة. ومرّ بنا فى حديثنا عن المجتمع اليمنى والغناء فيه أنهم كانوا يتغنون هناك بمقطوعة
لابن الفارض، ولعل فى ذلك ما يدل على صلة التصوف اليمنى بالتصوف السنى المصرى عند ابن الفارض وأمثاله، ولا يبعد أن تكون أشعار البوصيرى فى مدائح الرسول صلى الله عليه وسلم وصلتهم، وتغنوا بها إذ لا نصل إلى نهاية القرن الثامن الهجرى حتى يلقانا عندهم شاعر صوفى سنى هو عبد الرحيم البرعى المتوفى سنة 803 للهجرة، وأشعاره موزعة بين التصوف أو الحب الإلهى والمدائح النبوية. وعلى غراره محمد بن إبراهيم الوزير، وله ديوان شعر كله ابتهالات وزهد وتصوف. ومن صوفية اليمن وزهادهم وراء من سميناهم عبد الله بن أسعد اليافعى صاحب كتاب مرآة الجنان المتوفى سنة 768 وكان كثير العبادة والورع وجاور بمكة وقد تجرد للعبادة والنسك عشر سنوات يتردد فيها بين الحرمين، وزار مصر، وكان ابنه عبد الرحمن زاهدا صوفيا على شاكلته وصحب الصالحين ببلاد كثيرة. وما زالت موجتا الزهد والتصوف تنتشران فى اليمن، وإن كان يلاحظ أن موجة التصوف خفت فى عهد الإمامة الزيدية حين أصبح لها زعامة اليمن فى مواجهة العثمانيين، ولم يكن العثمانيون يعارضون الطرق الصوفية ولا كانوا يتعرضون لأهلها، بينما كان كثيرون من أئمة الزيديين وأتباعهم يحاربون حلقات الذكر المنتشرة فى البلاد، حتى نهاية هذا العصر.
وعلى نحو ما كان الزهد والتصوف منتشرين فى اليمن كانا أيضا منتشرين فى حضرموت حتى لنجد عبد الله السقاف فى كتابه عن شعرائها يقول فى مقدمته: إنك ترى فى شعرهم جميعا طلاء صوفيا. وفى الكتاب شعر زاهد كثير وكذلك شعر صوفى كثير فى محبة الله ومحبة رسوله ومديحه. ويكثر عند السقاف وصف الشاعر بلقب الصوفى الزاهد التقى الورع. ومن الشعراء الصوفية الذين ترجم لهم أبو بكر العيدروس المتوفى سنة 914 وعمر بامخرمة المتوفى سنة 952 وكان كلما سار حفّ به مريدون يذكرون الله وقد يتغنون ويرقصون، وكان له مجلس ذكر وسماع وغناء. وممن ترجم لهم أيضا السقاف عبد الله الحداد العلوى المتوفى سنة 1132 وعبد الرحمن بن مصطفى العيدروس المتوفى سنة 1192 ويفيض كتاب السقاف بسيول من شعر الزهد والتصوف.
ولم تكن عمان وإقليمها يوما بيئة تصوف لغلبة الخوارج الإباضية عليها، وهم بدون ريب أصحاب زهد وتقشف، وقد وصف أبو حمزة الخارجى شبابهم قديما بأنهم «غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح (أنضاء) سهر» وطبيعى أن يتغنى شعراؤهم بالزهد والنسك والعبادة والتقشف ورفض عرض الحياة الزائل ابتغاء ما عند الله من الثواب الآجل. ونجد عند شعراء بنى نبهان لمعة من الزهد والمديح النبوى.
وكانت البحرين بعيدة عن الزهد والتصوف فى عصر القرامطة، وفى ديوان ابن مقرب العيونى بعض أشعار قليلة زاهدة، وهى تشيع فى كتابى سلافة العصر لابن معصوم ونفحة الريحانة للمحيى، وتشيع معها أو تكثر ابتهالات ومناجيات للذات العلية وبعض غزليات فيها روح الغزل الصوفى وما يشيع فيه من وجد. وتلقانا فى كتاب شعراء هجر من القرن الثانى عشر إلى القرن الرابع عشر مواعظ وبعض أشعار زاهدة.