الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليها لو ردته إليه، وله من جملة أبيات:
بصورة الوثن استعبدتنى وبها
…
فنتنى وقديما هجت لى شجنا
لا غرو أن أحرقت نار الهوى كبدى
…
فالنار حقّ على من يعبد الوثنا
والصورة طريقة غير أنه يداخلها شيئ من التكلف، إذ حاول أن يعلل لحرق نار الهوى لكبده بأن صاحبته استعبدته بصورة الوثن، وكأنه عبد وثنا وحقّت عليه النار، ولم يكن فى حاجة إلى إيراد هذه العلة وتكلفها على هذا النحو، فنار الهوى تحرق أكباد الشعراء من قديم، ولعل الصورة التالية أكثر تكلفا إذ يقول فى غزله:
زكاة رءوس الناس فى عيد فطرهم
…
يقول رسول الله-صاع من البرّ
ورأسك أغلى قيمة فتصدّقى
…
بفيك علينا فهو صاع من الدّرّ
فقد وضع صورة الزكاة فى عيد الفطر وما يجب على كل مسلم من تصدقه بصاع من البرّ أو القمح فى هذا العيد، ليصل إلى أن صاحبته ينبغى أن تتصدق عن نفسها لا بصاع من البر وإنما بصاع من الدّرّ، يريد ثغرها وما فيه من درّ الأسنان. والصورة فى غاية التكلف.
وتكثر مثل هذه الصور منذ مطالع هذا العصر، وكأنما أخذ يعيى الشعراء أن يأتوا بصور طبيعية أو كأنما أحسّوا أن أسلافهم استنفدوها، فأخذوا يحاولون الإتيان بهذه الصور الغربية المبعدة فى الغرابة من مثل قول الباخرزى أيضا لبعض صواحبه:
وأبكى لدرّ الثّغر منك ولى أب
…
فكيف يديم الضّحك وهو يتيم
فهو يبكى لأنها لا تنيله شيئا، ويعجب أن يبكى وله أب، بينما ثغرها يضحك، وهو يتيم. والتورية واضحة، فالمعنى المتبادر أنه لا أب لهذا الثغر، وهو يريد أنه منقطع النظير حسنا. والتكلف فى البيت أو قل فى الصورة شديد الوضوح.
3 - شعراء الزهد والتصوف
لا شك فى أن موجة المجون وما اتصل بها من لهو وخمر كانت موجة محدودة، حتى لتكاد تكون قاصرة على البيئات المترفة، أما بيئات الشعب العامة فلم تكن تعرف الترف ولا ما يستتبعه من الخمر والمجون، إنما كانت تعرف قسوة الحياة وشظفها مستعينة عليها بتقوى الله والاستماع إلى الوعاظ فى المساجد بنيسابور وغير نيسابور وما يدعون إليه من الزهد فى الحياة ومتاعها الزائل وانتظار ما عند الله من ثواب ونعيم فى الدار الآخرة. وكان هؤلاء الوعاظ كثيرين كثرة مفرطة، وكانوا يسمّون مجالس وعظهم مجالس التذكير، يذكّرون
الناس بالمحشر وما فيه من أهوال وبعذاب النار ونعيم الجنان، موردين عليهم من قصص الأنبياء والأمم السالفة ما يملأ قلوبهم إيمانا وتقوى وورعا. وكانت العامة تشغف بهم، وتستدير حول مجالسهم منيبة إلى الله مغذّية مشاعرها وعواطفها بما تسمعه من مواعظهم.
وكان نفر من كبارهم مثل أبى عثمان الصابونى شيخ الإسلام بنيسابور المتوفى سنة 449، وكان يعظ الناس بالعربية والفارسية لمدة ستين سنة متوالية (1)، وطبيعى أن يشعر مع هذا الوعظ شعر الزهد على ألسنة الوعاظ والفقهاء والنسّاك، فهو الشعر الذى تهوى إليه أفئدة الشعب، ولذلك مضى ينظمه غير شاعر حتى يستولى على ألباب سامعيه، وتلقانا فى العصر مواعظ كثيرة، من مثل موعظة أبى الفرج الساوى حين توفى السلطان فخر الدولة البويهى، فقد نفذ من موته إلى صنع موعظة طريفة استهلها بقوله (2):
هى الدّنيا تقول بملء فيها
…
حذار حذار من بطشى وفتكى
فلا يغرركم حسن ابتسامى
…
فقولى مضحك والفعل مبكى
بفخر الدولة اعتبروا فإنى
…
أخذت الملك منه بسيف هلك
وقد كان استطال على البرايا
…
ونظّم جمعهم فى سلك ملك
فلو شمس الضّحى جاءته يوما
…
لقال لها عتوّا: أفّ منك
ولو زهر النّجوم أبت رضاه
…
تأبّى أن يقول: رضيت عنك
فأمسى بعد ما قرع البرايا
…
أسير القبر فى ضيق وضنك
وظنّى أنه لو عاد يوما
…
إلى الدّنيا تسربل ثوب نسك
ومضى يتخذ من موت هذا السلطان الباغى عبرة وعظة، فلو أنه عاد إلى الدنيا لطأطأ من كبريائه وعتوّه وظلمه بل لرفض الدنيا زاهدا فيها مؤثرا أن يعيش عيشة النّسّاك. وفى كتاب اليتيمة شاعر يسمى أبا محمد إسماعيل بن محمد الدهان، كان يشغل نفسه حقبة بمديح الأعيان والوجهاء، ثم آثر الزهد والإعراض عن الدنيا، ويورد الثعالبى أطرافا من شعره الزاهد (3) من مثل قوله:
عبد عصى ربّه ولكن
…
ليس سوى واحد يقول
إن لم يكن فعله جميلا
…
فإنما ظنّه جميل
(1) انظر ترجمته فى الأنساب 346 وطبقات المفسرين للسيوطى وتتمة اليتيمة 2/ 115 والسبكى 4/ 271.
(2)
اليتيمة 3/ 393.
(3)
اليتيمة 4/ 432.
وهو يصوّر فناء الإنسان السريع وخوفه من ربه ورجاءه فى لطفه، ويذكر الثعالبى أنه لما أزمع الحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ظل ينشد:
أتيتك راجلا ووددت أنى
…
ملكت سواد عينى أمتطيه
ومالى لا أسير على المآقى
…
إلى قبر رسول الله فيه
ومن شعراء كتاب اليتيمة الذين شاركوا فى هذا الشعر الزاهد الذى يفوح بالتقوى أبو جعفر البحّاث الزّوزنى أحد القضاة بخراسان، وله موعظة طويلة يتحدث فيها عن الشباب ورحيله والمشيب ونزوله، ويقف بإزاء الزمان وما يدير على الناس من كئوس شراب هنئ وشراب بغيض مرير، ويفيض فى الحديث عن الحياة والموت وكيف أتى على الملوك والحشم والجيوش وربات الخدور والحسان، ويسخر من الأغنياء حين يموتون فإن ورثتهم يستبشرون بموتهم، وكل منهم يصبح فى شغل بميراثه، يقول (1):
سباع حواليه زرق العيون
…
كلاب وأسد وذئب أزلّ (2)
فهذا يجاذب ما قد حواه
…
وهذا يخالسه ما فضل
إذا وضعوه على نعشه
…
أشاعوا البكا وأسرّوا الجذل (3)
وإن دفنوه نسوه معا
…
وكلّ بميراثه مشتغل
ويبكى أبو جعفر بدموع غزار على شبابه وما صار إليه من وهن العظم واشتعال الشيب فى رأسه، ويتوب إلى ربه منيبا مستغفرا. ويلقانا هذا الشعر الزاهد على ألسنة كثير من الشعراء فى كتاب دمية القصر، وخاصة منهم القصّاص الوعاظ، وكان طبيعيا أن يفسح هؤلاء الشعراء لمديح الرسول عليه السلام، وعم هذا الشعر الزاهد بين شعراء المحدّثين والفقهاء. وللزمخشرى ديوان لا يزال محفوظا بدار الكتب المصرية وهو ملئ بالأدعية والابتهالات وطلب الشفاعة من الرسول عليه السلام. وللغزالى بدوره أشعار زهدية كثيرة وقد ينزع بها منزع المتصوفة السنيين على شاكلة قوله (4):
سقمى فى الحبّ عافيتى
…
ووجودى فى الهوى عدمى
وعذاب يرتضون به
…
فى فمى أحلى من النّغم
ما لضرّ فى محبتكم
…
عندنا والله من ألم
(1) اليتيمة 4/ 445.
(2)
ذئب أزل: ذئب يتولد بين الضبع والذئب.
(3)
الجذل: الفرح.
(4)
انظر ترجمة الغزالى فى السبكى 6/ 222.
وللفخر الرازى المار ذكره أشعار زهدية طريفة، وكان علامة فى علم الكلام والتفسير والحديث والشرعيات وعلوم الأوائل، وله فى جميعها مؤلفات كثيرة. وكان فى الوعظ آية، وكان يحضر مجالسه أرباب المذاهب والمقالات فى هراة، وكان يعظ باللسانين العربى والعجمى وكان يلحقه الوجد فى الوعظ ويكثر من البكاء، ويشتهر له قوله (1):
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعى العالمين ضلال
وأرواحنا فى وحشة من جسومنا
…
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة
…
فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
…
رجال فزالوا والجبال جبال
فكل ما فى الحياة حتى العلوم عبث وضلال، وما الدنيا؟ إننا لا نجنى منها سوى الأذى والوبال، وسوى العدم والفناء الذى يحيط بالناس جميعا وبالدول مهما عظم سلطانها، فمآلها إلى زوال. ومن كبار الشعراء الفقهاء الزهاد الإمام الرافعى القزوينى الفقيه الشافعى المشهور المار ذكره المتوفى سنة 623 وكان له مجلس فى قزوين لسماع الفقة والتفسير والحديث النبوى، ومن قوله فى الدعوة إلى الرضا بالحظ المقسوم وحمد الله فى اليسر والعسر دائما أبدا (2):
إن كنت فى اليسر فاحمد من حباك به
…
فليس حقّا قضى لكنّه الجود
أو كنت فى العسر فاحمده كذلك إذ
…
ما فوق ذلك مصروف ومردود
وكيفما دارت الأيام مقبلة
…
وغير مقبلة فالحمد محمود
وكان يقول: «اعلم أن الناس فى الرضا ثلاثة أقسام: قوم يحسّون البلاء ويكرهونه ولكن يصبرون على حكمه ويتركون تدبيرهم ونظرهم حبا لله تعالى، لأن تدبير العقل لا ينطبق على رسوم المحبة والهوى، وقوم يضمون إلى سكون الظاهر سكون القلب بالاجتهاد والرياضة، وإن أتى البلاء على أنفسهم:
يستعذبون بلاياهم كأنهم
…
لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
تسّرهم البلية كما تسرهم النعمة، وقوم يتركون الاختيار، ويوافقون الأقدار، فلا يبقى لهم تلذذ ولا استعذاب ولا راحة ولا عذاب». وفى ذكر الرافعى لكلمة المحبة ما يدل على أنه كان ينزع بزهده نزعة صوفية. والتصوف كثير فى العصر ولم يكن النظم فيه يقتصر على
(1) ابن خلكان 4/ 250 والسبكى 8/ 96.
(2)
انظر فى الأبيات وكلام الرافعى التالى السبكى 8/ 286 وما بعدها