الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويكثر مثل هذا الغلو فى المديح منذ أوائل العصر، وأكبر الظن أنه من أصداء مدائح الشيعة لأئمتهم وما أحاطوهم به من هالة قدسية ومن مبالغات مفرطة. وطبعا ألغى ديوان الشعراء بعد الغزو التتارى وركدت سوق الشعر. ونمضى فى القرن السابع فنلتقى بفخر الدين مظفر بن الطرّاح المتوفى سنة 694 وله مدائح كثيرة فى علاء الدين عطا ملك الجوينى صاحب ديوان بغداد (1). وكان يعاصره ابن نعيم الحلى، وله ديوان (2) سماه «شرف المزية فى المدائح العزّية» مدح به صدر الحلّة عز الدين أبا محمد حسن بن الحسين الأسدى الحلى، ويكفى القرن الثامن فخرا ظهور صفى الدين الحلى فيه. ومر بنا فى فواتح الفصل اسم شهاب الدين الموسوى فى العصر العثمانى الأول واسم محمد كاظم الأزرى فى العهد العثمانى الأوسط أو عهد المماليك، ولهما ديوانان يطفحان بالمديح، ولعل من الخير أن نخص بالحديث كبار شعراء المديح فى العصر:
المتنبى
، وسبط ابن التعاويذى، وصفى الدين الحلى.
المتنبى (3)
هو أبو الطيب أحمد بن الحسين من عشيرة جعفىّ المذحجية اليمنية، ولد سنة 303 بحى كندة فى الكوفة، ولذلك قد يقال له الكندى. أما أمه فكانت همدانية، فهو يمنى أبا وأما. وذكر بعض خصومه وهجّائيه أن أباه كان سقّاء، وأضاف بعضهم أن اسمه
(1) العزاوى 1/ 316.
(2)
العزاوى 1/ 317.
(3)
انظر فى ترجمة المتنبى اليتيمة للثعالبى 1/ 110 وتاريخ بغداد 2/ 102 ونزهة الألبا لابن الأنبارى (طبعة دار نهضة مصر) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ص 294 والأنساب للسمعانى ورقة 506 ووفيات الأعيان 1/ 120. وألفت قديما كتب كثيرة حول شعره، منها الموضحة للحاتمى (نشر د. محمد يوسف نجم ببيروت) والرسالة الخاتمية فيما وافق فيه المتنبى كلام أرسطو ورسالة الكشف عن مساوئ المتنبى للصاحب ابن عباد والواضح فى مشكلات شعر المتنبى للاصفهانى (طبع تونس) والفتح الوهبى على مشكلات المتنبى لابن جنى تحقيق د. محسن غياض (طبع بغداد) والفتح على فتح أبى الفتح لابن فورجه تحقيق د. محسن غياض (طبع بغداد) والوساطة بين المتنبى وخصومه لعلى بن عبد العزيز الجرجانى (طبع دار إحياء الكتب بالقاهرة) والصبح المنبى فى الكشف عن حيثية المتنبى للبديعى (طبع دار المعارف) وذكرى أبى الطيب للدكتور عبد الوهاب عزام ومع المتنبى لطه حسن والمتنبى لمحمود محمد شاكر وكتابنا الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة العاشرة) ص 303 وكتابنا فصول فى الشعر ونقده: ما كتب فيه بعنوان العروبة فى شعر المتنبى وكتاب بلاشير عن أبى الطيب المتنبى. ويذكر ابن خلكان أنه وقف حتى عصره على أكثر من أربعين شرحا لديوانه، وأهم شروحه المطبوعة شرح ابن جنى وبينه وبين المتنبى مراجعات كثيرة وشرحه نفيس، ومن شروحه شرح العكبرى وشرح الواحدى وهما مطبوعان. وشرحه أبو العلاء بشرح مطول سماه معجز أحمد، يقصد ديوانه.
«عبدان» . ولم يعر ابن خلكان هذه الدعوى اهتماما، وهى دعوى ملفقة كيدا للشاعر الفذّ وحسدا. وكل شئ فى سيرة الشاعر يؤكد بطلانها، فقد ذكروا أن أباه ألحقه بكتّاب أبناء الأشراف، ويبعد أن ينتظم فى سلك هؤلاء الأبناء وأبوه سقّاء يحمل الماء لأهل الحى القاطن به. وقد تفتحت موهبته الشعرية مبكّرة، وهو فى نحو الثامنة من عمره، واتفق أن قال له بعض رفاقه من الصّبية: ما أحسن وفرتك وشعرك، وفوجئ الصّبىّ بردّه:
لا تحسن الوفرة حتى ترى
…
منشورة الضّفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة
…
يعلّها من كل وافى السّبال
فالوفرة-أو الشعر المجتمع على الرأس-لايحسن منظره إلا يوم القتال حين تشعّث ذوائبه على رأس فتى باسل يعتقل صعدة أو رمحا يعلّها أو يرويها من دماء الرجال، فتى لا يبرح ميادين النضال والقتال. وفى ذلك ما يدل على أنه كان يستشعر منذ نعومة أظفاره نفسا كبيرة بين جنبيه، نفسا ستعيش للفتوة والإقدام، ولن يجذبها أى جمال حسى أو متاع مادى فى الحياة، مما جعله ينصرف عن الخمر بل ينهى عن احتسائها، أما ما قيل من حبه للعبة الشطرنج فلأنها تمثل مواقع الحرب والعراك. وما يكاد الفتى يبلغ التاسعة من عمره، حتى يغزو القرامطة الكوفة ويسفكوا الدماء ويسبوا النساء، ويفرّ الناس منها جزعا وفزعا، ويفر به أبوه إلى بادية السماوة بين العراق والشام ويظل المتنبى نحو عامين أو ثلاثة يتردد فى القبائل ويتغذّى بلغتها، وتتغذّى فتوته الجاثمة بين ضلوعه. ويعود إلى الكوفة فى مستهل سنته الثانية عشرة، ولا ندرى هل كان أبوه لايزال حيا أو أنه توفّى قبيل عودته أو بعد عودته بقليل، ونظن ظنا أن أمه فارقت الحياة قبل أبيه، بل لعلها فارقتها وهو لا يزال رضيعا. وإنما يحملنا على ذلك أننا لا نجد لأمه ولا لأبيه ذكرا فى ديوانه، بينما نجده يرثى جدته وهو فى نحو الثلاثين من عمره رثاء حارا قائلا:
ولو لم تكونى بنت أكرم والد
…
لكان أباك الضّخم كونك لى أمّا
وفى تسميته لها بأنها أمه ما قد يشهد بوفاة أمه فى باكورة حياته وأن جدته هى التى قامت على تربيته. وحاول بعض المعاصرين أن يلقى شيئا من ظلال الشك على نسبه، لأنه لم يذكر فى شعره أباه ولا أمه مما قد يؤكد أنه كان يشعر بشعور الضعة من ناحية أسرته وأهله الأدنين، وجعله ذلك يبغض الناس. والنتيجة ومقدمتها غير صحيحتين، فإن كثيرا من شعراء العرب لم يذكروا فى أشعارهم آباءهم ولا أمهاتهم، وليس فى ذلك أى دليل على
أن أسرهم كانت وضيعة، بل إننا نجد سيد بنى عامر وفارسهم فى الجاهلية عامر ابن الطفيل يقول:
وما سوّدتنى عامر عن وراثة
…
أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
فهو يفخر بأن سيادته لقومه ليست وراثة عن آبائه، مع أنهم كانوا سادة بنى عامر فعلا، ويريد أن يقول إنه ساد بنى عامر ببأسه وأعماله المجيدة، بالضبط كما قال المتنبى:
لا بقومى شرفت بل شرفوا بى
…
وبنفسى فخرت لا بجدودى
وبهم فخر كلّ من نطق الضّا
…
د وعوذ الجانى وغوث الطّريد
على أن المتنبى يعود فيفخر بقومه، أما عامر فيطلق فخره بنفسه إطلاقا. ولعل فى ذلك ما يدل على أن كل ما رتبه بعض المعاصرين على هذين البيتين للمتنبى وما حاولوا أن يسوقوا من شك فى نسبه غير صحيح. ومن المؤكد الذى لا يرقى إليه شك أن المتنبى كان عربيا صميما وأن العرب لم ينبت بينهم شاعر قبله ولا بعده استشعر العروبة استشعاره حتى لو أردنا أن نقيم للعروبة والعرب تمثالا لكان المتنبى هو الشاعر الخليق بأن يقام له هذا التمثال، وقد لبس درعا، وشدّ فى وسطه منطقة وسيفا، وفى إحدى يديه رمح مصوّب وفى الأخرى ريشة الشاعر، وهو يمتطى حصانا وكأنه يطلب القتال والنزال. فهو هذا التمثال الذى يرمز أروع رمز إلى العرب واستصغارهم لذوى الحكم والسلطان وصياحهم فى وجوه أعدائهم، وإنه ليصيح بكل قوته هادرا عاصفا، يريد أن يوقظ من حوله من العرب ويستنقذهم مما تورطوا فيه من هوان وتواكل واستسلام لحكامهم العاتين، ومن أجل ذلك يصور نقائصهم بمثل قوله:
ودهر ناسه ناس صغار
…
وإن كانت لهم جثث ضخام
وليس ذلك عن بغض للناس كما قال بعض المعاصرين وإنما محاولة صارمة لتخليصهم من أخلاقهم الذميمة التى جعلتهم يخنعون لحكامهم الأعاجم الذين كانوا يرهقونهم من أمرهم عسرا.
وستتضح شخصية المتنبى حين نتابعه فى حياته، وقد رأيناه يخرج إلى البادية فى سن التاسعة ويعود فى الثانية عشرة من سنّه، ويكبّ على كل ما كان فى الكوفة من ثقافات، فإذا هو يلتهم كتب اللغة التهاما ويلتهم أيضا كتب النحو. ويتعرف على كتب الفلسفة عن طريق ممدوح كوفى له يسمى أبا الفضل وعن طريقه يتعرف على التصوف. وبكل ما قدمنا نستطيع أن نعرف العناصر التى أسهمت فى تكوين شخصيته، فهو عربى لحما ودما، وتستأثر
به العروبة إلى أقصى حد حتى لتجعله لسانها الناطق بها طوال حياته. وهو قد تغذى بلبان البادية، وأفادته صقلا فى لغته ووقوفا على الغريب والشواذ اللغوية، كما أفادته صقلا فى فتوته وإحساسه بعروبته، ثم هو قد ثقف كل أنواع الثقافات فى عصره، واقترض منها فى شعره صيغا من النحو الكوفى الشاذ ومن الغرائب اللغوية ومن الأفكار والألفاظ والعبارات الفلسفية، ومن مصطلحات التصوف وشارات عباراته. وكل ذلك فصّلنا الحديث عنه فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» .
وكان أبواه قد توفيا، وأكثر القرامطة من غاراتهم على الكوفة فى سنوات 315 و 316 و 319 فرأى الفتى أن يبرح مسقط رأسه إلى بغداد، ومدح بها أحد العلويين ومتصوفا يسمى هرون بن على الأوراجىّ، ولا نراه يمدح خليفتها ولا حاكمها الأعجمى ولا أحدا من ذوى السلطان، وكأنما وقف حائلا بينه وبينهم ما رآه بأم عينه من فساد الحكم وتسلط الحكام الأعاجم على العرب، ويتألم لما أصابهم من ذلك وهوان، ويفعم صدره بمشاعر العروبة، وتثور نفسه ثورة عاصفة ويصيح من أعماقه:
إلى أى حين أنت فى زى محرم
…
وحتى متى فى شقوة وإلى كم؟
وإلا تمت تحت السيوف مكرّما
…
تمت وتقاس الذلّ غير مكرّم
فثب واثقا فى الله وثبة ماجد
…
يرى الموت فى الهيجا جنى النّحل فى الفم
وهو يستحثّ نفسه والعرب من حوله أن يخلعوا زىّ المحرمين بالحج، يريد زىّ الاستسلام إزاء حكام بغداد الأعاجم الفاسدين، ويلبسوا مكانه دروع الحرب لمنازلتهم منازلة لا تبقى منهم ولا تذر. وييئس ممن حوله أن يثوروا معه ضد الفساد والظلم والطغيان ويولّى وجهه نحو بوادى الشام وحواضرها ويمدح شيوخ البدو وبعض رعاة الأدب فى طرابلس واللاذقية، وهو لا يكفّ عن المجاهرة بالثورة على الحكام الأعاجم الجائرين الذين لا يرعون للعرب حرمة ولا عهدا ولا ذمة، ويصيح فى قومه:
وإنما الناس بالملوك وما
…
تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب
…
ولا عهود لهم ولا ذمم
وهو يقول إنه لن يكتب للعرب فلاح طالما كانوا مستذلّين للحكام الأعاجم راضخين لسلطانهم مع ما يسومونهم به من العسف والقهر. ويمضى فى دعوته وثورته فى بوادى الشام من اللاذقية إلى بعلبك، ويحسّ فى أهل «نخلة» بالقرب من بعلبك تواكلا وتخاذلا وأنهم لا يسارعون معه إلى الثأر لكرامتهم المهدرة، فيستثيرهم بقصيدة ملتهبة يقول فيها:
ما مقامى بأرض نخلة إلا
…
كمقام المسيح بين اليهود
عش عزيزا أومت وأنت كريم
…
بين طعن القنا وخفق البنود
واطلب العزّ فى لظى ودع الذ
…
لّ ولو كان فى جنان الخلود
أنا ترب النّدا وربّ القوافى
…
وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا فى أمة تداركها اللّ
…
هـ غريب كصالح فى ثمود
وكان تشبيهه لنفسه فى القصيدة بالمسيح وبالنبى صالح سببا فى أن يتهمه بعض معاصريه بادعائه النبوة، وبالغوا فزعموا أنه ادّعى لنفسه قرآنا ذكروا بعض فقر منه، وكل ذلك غير صحيح، فقد كانت ثورته سياسية قومية لا دينية ولا قرمطية كما توهم بعض الباحثين. أما لقبه المتنبى فهو الذى لقب نفسه به، أو لعل بعض المعجبين بشعره هم الذين لقبوه به، رمزا لعبقريته الشعرية وأنه يأتى فى أشعاره بالمعجز الذى ليس له سابقة. وهو يضع فى البيتين الثانى والثالث دستور العرب على مرّ التاريخ فإما العيش العزيز وإما الموت الكريم فى ساحة الشرف والنضال، ولا حياة بدون العزة والكرامة. وإن العربى الحرّ ليفضّل العز فى الجحيم على الذل فى الفراديس. ويترك قرية نخلة إلى بادية اللاذقية ويتبعه كثيرون لأواخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ويقود ثورة ضارية، وكان لا يزال فى العشرين من عمره.
ويقضى لؤلؤ والى حمص من قبل الإخشيد على ثورته ويزجّ به فى غياهب السجن. ويظل به نحو سنتين، وتردّ إليه حريته، ويعود إلى توقيع أشعاره على قيثارته فى مديح ولاة البلدان الشامية، وخاصة بدر بن عمار الأسدى صاحب دمشق من قبل بغداد، ووجد فيه المتنبى أمنيته فى فارس عربى، فمدحه ونوّه بفروسيته فى تصويره الرائع لفتكه بأسد، مستهلا له بقوله:
أمعفّر اللّيث الهزبر بسوطه
…
لمن ادّخرت الصّارم المصقولا
يقول له إنك صرعت الأسد بسوطك فلمن أبقيت سيفك، ومضى يشيد ببأسه ومضائه. وظل لا ينسى دعوته إلى الثورة مستنهضا همم قومه ضد حكامهم الأعاجم بمثل قوله:
لا يعجبنّ مضيما حسن بزّته
…
وهل يروق دفينا جودة الكفن
وقوله:
ذلّ من يغبط الذّليل بعيش
…
ربّ عيش أخفّ منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه
…
ما لجرح بميّت إيلام
وفى أواخر هذا الاضطراب بين ولاة الشام التابعين لبغداد والآخرين التابعين لمصر جاءه
نعى جدته، فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها رثاء حارا بميميته التى يقول فيها مفاخرا بقومه وأهله:
وإنى لمن قوم كأن نفوسهم
…
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
فلا عبرت بى ساعة لا تعزّنى
…
ولا صحبتنى مهجة تقبل الظّلما
وهما بيتان رائعان يصوران الأنفة والعزة إلى أبعد حد، وهو جانب فى شعر المتنبى جعله محبّبا لكل عربى، إذ تتوهج أشعاره بخصال العربى الكريم وما يشعر به من العزة والأنفة والإباء والشعور بالكرامة والترفع عن الدنايا إلى أقصى حد، وكأنه ترجمان العرب عن فضائلهم العليا الوطيدة كالصخر. وبهذه النفس العاتية كان المتنبى ينظم شعره منذ سال على لسانه فى الكتّاب معبرا عن الروح العربية التى لا تقهر، مهما نزل بها من الكوارث والخطوب. وهو نفسه قد نزلت به كارثة أو محنة إخفاق ثورته، ومع ذلك لا يزال يهدر ويزمجر ويزأر، ولا يجد سميعا ولا مجيبا. وتحدّثه نفسه فى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة أن يقدّم مدائحه لولاة سيف الدولة الحمدانى، وكان أميرا لحلب واتسع بإمارته إلى حمص وأنطاكية منتزعا لهما من يد الإخشيديين، فقّدم المتنبى مدائحه إلى واليه على أنطاكية أبى العشائر الحمدانى ابن عمه، فأجزل له فى العطاء. ومضى فى مديحه، ويقدم سيف الدولة إلى أنطاكية فى جمادى الأولى من سنة سبع وثلاثين، فيمدحه المتنبى، ويعجب كل منهما بصاحبه، ويطلب سيف الدولة منه أن يصطحبه إلى حلب وينزل عنده، ويقول الرواة إن المتنبى اشترط عليه أن لا يقبّل الأرض بين يديه وأن لا ينشده مدائحه إلا قاعدا، ويجيبه سيف الدولة إلى شرطيه، ولعل فيهما ما يشير إلى شعور المتنبى بالعزة والكرامة شأن العربى الأصيل. ويظل المتنبى عنده تسع سنوات، ينظم فيها مدائح وأشعارا فى أميره، تؤلف ديوانا، وهو ديوان من أنفس دواوين الشعر العربى، لا من حيث كثرة قصائده فحسب، بل أيضا من حيث روعتها، وقد بلغت نحو أربعين قصيدة وإحدى وثلاثين مقطوعة، واستقرّ حينئذ فى نفسه أنه لقى أمل العرب وحاميهم وفارسهم الذى يمزّق جموع الروم شرّ ممزّق فى الشمال، وغدا يمزّق جموع الحكام الأعاجم من البويهيين فى بغداد، ويردّ للعرب دولتهم المفقودة. وكان سيف الدولة بحق بطلا مغوارا وشجاعا مقداما، حطم جيوش الروم مرارا واستنقذ منهم غير ثغر وحصن، وكان المتنبى يصحبه فى غزواته، حتى إذا عاد معه أنشده بحلب ما نظمه فى بطولته وبطولة جنوده. وكانت أول موقعة حضرها الشاعر مع البطل موقعة الحدث سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. وكان الروم قد استولوا على هذا الحصن، فرأى سيف الدولة أن يستردّه ويعيد بناءه، وأعدّ جيشا جرّارا
زحف به من حلب، ولقيه الروم وهزموا هزيمة ساحقة، قتل منهم فيها ثلاثة آلاف من بينهم ابن القائد برداس فوكاس وصهره، وأسر منهم آلاف، وضعت فى أرجلهم الأغلال والسلاسل، وبنى سيف الدولة الحصن بين تكبير المسلمين وتهليلهم، وسجل المتنبى الموقعة فى ميمية رائعة خاطبه فيها مبتهجا بقوله:
وقفت وما فى الموت شكّ لواقف
…
كأنك فى جفن الرّدى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة
…
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
ضممت جناحيهم على القلب ضمّة
…
تموت الخوافى تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب
…
وصار إلى اللّبّات والنصر قادم
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة
…
كما نثرت فوق العروس الدراهم
وهو يصور سيف الدولة فى المعركة رابط الجأش ثابت الجنان والرءوس تتطاير والأشلاء تتناثر، والموت يحدق من كل جانب، وكأنه فى جفنه وهو نائم عنه، مهابة ليس وراءها مهابة. وتمر به جنود الروم جرحى مهزومة هولا ورعبا، ولم يلبث أن لفّ جناحى جيشهم على القلب لفّة سريعة وحطم رءوسهم حطما إلى اللبّات والنحور. وولوا الأدبار مندحرين وسيف الدولة وجنوده ينثرونهم على جبل الأحيدب كما تنثر الدراهم على العروس ابتهاجا، وكأنه لم يكن يوم حرب، إنما كان يوم زفاف لنصر عظيم. والمتنبى لا يبارى فى وصفه لوقائع سيف الدولة مع الروم، حتى لكأنما نسمع فى قصائده السيفية قعقعة السلاح، وهى لا شك القطع الأرجوانية الرائعة فى ديوانه، وبحق قال ابن الأثير:«اختص المتنبى بالإبداع فى مواقع القتال. . وذلك أنه إذا خاض فى وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها وأشجع من أبطالها وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى يظنّ أن الفريقين قد تقابلا والسلاحين قد تواصلا» . وتوفّيت فى نفس هذا العام عام سبعة وثلاثين أمّ سيف الدولة فرثاها بقصيدة بديعة، وفيها يقول بيتيه المشهورين:
رمانى الدهر بالأرزاء حتى
…
فؤادى فى غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتنى سهام
…
تكسّرت النّصال على النصال
ونفس عليه كثيرون من حاشية سيف الدولة-وفى مقدمتهم أبو فراس الحمدانى الشاعر-منزلته، فأخذوا يكيدون له عنده، وأحسّ المتنبى بكيدهم، وأن سيف الدولة يرهف سمعه إليهم، فأنشده قصيدة ميمية يعاتبه فيها عتابا مرّا بمثل قوله:
يا أعدل الناس إلا فى معاملتى
…
فيم الخصام وأنت الخصم والحكم
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا
…
أن لا تفارقهم فالراحلون هم
ويحاول سيف الدولة مرضاته ولكن حاشيته تظل تكيد له، وعجيب أمر الناس فإنهم يظلون يحسدون الأديب، حتى لو كانت ملكاته من الخصب مثل المتنبى، بل هم يحسدونه لهذه الملكات ويحاولون أن يفسدوا بينه وبين راعيه. ومن عجب أن يسمع سيف الدولة لحساد المتنبى، وهو لم يكن يقدم له مدائح المعجب فحسب، بل مدائح المحب المفتون، وإنه ليعلن ذلك فى غير قصيدة من مثل قوله:
مالى أكتّم حبّا قد برى جسدى
…
وتدّعى حبّ سيف الدولة الأمم
ولعله أول من خلط المديح بالحب بل إنه ليخلط به وصف المعامع، إذ يسوق فيه ألفاظ النسيب والتشبيب والغزل كقوله:
أعلى الممالك ما ينبى على الأسل
…
والطّعن عند محبّيهنّ كالقبل
ويصمم على الرحيل، ويرحل إلى دمشق، ويلتقى فيها بأصحاب كافور وأوليائه، فيغرونه بلقائه فى الفسطاط وأنه لابد أن سيقيمه واليا على «صيداء» أو ما يماثلها من بلدان الشام، وكأنما زيّنت نفسه له حين يوليه ولاية من الولايات أن يستبد بالأمر دونه ويحقق أمانيه القديمة فى إقامة الدولة العربية المنشودة. وينزل بساحته على ضفاف النيل سنة 346 وينثر عليه كافور أمواله، فيصارحه بمثل قوله:
وما رغبتى فى عسجد أستفيده
…
ولكنها فى مفخر أستجدّه
ويلوّح فى غير قصيدة بوعد أصحابه له بأنه سيمنحه ولاية، ولكن دون جدوى، فينتقم منه شر انتقام إذ استطاع بخبرته فى الصياغة الشعرية أن يوجه له مدائح هى فى ظاهرها ثناء ولكنها فى باطنها هجاء مرّ من مثل قوله:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا
…
لمن بات فى نعمائه يتقلّب
والبيت يمكن أن يحمل على من يسبغ عليه العطاء فلا يعترف بالجميل، وبذلك يكون من الظلم بمكان. ويمكن أن يحمل على كافور وأنه يحسد من يسدى إليه العطاء، وبذلك يصفه بدناءة لا تدانيها دناءة. ويقول بعض الباحثين إن المتنبى استذلّ نفسه حين رضى بمدح كافور الأعجمى الحبشى، وهو الذى طالما هجا الأعاجم، ويستطردون فيقولون إنه تخلّى عن مسئوليته الأدبية. وليس هناك تخل من المتنبى ولا ما يشبه التخلى، فقد مدح كافورا فى سبيل أن يصبح صاحب ولاية وسلطان، فلما ماطله، سلّ عليه لسانه، وظل له عنده شعوره الجامح بكرامته وفتوة نفسه، حتى كأن نفسه من طبيعة فوق طبيعة نفوس الناس، فهى لا تضعف ولا تهرم، مهما تقدمت بالمتنبى السن ومهما اشتعل عذاره شيبا، بل لكأن شعرات شيبه البيضاء حراب مشرعة لنزال أعدائه، حراب من
ورائها نفس تزمجر، لها أنياب الأسد ومخالبه، ويصور ذلك تصويرا رائعا فى قصيدة مدح بها كافورا سنة تسع وأربعين إذ يقول:
وفى الجسم نفس لا تشيب بشيبه
…
ولو أنّ ما فى الوجه منه حراب
لها ظفر إن كلّ ظفر أعدّه
…
وناب إذا لم يبق فى الفم ناب
فاليأس المرير الذى ذاقه طوال أربع سنوات مجدبة لم يمس نفسه، بل ظلت فتية فتوة خليقة بكل إكبار. وفى أواخر مقامه بمصر ألمّت به حمّى، فوصف نزولها به فى الظلام ومبيتها فى عظامه وأثرها فى جسمه وصفا رائعا، ولها يقول بيته البديع:
أبنت الدّهر عندى كلّ بنت
…
فكيف وصلت أنت من الزّحام
وعرّض فى القصيدة برحيله، فقد أحسّ بإخفاق رحلته إلى مصر وارتحل بليل، وهو يرمى كافورا بشواظ من هجائه على نحو ما نرى فى داليته، وقد مزّق فيها أديمه تمزيقا بمثل قوله:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
…
إن العبيد لأنجاس مناكيد
وسقط بعض شرر من هجائه على مصر، ولكنه لم يكن يقصدها لنفسها، إنما كان يقصد كافورا بهجائه وذمه. وقد بارحها فى أواخر سنة ثلاثمائة وخمسين، واتجه إلى الكوفة مسقط رأسه، واشترك مع أهلها فى الدفاع عنها حين هاجمها القرامطة، ولعل فى ذلك ما يقطع بأنه لم يكن قرمطيا يوما. ويرسل إليه سيف الدولة بهدية ومعها كتاب بخطه ويرد عليه بلامية بديعة يستحثه على منازلة البويهيين الأعاجم ببغداد وينزلها فى سنة إحدى وخمسين، وفيها يجتمع له كثيرون يأخذون عنه ديوانه، ويتعرض له الحاتمى-بإيعاز من الوزير المهلبى- ينقد بعض أشعاره، وتكون فى ذلك قطيعة بينه وبين الوزير فلا يمدحه، ويعود إلى الكوفة بعد أشهر، ويكاتبه ابن العميد فى سنة ثلاث وخمسين متوددا إليه آملا فى زيارته ويقدم عليه فى «أرّجان» سنة أربع وخمسين ويمدحه بقصيدة يشيد فيها بالضاد قائلا فى وصفه:
عربىّ لسانه فلسفىّ
…
رأيه فارسيّة أعياده
فمفخرة ابن العميد الكبرى فصاحة لسانه وعروبة بيانه، ويستقدمه عضد الدولة إلى «شيراز» ويمرّ ببستان يسمى «شعب بوّان» ويروعه جماله، غير أنه مع روعته كدّر نفسه أن لا يرى أثرا للعروبة فيه وفيما حوله من ديار، مما جعله يفتتح قصيدته بقوله:
مغانى الشّعب طيبا فى المغانى
…
بمنزلة الرّبيع من الزمان
ولكنّ الفتى العربىّ فيها
…
غريب الوجه واليد واللسان
وأروع مدائحه فى عضد الدولة هائيته، وهو يستهلها بتصوير حنينه إلى منازل حبيباته العربيات فى الشام، وتطغى عليه حرارة هذا الحنين وما يلبث أن يجسّمه فى فتاة عربية شامية خلبت لبه، ويصور جمالها وعفتها بمثل قوله:
كلّ جريح ترجى سلامته
…
إلا فؤادا دهته عيناها
فى بلد تضرب الحجال به
…
على حسان ولسن أشباها
فيهنّ من تقطر السيوف دما
…
إذا لسان المحبّ سمّاها
إنهن عربيات دونهن الموت الزّؤام. وعلى هذا النحو ظلت العروبة تختلط بدمائه، حتى أنفاسه الأخيرة فقد بارح شيراز سريعا، وفى طريقه بالقرب من بغداد خرج عليه فى أواخر شهر رمضان من سنة 354 فاتك بن أبى جهل فى بعض الشذاذ من قطاع الطرق، وصرعه هو وابنه وغلمانه، وبذلك أحال أعراس الشعر مآتم على شاعر العروبة العبقرى: مآتم حداد وسواد. وقد بكاه كثير من معاصريه بكاء حارا.
ولعل فيما قدمنا ما يصور الموضوعات الاساسية التى تغنى بها المتنبى، وهى المديح والهجاء والفخر والرثاء، وأروع مدائحه كما قدمنا ما نظمه فى سيف الدولة وتصوير معاركه، وهجاؤه ينبثّ فى مدائحه ونقصد هجاءه لأعاجم بغداد، وفيهم يقول:
فى كل أرض وطئتها أمم
…
ترعى بعبد كأنهم غنم
يستخشن الخزّ حين يلبسه
…
وكان يبرى بظفره القلم
والبيت الثانى يحمل سخرية قاتلة فقد كانوا-كما يقول-عبيدا غلاظا لا يعرفون إلا الملابس الخشنة، وقد طالت أظفارهم، وإذا هم يعيشون فى النعيم، يلبسون الإستبرق بل يستخشنونه، ويملئون ديار العرب بغيا وظلما، ومرت بنا أبيات أخرى فى هجائهم، وأشرنا إلى هجائه لكافور وهو هجاء مرير. ويكثر الفخر فى شعر المتنبى، وهو طبيعى لمن يتصف بالبأس والشجاعة واحتمال المكاره والطموح والثقة بالنفس ثقة تدفعه إلى مغالبة الزمن حتى ليقول:
أمثلى تأخذ النكبات منه
…
ويجزع من ملاقاة الحمام
ولو برز الزمان إلىّ شخصا
…
لخضّب شعر مفرقه حسامى
وفى ديوانه مراث مختلفة، ولكن أهمها مرثيته فى جدته والأخرى التى نظمها فى أم سيف الدولة، وقد مرت الإشارة إليهما، والمرثية الأولى تطفح بالفخر بينما تطفح الثانية بالتفكير فى الحياة والموت، وفيها يقول:
يدفّن بعضنا بعضا وتمشى
…
أواخرنا على هام الأوالى