الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لو أن للّيث الهزبر سطاه لم
…
يلجأ إلى غاب له وعرين
وغزله فى مفتتح هذه المدحة رائع، وله فى القاضى الفاضل ثلاث مدائح أروعها رائية يشكو فيها فقد بصره شكوى مرة، إذ يقول:
ناء عن الأحياء فى برزخ
…
منقطع من بينهم ذكرى
ليل حجاب لا أرى فجره
…
يا من رأى ليلا بلا فجر
وفى الحق أنه كان شاعرا بارعا، وقد وفّاه ابن خلكان حقه من الثناء، ونحس عنده كأن نبعا سائغا شرابه يتدفق عذبا عذوبة حلوة.
صفىّ (1) الدّين الحلّى
هو عبد العزيز بن سرايا الحلّى الطائى، ولد بالحلّة القريبة من الكوفة سنة 677 لأسرة على شئ من اليسار وسعة الحال، فكان طبيعيا أن تلحقه بكتّاب يتعلم فيه القراءة وحفظ القرآن الكريم وبعض الأشعار. وكان الغلمان من لداته يتدرّبون على ركوب الخيل فحاكاهم فى هذا التدرب. وأحسّ فى نفسه ميلا شديدا إلى الشعر، فأكبّ على حفظ نصوصه العباسية والإسلامية والجاهلية، مما جعله فيما بعد يعنى بتضمين كثير من هذه النصوص فى شعره وبعض موشحاته. ويبدو أن موهبته الشعرية استيقظت فيه مبكرة، إذ يقول فى المقدمة التى صنعها لديوانه:«إنى كنت قبل أن أشبّ عن الطوق، وأعلم ما دواعى الشوق، لهجا بالشعر نظما وحفظا، متقنا علومه معنى ولفظا» . وهو يقصد بالعلوم علوم العربية وعلوم البيان والمعانى والبديع، ونراه فيما بعد يؤلف فى الجناس كتابا سماه «الدر النفيس فى أجناس التجنيس» . ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أنه ألّف قصيدة بديعية هى مدحة نبوية تضم أبياتها نحو مائة وخمسين محسّنا من محسنات البديع. ومن مؤلفاته كتاب الأوزان المستحدثة مثل الدوبيت وغيره، وأيضا كتاب العاطل الحالى، وهو-كما مرّ بنا-فى فنون الأشعار العامية. ويصرح فى مقدمة ديوانه بأنه لم يفكر فى بدء حياته أن يمدح أحدا أو يهجو أحدا، بل لقد كان يرى أن يبتعد بأشعاره عن هذين الجدولين، وجعله ذلك لا ينظم إلا فى موضوعين هما مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وآله، والفخر بآبائه. ولم يكد
(1) انظر فى ترجمة صفى الدين الدرر الكامنة لابن حجر 2/ 479 وفوات الوفيات لابن شاكر الكتبى 1/ 579 والبدر الطالع للشوكانى 1/ 358 والنجوم الزاهرة 10/ 238 وكتاب شعر
صفى الدين الحلى
للدكتور جواد احمد علوش (طبع بغداد). وديوانه طبع فى القرن الماضى طبعتين: طبعة فى دمشق وطبعة فى بيروت وكلتاهما مليئة بالأخطاء وفى دار الكتب المصرية منه أربع مخطوطات
يتجاوز العشرين من عمره حتى تعاظمت الحزازات والثارات بين عشيرته أو أسرته وبعض الأسر أو العشائر فى الحلّة، وقتل خاله، وبكاه فى غير قصيدة وأخذ يدعو للثأر له، فنشبت معارك وسفكت دماء، وهاله أن يرى ذلك تحت بصره، فلم تدخل سنة سبعمائة حتى خرج عن الحلّة، ولم يكتف بالبعد عنها فى بغداد، فقد أبعد فى ارتحاله حتى نزل عند ملوك ماردين فى الموصل من آل أرتق أصحابها وأحسن لقاءه واستقباله ملكها المنصور نجم الدين غازى بن أرتق، وهو يشيد به وبعطاياه وعطايا ابنه الملك الصالح فى مقدمته للديوان، وفى استقبال المنصور له يقول:
لاقيتنا ملقى الكريم لضيفه
…
وضممتنا ضمّ الكمىّ لسيفه
وقد أنزله فى دار فخمة نوّه بها فى شعره، وظل يصحبه فى حلّه وترحاله ونزهاته، وفيه نظم مدائح كثيرة فى الأعياد وفى بعض انتصاراته. ولم يكتف بذلك فقد رأى أن ينظم فيه ديوانا مستقلا سماه «درر النّحور فى مدائح الملك المنصور» وهو ملحق بديوانه المطبوع فى دمشق، ويحتوى على تسع وعشرين قصيدة اشترط فيها على نفسه أن تكون كل قصيدة منها على حرف من حروف المعجم التسعة والعشرين، وأن يكون عدد أبيات كل منها تسعة وعشرين، وأن يبدأ فى كل بيت منها، ويختتمه بنفس الحرف، وفى إحداها يقول:
ربّ النّوال ومحمود الخصال ومق
…
دام النّزال وأمن الخائف الحذر
راعى الأنام بعين غير راقدة
…
قد وكّلت فى أمور الملك بالسّهر
راض مع السخط يبدى عزم منتقم
…
للمذنبين ويعفو عفو مقتدر
راحاته مذ نشا فى الملك قد عاهدت
…
يوم النّدى والرّدى بالنفع والضّرر
ولا ريب فى أن هذا الصنيع ضرب من التكلف الشديد، ولذلك حين نقرأ قصائد هذا الديوان نشعر كأننا بإزاء لون من الشعر التعليمى الذى يراد به إظهار المهارة اللغوية.
ويتوفّى الملك المنصور سنة 712 ويخلفه ابنه الملك الصالح وتظل له منزلته، ويظل له راتبه الذى كان يأخذه فى عهد أبيه، ويصحبه فى نزهاته وخروجه للصيد، ويتخذه أنيسا له فى مجالس شرابه. ونراه فى أواخر العقد الثانى من هذا القرن الثامن وقد مرّ به نحو عشرين عاما فى ظلال الدولة الأرتقية يفكر فى زيارة الشام بحجة رغبته فى التجارة، وكانت تجارته الدارّة شعره، فنزل بحماة ومدح سلطانها المؤيد وابنه الأفضل، وفى أثناء مقامه عندهما يرسل بمدائحه إلى الملك الصالح، ويفكر فى قضاء فريضة الحج، ويحج إلى بيت الله الحرم فى سنة 723 ويزور قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفكر فى العودة ولا يعود إلى الموصل ولا إلى الشام ولا إلى بغداد، إذ يتجه إلى القاهرة وينزل بساحة سلطانها الناصر محمد بن قلاوون،
ويستقبله أدباء مصر استقبالا حافلا، ويمدح الناصر بقصيدتين، ربما كانا أروع مدائحه جميعا، أما أولاهما فعارض بها قصيدة المتنبى:
بأبى الشموس الجانحات غواربا
…
اللابسات من الحرير جلاببا
واختياره لمعارضة المتنبى شاعر العربية الفذ دليل قوى على ثقته بنفسه، وقد أظهر فى معارضته براعة فائقة، وهو يستهل معارضته بقوله:
أسبلن من فوق النّهود ذوائبا
…
فجعلن حبّات القلوب ذوائبا
والجناس فى كلمتى ذوائب بديع، فالأولى بمعنى الضفائر، والثانية من الذوبان، والجناس كثير فى شعره، وكان يعرف بمقدرته الشعرية كيف يجعله سائغا. ويمضى فى مديح الناصر قائلا:
الناصر الملك الذى خضعت له
…
صيد الملوك مشارقا ومغاربا
لم تخل أرض من ثناه وإن خلت
…
من ذكره ملئت قنا وقواضبا
ترجى مواهبه ويرهب بطشه
…
مثل الزمان مسالما ومحاربا
فإذا سطا ملأ القلوب مهابة
…
وإذا سخا ملأ العيون مواهبا
ولم يفتتح القصيدة الثانية بالنسيب أو الغزل. وكأنما سحر الطبيعة المصرية وجمال رياضها وبساتينها ملأ عينيه وقلبه، فرأى أن يعدل عن النسيب إلى وصف الجمال الهاجع على ضفاف النيل وجداوله من مثل قوله:
خلع الربيع على غصون البان
…
حللا فواضلها على الكثبان
والظّلّ يسرق فى الخمائل خطوه
…
والغصن يخطر خطرة النّشوان
وكأنما الأغصان سوق رواقص
…
قد قيّدت بسلاسل الرّيحان
والشمس تنظر من خلال فروعها
…
نحو الحدائق نظرة الغيران
والطّلع فى خلل الكمام كأنّه
…
حلل تفتّق عن نحور غوانى
وصفىّ الدين يحيل الطبيعة المصرية نشوى بما يتراءى له فيها من غناء ورقص وغوان وجمال فاتن يأخذ بالألباب. ويمضى محفوفا بهذا الجمال من كل جانب، مادحا للناصر محمد بن قلاوون بمثل قوله:
ملك إذا اكتحل الملوك بنوره
…
خرّوا لهيبته إلى الأذقان
شاهدته فشهدت لقمان الحجى
…
ونظرت كسرى العدل فى الإيوان
وافى وقد عاد السماح وأهله
…
موتى فكان له المسيح الثانى
لا عيب فى نعماه إلا أنّها
…
يسلو الغريب بها عن الأوطان
ويشيد بإنعام الناصر عليه فى مقدمة ديوانه، وأن رئيس وزرائه أبلغه رغبته فى أن يجمع شعره فى ديوان ويبوبه ويرتبه. ولبىّ صفى الدين رغبة الناصر، فجمع ديوانه، وجعله فى اثنى عشر بابا تشتمل على ثلاثين فصلا، والأبواب فى الفخر والحماسة والمدح والطرديات والإخوانيات والمراثى والغزل والخمريات والشكوى والهدايا والألغاز والزهد والهجاء ومعه الملح والأحماض. وكأنما أريد لديوان صفىّ الدين أن يشيع من مصر، على نحو ما تطبع فى عصرنا بمصر دواوين كثيرة لشعراء البلاد العربية. وفى الديوان مدائح مختلفة للرسول عليه السلام ولعلى بن أبى طالب رضوان الله عليه، وقد درسها الدكتور جواد علوش وانتهى من درسها إلى أنه كان شيعيا إماميا، وكل ما جاء به من أدلة على ذلك إشارته فى بعض تلك المدائح إلى أن الرسول جعله وصيا له وأنه عهد له بهذه الوصاية حين نزل بغدير خمّ بين مكة والمدينة، يقول فى مديح على:
إمام له عقد يوم الغدير
…
بنصّ النبىّ وأقواله
وذكر صفىّ الدين لهذا العهد لايثبت أنه شيعى إمامى، إذ لا نجد فى شعره شيئا من عقيدة الإمامية، ومعروف أن الزيدية مثل الإمامية يؤمنون بهذا العهد، ونجده فى نفس باب مديحه للرسول ولعلى يبرئ نفسه من تفضيل بعض الصحابة على بعض، يقول:
ولائى لآل المصطفى عقد مذهبى
…
وقلبى من حبّ الصّبابة مفعم
وما أنا ممن يستجيز بحبّهم
…
مسبّة أقوام عليهم تقدّموا
ولكننى أعطى الفريقين حقّهم
…
وربّى بحال الأفضليّة أعلم
والبيتان الثانى والثالث يخرجانه من العقيدة الإمامية التى تضفى على علىّ وأبنائه من الأئمة صفات روحية قدسية لا توجد فى غيرهم من أفراد الأمة، والبيت الثالث يخرجه من الزيدية، هم حقا يصححون خلافة أبى بكر وعمر ولكن مع الإيمان بأن عليّا أفضل منهما وأنه تجوز إمامة المفضول مع وجود الأفضل. وإذن فصفى الدين لا إمامى ولا زيدى، ومن قوله:
قيل لى: تعشق الصحابة طرّا
…
أم تفّردت منهم بفريق
فإلى من تميل؟ قلت إلى الأر
…
بع لا سيّما إلى الفاروق
ويكفى أن يقول إنه يميل إلى الفاروق عمر أكثر من على، ليخرج من كل أبواب التشيع، أما ورود عهد الغدير فى بعض شعره فلعله قال ذلك عفوا فى حداثته، وخاصة أنه نشأ فى الحلّة، وهى بيئة قديمة من بيئات التشيع، وهو نفسه يقول فى مقدمة الديوان إن شعره فى الرسول وآله نظمه فى باكورة حياته.