الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منها نبذا يستدلّ بها على الباقيات. وتدل النّبذ على أنه كان يحشد فيها أوابد اللغة وشواردها وشواذها متقعرا فيها أبعد تقعّر، وهو تقعر لا يفيد حسنا ولا جمالا، وإنما يضيف صعوبات لغوية، وكأن الرسالة مجموعة من الألغاز، وكلما فك القارئ فيها لغزا لقيه لغز جديد، لا يقل عنه تكلفا وإغرابا. وقد استطاع أبو السّمح (1) سعيد بن سمرة أن يؤلف على نمط الحريرى لا رسالة سينية أو شينية، بل أن يؤلف رسائل كل رسالة منها كلماتها على حرف من حروف المعجم. ونصبح منذ القرن السادس حقا بإزاء رسائل شخصية معقدة غاية التعقيد، وحتى المحسنات البديعية مثل الجناس استحالت بدورها عقدا، وكأنما فارقت كل ما كانت تزدان به من حسن وجمال. وحرى بنا أن نتحول إلى الحديث عن كتّاب الرسائل الديوانية.
2 - كتّاب الرسائل الديوانية
كانت الدواوين طوال هذا العصر كثيرة ومتنوعة، فكان هناك ديوان الخليفة وديوان الزمام الخاص بالشئون المالية وديوان الضياع والعقار وديوان الجيش وديوان النفقات وديوان الأوقاف وديوان التركات وديوان الجوالى أو الجزية الخاص بأهل الذمة وديوان السلّة الذى تحفظ فيه الكتابات الديوانية، وأهم من هذه الدواوين جميعا ديوان الإنشاء الخاص بالرسائل الصادرة عن الخليفة وحاكم بغداد العام، وعنى البويهيون بهذا الديوان منذ استيلائهم على بغداد فاتخذوا له بعض النابهين من الأدباء، وكثيرا ما كان يقوم عليه وزيرهم، وأول من نهض بأعبائه فى عهدهم وكان له ذكر حسن أبو محمد المهلّبى (2) الذى وزر لمعز الدولة البويهى منذ سنة 339 وكان شاعرا كاتبا وأنشد الثعالبى فى يتيمته طائفة من شعره، أما نثره فاكتفى فيه بفصول قصيرة تدل على أنه كان يسجع فى كتاباته، والسجع فى ديوان بغداد قديم منذ عصر المقتدر كما مر بنا فى كتاب العصر العباسى الثانى، وقد مضى كتّاب الدواوين بعد عصره جميعا يسجعون. ويظل المهلبى ناهضا بالوزارة والكتابة حتى وفاته سنة 352. وأهم كتاب البويهيين ببغداد بعده أبو القاسم عبد العزيز (3) بن يوسف،
(1) انظر فى ترجمته الخريدة (قسم العراق) 2/ 263.
(2)
انظر فى المهلبى وترجمته اليتيمة 2/ 223 والمنتظم 7/ 9 ومعجم الأدباء 9/ 118 والشذرات 3/ 9 وكتب التاريخ العامة فى سنة وفاته.
(3)
راجعه فى اليتيمة 2/ 312.
وفيه يقول الثعالبى: «كان أحد المقدمين فى الآداب والكتابة والبراعة، والكفاية وجميع أدوات الرياسة، وكان مع تقلده ديوان الرسائل لعضد الدولة طول أيامه معدودا فى وزرائه، وتقلد الوزارة بعده دفعات لأولاده» . ويورد الثعالبى مقاطع من رسائله السلطانية يشيع فيها السجع على عادة كتاب الدواوين فى عصره. وبدون ريب أكبر كاتب للرسائل الديوانية زمن البويهيين أبو إسحاق الصابئ وسنخصه بكلمة عما قليل. وعنى السلجوقيون مثل البويهيين بديوان الإنشاء وحين دخلوا بغداد وجدوا عليه العلاء ابن الموصلا يا فقد كان كاتب الديوان العزيز أو ديوان الخلافة منذ سنة 432 ورأوا أن يظل عليه، ومضت عشرات من السنين وهو على ديوان الإنشاء حتى قضى نحبه، وسنخصه هو الآخر بكلمة مفردة. وأهم من تولوا الديوان بعده فى العصر السلجوقى سديد الدولة أبو عبد الله محمد (1) بن عبد الكريم الأنبارى منشئ ديوان الخلافة لعصر خمسة من الخلفاء هم المستظهر والمسترشد والراشد والمقتفى والمستنجد الذين تولوا الخلافة من سنة 503 إلى سنة 558 وهى سنة وفاة سديد الدولة، وبذلك ظل كاتب الإنشاء نيفا وخمسين سنة ويقال إنه عمّر حتى قارب التسعين، ولم يسجل العماد ولا صبح الأعشى للقلقشندى شيئا من نثره. وخلفه على ديوان الإنشاء ابنه محمد (2) بن محمد بن عبد الكريم، وظل قائما عليه حتى توفى بدوره سنة 575. وربما كان أهم من ولوا هذا الديوان فى عهد الخليفة الناصر لدين الله يحيى (3) بن زبادة المتوفى سنة 594 وقد أشاد به ابن خلكان ونوّه طويلا قائلا:«انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء والحساب مع مشاركته فى الفقه وعلم الكلام والأصول وغير ذلك. . وخدم الديوان من صباه إلى أن توفى عدة خدمات، وكان مليح العبارة فى الإنشاء جيد الفكرة حلو الترصيع لطيف الإشارة، وكان الغالب عليه فى رسائله العناية بالمعانى أكثر من طلب التسجيع، وله رسائل بليغة» . وقد احتفظ القلقشندى برسالة (4) له كتب بها عن الخليفة الناصر إلى الطواشى طغرل صاحب إقطاع البصرة، وقد بلغ الخليفة أنه نزح عنها مفارقا لطاعته عند ما طلب من ديوانه بعض المال، وهو فى الرسالة يحاول إثناءه عن خلع الطاعة ويذكر أن الخليفة سيتلقاه بالصفح والقبول، وفيها يقول:
(1) انظر الخريدة (قسم العراق) 1/ 140 والمنتظم 10/ 206 والنجوم الزاهرة 5/ 364 والشذرات 4/ 184.
(2)
انظره فى الخريدة (قسم العراق) 1/ 141 وابن الأثير فى وفيات سنة 575.
(3)
انظر ترجمة ابن زيادة فى معجم الأدباء 20/ 16 وابن خلكان 6/ 244 ومرآة الجنان 6/ 244 والشذرات 4/ 318.
(4)
صبح الأعشى (طبع دار الكتب المصرية) 8/ 269.
«ولولا أن الأيام صحائف العجائب. ولا يأنس بمتجدّداتها إلا من حنّكته التجارب، لم أصدّق هذه الحركة، وإنى ما أراها إلا عثرة من جواد وعورة على كماله، وإلا فمن أين يدخل الزلل على ذلك الرأى السديد والعقل الراجح والفكر الصائب. .
والفائت لا كلام فيه، غير أن العقل يقضى باستدراك الممكن وتلافيه، بالانحراف عن الهوى إلى الرأى الصادق، والرجوع عن تأويل النفس إلى مراجعة الفكر الناضج».
وتمضى الرسالة على هذا النحو، لا يدخل السجع فيها عن تكلف أو تعمل، بل لا بأس بما يأتى منه عفوا دون تعمد الإتيان به ومحاولة جلبه مع كل عبارة وصيغة. وأكبر الظن أن ابن زبادة كان شذوذا بين كتاب الإنشاء قبله وبعده، فقد كانوا غرقى فى السجع ومحسنات البديع إلى آذانهم. ولم نعرض للعماد الأصبهانى، وكان كاتبا بليغا، لأن حياته الأدبية إنما تتكامل له فى ظل نور الدين وصلاح الدين، إذ عمل فى دواوينهما، فحرى أن يوضع بين كتاب الرسائل الديوانية فى الشام ومصر، مع من عاشوا فى ظل هذين البطلين العظيمين. ونمضى إلى أيام المغول ويلقانا عطا ملك الجوينى المتوفى سنة 681 وكان رئيس الديوان ببغداد، وقد اهتم به، فوظّف فيه طائفة من الكتاب المجيدين، منهم بهاء (1) الدين الإربلى المتوفى سنة 692 وشرف (2) الدين على بن أميران المتوفى سنة 693.
ويلقانا فى صبح الأعشى كاتبان يكتب كل منهما رسالة باسم بوكدار بن هولاكو الذى مرّ بنا فى الفصل الأول أنه أسلم فى سنة 681 وحسن إسلامه، وتسمّى باسم أحمد. أما الرسالة الأولى فكتبها الفخر بن عيسى الموصلى عن السلطان أحمد إلى الملك المنصور قلاوون صاحب الديار المصرية فى جمادى الأولى سنة 681 يخبره فيها بما أتمّ الله عليه من نعمة الإسلام، وهو يفتتحها على هذا النمط (3):
«إلى سلطان مصر، أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى بسابق عنايته، ونور هدايته، قد كان أرشدنا فى عنفوان الصّبا وريعان الحداثة إلى الإقرار بربوبيته، والاعتراف بوحدانيته، والشهادة لمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام بصدق نبوّته، وحسن الاعتقاد فى أوليائه الصالحين من عباده وبريّته (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) فلم نزل نميل إلى إعلاء كلمة الدين، وإصلاح أمور الإسلام والمسلمين، إلى أن أفضى إلينا بعد أبينا الجليل وأخينا الكبير نوبة الملك، فأضفى علينا من جلابيب ألطافه ولطائفه،
(1) انظر ترجمته فى فوات الوفيات 2/ 134 وعند العزاوى 1/ 259.
(2)
راجعه فى الحوادث الجامعة (تحقيق مصطفى جواد-طبع بغداد) ص 480 وعند العزاوى 1/ 260.
(3)
صبح الأعشى 8/ 65.
ما حقّق به آمالنا فى جزيل آلائه وعوارفه».
ونمضى الرسالة بهذه الصورة من السجع والصياغة الجيدة. والرسالة مؤرّخة بأواسط جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وستمائة وكتب الرد فى رمضان سنة 681 ناصر (1) الدين شافع بن على بن عباس كاتب الإنشاء عن السلطان المنصور قلاوون. وقد ذكر السلطان أحمد بن هولاكو فى رسالته-كما هو واضح-إسلامه وأيضا أنه حرّم على عساكره الغارات على البلاد، وتقول الرسالة إن فى اتفاق السلاطين صلاح العالم. ومن كتّاب الإنشاء فى القرن الثامن يحيى (2) بن عبد الرحمن الجعبرىّ الملقّب بنظام الدين المتوفى سنة 760 وكان يكتب عن السلطان بوسعيد (716 - 736 هـ). ويبدو أنه رحل إلى مصر ودمشق بعد وفاة السلطان، ثم عاد إلى بغداد، وأعيد إلى وظيفته فى كتابة الإنشاء عن حكامها إلى وفاته. ويلقانا فى أواخر القرن التاسع الغياث (3) البغدادى عبد الله بن فتح الله كاتب الإنشاء ببغداد، ولا نعود نسمع عن كاتب مهم فى هذا العصر، فسرعان ما دخلت العراق فى حكم الدولة العثمانية، وكانت لا تهتم بديوان الإنشاء فى بغداد، فضعف شأنه إلى أبعد حد. ولعل من الخير أن نتوقف قليلا عند أهم كتاب الدواوين فى العصر: أبى إسحاق الصابئ والعلاء بن الموصلايا وضياء الدين بن الأثير.
أبو إسحاق (4) الصابئ
هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون الصابئ المكنى بأبى إسحاق، أصل آبائه من حرّان، ولد ببغداد سنة نيف وعشرين وثلثمائة، وبها نشأ وتثقف وتأدب، ولزم فيها مواطنيه الحرّانيين وأخذ ما عندهم من الطب والرياضة والهندسة وعلم الفلك، ويقول القفطى: له مؤلف فى المثلثات. ويبدو أنه أحسّ فى نفسه مبكرا بنزوع شديد نحو الأدب وأن يصبح من كتاب الدواوين، فأخذ يكبّ على النصوص الشعرية والنثرية، وحفظ القرآن الكريم، وكان شاعرا ففتحت له الأبواب وتعرّف عليه الوزير المهلبى، وأعجب به، فاصطنعه لنفسه، وأحضره مجالس أنسه، ولم يلبث أن قلّده ديوان الرسائل سنة 349
(1) صبح الأعشى 7/ 237.
(2)
ترجمته فى الدرر الكامنة لابن حجر 5/ 192.
(3)
العزاوى 1/ 277.
(4)
انظر فى ترجمة الصابئ اليتيمة 2/ 241 وما بعدها ومعجم الأدباء 2/ 20 وابن خلكان 1/ 52، 445 وصوان الحكمة ص 342 وتاريخ الحكماء للقفطى ص 75 والشذرات 3/ 106 والإمتاع والمؤانسة 1/ 68 والمقابسات لأبى حيان (انظر الفهرس) وصبح الأعشى 6/ 483 و 14/ 360 (راجع الفهرس) وكتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى (الطبعة الثامنة) ص 217.
حتى إذا توفّى المهلبى سنة 352 وصادر معز الدولة البويهى أمواله قبض على أبى إسحاق الصابئ فيمن قبض عليه من أصحابه وخلصائه. واستعطف معز الدولة بقصائد جعلته يعفو عنه ويعيده إلى عمله فى ديوان الرسائل. وظل قائما عليه طوال عهد ابنه عز الدولة بختيار، وكان قد نشب خلاف بينه وبين ابن عمه عضد الدولة البويهى، وكان الصابئ فى أثناء ذلك يكتب باسمه مكاتبات إلى عضد الدولة تؤلمه، وحدث أن تقرّر الصلح بينهما ذات مرة، فطلب بختيار إلى الصابئ أن يكتب نسخة يمين يستوفى فيه الشروط على عضد الدولة حق الاستيفاء، ولم يجد عضد الدولة حينذاك بدّا من حلف اليمين، وعرف أن أبا اسحاق الصابئ كاتبه، فحقد ذلك عليه. وتطورت الظروف، ونشبت حرب بين بختيار وعضد الدولة سنة 367 وسقط بختيار فى ميدانها صريعا واستولى عضد الدولة على بغداد والعراق، وسرعان ما اعتقل الصابئ وزجّ به فى غياهب السجون. وما زال بعض كبار رجال الدولة يشفعون له، فقال عضد الدولة: ليصنف كتابا فى أخبار آل بويه، فأخذ فى تصنيف كتاب «التاجى» وهو فى السجن، ونقل إلى عضد الدولة أنه سئل عما يصنع، فقال: أباطيل أنمّقها وأكاذيب ألفّقها، فحنق عليه حنقا شديدا، وصمم أن يرميه تحت أرجل الفيلة ليقتل أشنع قتلة، وعاد كبار رجال الدولة يتشفعون له، فعفا عنه إلا أنه ظل مبعدا فى أيامه، حتى إذا توفى عضد الدولة سنة 372 عاد إلى تولى ديوان الإنشاء وظل يليه إلى وفاته سنة 384. وقالوا إنه كان يتولى نقابة الصابئة فى بغداد وإنه كان شديد الإيمان بدينه الوثنى، وحاول عز الدولة مرارا أن يدخله فى الدين الحنيف فكان يعتذر. وكان يصوم شهر رمضان مع المسلمين. وظل الحكام البويهيون ووزراؤهم يرتضون أن يكون على رأس الديوان أحد الصابئة عبدة الكواكب والنجوم، وكأنهم تسامحوا معه لتفوقه فى الكتابة، يقول الثعالبى إنه «أوحد العراق فى البلاغة ومن به تثنى الخناصر فى الكتابة، وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية فى البراعة والصناعة» ويقول أبو حيان التوحيدى: «نظمه منثوره، ومنثوره منظومه، إنما هو ذهب إبريز كيفما سبك فهو واحد. وله فنون من الكلام ما سبقه إليها أحد، وما ماثله فيها إنسان» وقد نشر شكيب أرسلان مختارات من رسائله بلبنان فى مجلدين، وهى مطبوعة بطوابع السجع والمحسنات البديعية، وفيها يقتبس كثيرا من آى القرآن الكريم، ويضمنها أحيانا بعض الأحاديث النبوية وبعض الأشعار القديمة والحديثة، وكان يطيل فى التحميدات أول الرسائل حتى ليظن قارؤه أنه من جلّة المسلمين، كقوله فى مطلع إحدى رسائله:
«الحمد لله العلىّ العظيم، الأزلى القديم، المتفرد بالكبرياء والملكوت، المتوحد
بالعظمة والجبروت، الذى لا تحدّه الصفات، ولا تحوزه الجهات، ولا تحصره قرارة مكان، ولا يغيّره مرور زمان، ولا تتمثّله العيون بنواظرها، ولا تتخيّله القلوب بخواطرها، فاطر السموات وما تظلّ، وخالق الأرض وما تقلّ».
وهو يستمر فى هذا التحميد طويلا، ولو لم نعرف أن الصابئ كاتبه لظنناه أحد الكتاب المسلمين المثقفين بثقافة الاعتزال، المؤمنين بوحدانية الله وتنزيهه عن الشبه بالمخلوقات، فلا يحصره مكان ولا زمان ولا تحده جهات ولا صفات، إذ ليس بجسم ولا عرض، فالعيون لا تتمثله والخواطر لا تتخيله، مبدع السموات والأرض. وفى هذه السطور من التحميد ما يوضح قدرته على السجع، وهو لا يكتفى فيه بالروى الذى يجمع بين نهايتى السجعتين، بل يحاول أن يوازن بين ألفاظ كل سجعتين فى عدد حروفهما وحركاتهما وسكناتهما، وكأن الرسالة صفوف موسيقية متقابلة، فكلمة «العلى العظيم» يليها «الأزلى القديم» وكلمة «المتفرد بالكبرياء والملكوت» يليها «المتوحد بالعظمة والجبروت» وتتوالى السجعات، فكل سجعة تسمع فى تاليتها جرسها الموسيقى، مع المهارة فى اصطفاء الألفاظ. واقرأ له هذه القطعة من رسالة على لسان عز الدولة. . حاول فيها أن يستعطف عضد الدولة وأن يرده إلى ما بينهما من صلة الرّحم:
وإنما تمثلنا بهذه القطعة لنشير إلى أنه كان فى أحيان قليلة لا يلتزم السجع بين كل عبارة وتاليتها، ومع ذلك كان يلتزم فيها الموازنة الصوتية الدقيقة بين كلمات الصيغتين المتجاورتين حتى يتلافى ما نقصهما من تماثل الروى فى نهايتهما. ومرّ بنا أن أبا حيان أشار إلى أن له فنونا من الكلام لم يسبقه إليها أحد، ولعله يشير بذلك إلى بعض رسائل هزلية له، وهى ليست رسائل سلطانية ولا إخوانية جادة، إنما هى رسائل أراد بها إلى الإضحاك وإدخال شئ من السرور والسعادة على قارئه، من ذلك رسالة رواها ابن خلكان كتبها ردّا على رقعة وصلت إليه من شخص، كان أهدى إليه جملا، وذكر ذلك فى رقعته، وفيها يقول:
«ذكرت حملا (كبشا) جعلته جملا، . . فلما أن حضر رأيت كبشا متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور. . فبانت دمامته، وقصرت قامته، وعاد ناحلا ضئيلا، باليا هزيلا، بادى الأسقام، عارى العظام. . لا تجد فوق عظامه سلبا، ولا تلقى يدك منه إلا خشبا، قد طال للكلإ فقده، وبعد بالمرعى عهده،
لم ير القتّ إلا نائما، ولا الشّعير إلا حالما. . وقلت أذبحه ليكون وظيفة للعيال. . فأنشدنى وقد أضرمت النار، وحدّت الشّفار:
أعيذها نظرات منك صادقة
…
أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم (1)
ثم قال: وما الفائدة من ذبحى، ولست بذى لحم فأصلح للأكل لأن الدهر قد أكل لحمى، ولا ذى جلد يصلح للدّباغ لأن الأيام قد مزقت أدمى، ولا ذى صوف يصلح للغزل لأن الحوادث قد حصّت (أذهبت) وبرى».
وليست الفكاهة شيئا سهلا، فقليلون هم الذين يحملون هذه الروح، وهى تدل على ظرفه وأنه كان لطيف المحضر حلو الحديث، ولذلك قرب من نفوس معاصريه. وسجعه فى هذه الرسالة التى يجدر بنا أن ندخلها فى حيز الرسائل الأدبية مكتمل الأداء الموسيقى، وهو قصير قصرا تسرى فيه العذوبة والرشاقة. وقد تطول السجعة كما فى السجعات الثلاث الأخيرة، ولكنه يحتال عليها باكتمال الملاءمة الصوتية بين كلمات كل سجعة وتاليتها وكأننا بإزاء معادلات موسيقية تامة. وللصابئ رسالة أدبية هزلية أخرى تحتل فى الجزء الرابع عشر من صبح الأعشى ست (2) صفحات كبيرة، وهى صورة عهد بالتطفل كتبه على لسان متطفل بغدادى كبير فى عصره كان يسمى عليكا إلى متطفل ناشئ، يسمى على بن عرس الموصلى، وهو يستهله بأن عليكا عهد إلى تلميذه بإحياء سننه وحفظ رسومه من التطفل على أهل بغداد وما يتصل بها من أرباضها (ضواحيها) وأكنافها فى سوادها وأطرافها لما توسّمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللّقم، وجودة الهضم، ويأخذ فى سرد وصاياه فى شكل أوامر وفرائض يجب أن يتّبعها ابن عرس، من ذلك أنه:
«أمره أن يعتمد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه، وسمط الأمراء والوزراء بسراياه. .
وأمره أن يتبع ما يعرض لموسرى التجّار، ومجهّزى الأمصار، من بنيان الدار، والعرس والإعذار (الختان). . وربما صبروا على تطفيل المتطفلين، وأغضوا على تهجم الواغلين (الممعنين فى التطفل) ليتحدّثوا بذلك فى محافلهم الرّذلة، ويعدّوه فى مكارم أخلاقهم النّذلة. . وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبّريها، ويرافق وكلاء المطابخ وحمّاليها، فإنهم يملكون من أصحابهم أزمّة مطاعمهم ومشاربهم، ويضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم ومعارفهم. . وأمره أن يتعهد أسواق المسّوقين، ومواسم المتبايعين، فإذا رأى
(1) البيت للمتنبى من قصيدته التى عاتب فيها سيف الدولة الحمدانى. والضمير فى أعياذها يعود إلى نظرات يقول له: أعيذ نظراتك البصيرة أن تخدعك فلا تفرق بين شاعرك وغيره من حاسديه الذين يتظاهرون لك بمثل مودته تمويها وخداعا.
(2)
صبح الأعشى 14/ 360.
وظيفة قد زيد فيها، وأطعمة قد احتشد مشتريها، اتّبعها إلى المقصد بها، وشيعها إلى المنزل الحاوى لها، واستعلم ميقات الدعوة. . وأمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنيات والمغنين، فإذا أتاه خبر لجمع يضمهم، ومأدبة تعمّهم. . حمل عليها حملة الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، واللّيث الهاصر، والعقاب الكاسر. . وأمره أن يروض نفسه، ويغالط حسّه، ويضرب عن كثير مما يلحقه صفحا، ويطوى دونه كشحا، فإن أتته الّلكزة فى حلقه، صبر عليها فى الوصول إلى حقه، وإن وقعت به الصّفعة فى راسه، صبر عليها لموقع أضراسه، وإن لقيه لاق بالجفاء، قابله باللطف والصفاء».
والعهد بديع، وهو يصور حياة المتطفلين المتسكعين ببغداد، وكانت قد نشأت منهم طبقة كبيرة احترفت الأدب واتخذته وسيلة للشحاذة الأدبية، وهم أهل الكدية، وقد تحدثنا عنهم فى غير هذا الموضع مصورين كيف كانوا يتخذون الشعر الفكه لتصوير إفلاسهم وبؤسهم تصويرا يبعث السرور فى نفوس سامعيهم. ولا ريب فى أن أهل بغداد ظلوا يضحكون طويلا كلما قرءوا عهد أبى إسحق الصابئ السالف أو تذكروه، وسجعه فيه مكتمل الأداء الموسيقى، سواء قصّره أو طوّله، إذ يبغى به دائما أن يلذّ الآذان، حين تنصت إليه لذة موسيقية بديعة.
العلاء (1) بن الموصلايا
هو أمين الدولة أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا البغدادى، ولد سنة 412 ببغداد وبها كان منشؤه ومرباه، ونشأ نصرانيّا، وأقبل على دراسة الأدب وحفظ نصوصه من الشعر والنثر، كما أقبل على حفظ القرآن الكريم حتى يعدّ نفسه مثل أبى إسحاق الصابئ ليكون موظفا بالدواوين، وسرعان ما بهر الناس بأدبه، ولم يلبث الخليفة القائم (422 - 467 هـ) أن جعله كاتب الإنشاء بدار الخلافة سنة 432 وظلت له هذه الوظيفة فى عهد المقتدى (467 - 487) هـ) والمستظهر (487 - 512 هـ) حتى توفى سنة 497 وبذلك شغلها خمسا وستين سنة. وأتم الله عليه فى أثناء ذلك نعمته، فأسلم وحسن إسلامه، واختلف من ترجموا له فى زمن إسلامه، فالعماد الأصبهانى يقول إنه كان فى زمن القائم، ويقول ابن خلكان إنه كان فى زمن المقتدى ويعين السنة بأنها كانت سنة 484.
(1) انظر فى ترجمته وما استشهدنا به من نصوصه الخريدة (قسم العراق) 1/ 123 والمنتظم 9/ 141 ونكت الهميان ص 201 والنجوم الزاهرة 5/ 189 وابن خلكان 3/ 480 وصبح الأعشى 6/ 404، 415، 453، 10/ 31، 234، 294.
ونميل إلى الأخذ برأى العماد لأنه ظل طويلا ببغداد. وقد كفّ بصر العلاء فى آخر حياته فكان ابن أخته هبة الله بن الحسن يكتب الرسائل عنه. وظل جاهه يزيد عند المقتدى كل يوم حتى ضمّ إلى رياسته لديوان الرسائل النيابة فى الوزارة وظل يضمهما فى عهد المستظهر.
ويقول العماد عنه: «كان بليغ الإنشاء، سديد الآراء، رسائله تعبر عن غزارة فضله ووفور علمه» ويقول الصفدى: «أحد الكتاب المعروفين الذين يضرب بهم المثل» .
وقد احتفظ كتاب صيح الأعشى للعلاء فى جزئه السادس بثلاث رسائل: رسالة بشارة بالنصر على البساسيرى فى منتصف القرن الخامس حين قضى عليه طغرلبك، وهى موجهة من الخليفة القائم إلى صاحب غزنة، ورسالة ثانية موجهة من الخليفة القائم أيضا إلى شخص عيّنه وزيرا له ورسالة ثالثة موجهة منه إلى أتسز. وبالمثل احتفظ صبح الأعشى فى جزئه العاشر بثلاث رسائل أخرى، أولاها عهد ليوسف بن تاشفين بسلطنة الأندلس وبلاد المغرب، وهو موجه إليه من الخليفة القائم، ومعروف أن يوسف ابن تاشفين إنما تسلطن على الأندلس فى سنة 485 بعد وفاة القائم بنحو ثمانية عشر عاما، فإما أن يكون العهد خاصا بسلطنته على بلاد المغرب، وإما أن يكون موجها إلى يوسف من الخليفة المقتدى الذى تسلطن يوسف على الأندلس فى عهده أو من الخليفة المستظهر تاليه فى الخلافة منذ سنة 487 والعهد طويل، إذ يقع فى نحو أربع عشرة صفحة، ويشتمل على عشرين آية قرآنية، مما يدل بوضوح على حفظ ابن الموصلايا للقرآن وأنه كان يقبس من أضوائه فى رسائله مثل الصابئ. والرسالة الثانية موجهة من القائم إلى ابن جهير حين استوزره وأرّخ القلقشندى الرسالة بسنة 472 وكان القائم قد توفى منذ خمس سنوات، ومعروف أن القائم استوزر ابن جهير مرتين: مرة سنة 455 ومرة سنة 461 وظل فى الوزارة حتى توفى القائم، وأقره الخليفة المقتدى على الوزارة سنين، ثم عزله. وبذلك يكون التاريخ الذى أرخ به القلشندى هذه الرسالة الثانية غير دقيق.
والرسالة الثالثة موجهة من القائم إلى جاثليق النصارى النسطوريين فى صورة عهد بحياطته هو وأهل ملته فى نفوسهم وأموالهم وبيعهم وديارهم ومقارّ صلاتهم، على أن تؤخذ الجزية-وكانت أشبه بضريبة دفاع-من رجالهم ذوى القدرة دون النساء ومن لم يبلغ الحلم، ولا تؤخذ إلا مرة واحدة فى السنة. والعهد يجعل الجاثليق النسطورى لا رئيسا للنساطرة المسيحيين الشرقيين فحسب، بل أيضا للروم واليعاقبة فى بغداد وسائر البلدان الإسلامية، فهو بطرك النصارى العام. ويلفتنا فى العهد لابن تاشفين وفى الرسالة الموجهة إلى ابن جهير وكذلك فى الرسالة التى تبشر بالنصر على البساسيرى أن ابن الموصلايا يطيل
فى الحمد لله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجرى الصلاة فى رسالة البساسيرى على هذا النمط:
ولعلى لا أخطئ إذا قلت إنه أسلم مبكرا على الأقل فى منتصف القرن الخامس حين كتبت هذه الصلاة فى رسالة البساسيرى لا كما ذهب ابن خلكان إلى أنه أسلم سنة 484.
وواضح أن السجع كان يسيل على قلمه، وكان يعنى فيه باصطفاء ألفاظه وأن تروع بجرسها الأسماع على نحو ما نرى فى الفقرة التالية من عهد يوسف بن تاشفين:
«وأمره الخليفة أن يعدل فى الرّعايا قبله، ويحلّهم من الأمن هضابه وقلله، ويمنحهم من الاشتمال، ما يحمى به أمورهم من الاختلال. . ويضفى على المسلم منهم والمعاهد (الذمىّ) من ظل رعايته ما يساوى فيه بين القوى والضعيف، ويلحق التليد منهم بالطريف، ليكون الكل وادعين فى كنف الصّون، راجعين إلى الله تعالى فى إمدادهم بالتوفيق وحسن الطاعة والعون، وأن ينظر فى مظالمهم نظرا ينصر الحق فيه، وينشر علم العدل فى مطاويه. . ملينا لهم فى ذلك جانبه، ومبينا ما يظل به كاسب الأجر وجالبه، جامعا لهم بين العدل والإحسان، وجاعلا أمر الله تعالى فى ذلك متلقّى بالطاعة الواضحة الدليل والبرهان، قال الله تعالى:{(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).}
وهو يلتزم السجع على هذا النحو فى رسائله، محاولا بكل ما استطاع أن يصفّى ألفاظه من الشوائب، ويخليها من جميع الأدران حتى تروق السامع، وحتى يبلغ من التأثير فيه كل ما يريد، وهو يستتم تأثيره بما يختم به فقره فى هذا العهد وفى غيره من رسائله بما يورد من آيات الذكر الحكيم التى تضئ بأشعتها الكلام وتجذب إليه القلوب والأفئدة.
ضياء (1) الدين بن الأثير
هو ضياء الدين نصر الله بن محمد الشيبانى المعروف بابن الأثير الجزرى، ولد بجزيرة ابن عمر شمالى العراق سنة 558 لأسرة تعنى بعلوم الشريعة واللغة، ووجهه أبوه لحفظ القرآن الكريم، وفرّغه للدراسة كما فرّغ أخويه: المبارك وعز الدين صاحب كتاب الكامل فى التاريخ. وانتقل ضياء الدين مع أبيه إلى الموصل سنة 579 وفيها أتمّ دراسته للعلوم الإسلامية واللغوية والبلاغية، وأكبّ على حفظ الأحاديث النبوية والأشعار القديمة والحديثة وخاصة أشعار أبى تمام والبحترى والمتنبى. ولما أحسّ أنه كملت له أدواته فى الكتابة قصد صلاح الدين الأيوبى سنة 587 ووصله به القاضى الفاضل وزيره، فعمل فى دواوينه نحو أربعة أشهر، ثم طلبه الأفضل نور الدين من أبيه صلاح الدين، ولبّى طلب ابنه، فانتقل إلى العمل معه بنفس راتبه، واتخذه لنفسه مستشارا ووزيرا. وتوفّى صلاح الدين، فصارت دمشق للأفضل، وكلّف ضياء الدين بتدبير شئونها، فأساء التدبير والمعاملة مع أهلها، حتى همّوا بقتله. وتتطور الظروف ويصبح الأفضل سلطانا على مصر، فيلحق به سرّا فى صندوق مقفل عليه خوفا من الدمشقيين أن يقتلوه. ويظل نور الدين فى مصر عاما ويأخذها منه عمه العادل ويعوّضه منها قلعة على الفرات تسمى سميساط. ويخرج ضياء الدين وراءه مستترا إلى ولايته الجديدة، ويقيم عنده مدة، ثم يفارقه إلى غير مآب فى سنة 607 ويرحل إلى أخيه السلطان الظاهر صاحب حلب، ولا يطول مقامه عنده، فيولى وجهه نحو الموصل، ولا تستقيم حاله، ويفارقها إلى إربل سنة 611 ولا يستقر بها، بل سرعان ما يخرج منها إلى الموصل، وبها يلقى عصاه منذ سنة 618 إذ يصبح كاتب الإنشاء لصاحبها ناصر الدين محمود حتى نهاية حياته، ويحدث أن يرسله فى سنة 637 إلى بغداد فى بعض المهام، فيدركه بها الموت.
وحظى ضياء الدين عند الأسلاف بشهرة عظيمة لروعة أسلوبه فى رسائله ويقول ابن خلكان إنها كانت تشغل مجلدات، والمختار منها-كما يقول-مجلد واحد. وربما كان أهم منها فى سبب شهرته كتابه:«المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر» وفيه صوّر الصناعة اللفظية وما يتصل بها من المحسنات البديعية، والصناعة المعنوية وما يتصل بها من
(1) انظر فى ضياء الدين وترجمته ابن خلكان 5/ 389 والحوادث الجامعة (طبع بغداد) 136 وعبر الذهبى 5/ 156 ومرآة الجنان 4/ 97 والنجوم الزاهرة 6/ 318 والشذرات 5/ 187 وانظر كتابنا: البلاغة: تطور وتاريخ (طبع دار المعارف) ص 323.
صور البيان، موضحا توضيحا تامّا ما يحتاج الكاتب إلى العكوف عليه واستيعابه وتمثله من العلوم اللغوية والبلاغية والأشعار وأمثال العرب وحفظ القرآن الكريم والحديث النبوى مع معرفة الأحكام السلطانية وخاصة أحكام الخلافة والولايات وما يتصل بذلك من الفقه.
وبلغ من إعجاب بعض الأسلاف بالكتاب أن قالوا: «إن المثل السائر للنظم والنثر بمنزلة أصول الفقه لاستنباط أدلة الأحكام» . وله بجانبه كتب أخرى، منها كتاب الوشى المرقوم فى حلّ المنظوم، وقد أفرد فيه فصلين لبيان الاستعانة بآيات القرآن الكريم والحديث النبوى فى الرسائل.
وكتاب المثل السائر يضع تحت أعيننا طريقته وخصائصه فى رسائله الديوانية، وهو يعنى فيها قبل كل شئ بالسجع وتوشيته بالصور البيانية والمحسنات البديعية، مع نثر ألفاظ القرآن الكريم والحديث النبوى فيها وحلّ أبيات الشعر. وعادة يسوق فى الكتاب أمثلة كثيرة من كتاباته يصور بها جوانب من صناعته فى رسائله، من ذلك استيحاؤه آيات سور الرعد والذاريات والصافات، وهى:(الله الذى رفع السّموات بغير عمد ترونها)(وفى السماء رزقكم وما توعدون)(وحفظا من كل شيطان مارد لا يسّمّعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب) إذ يقول فى إحدى رسائله واصفا غبار الحرب:
ويعرض علينا أمثلة من اقتباسه للحديث النبوى وألفاظه فى رسائله، فمن ذلك ما روى عن الرسول عليه السلام من أنه فى غزوة حنين أخذ قبضة من التراب وألقاها فى وجوه الكفار قائلا:«شاهت الوجوه» . ونقل ذلك ابن الأثير إلى إحدى رسائله واصفا الانتصار على العدو وسحق جنوده قائلا: «أخذنا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النصر الذى نرجوه، ونبذنا فى وجه العدو كفّا من التراب، وقلنا: شاهت الوجوه» . ويورد ضياء الدين أمثلة كثيرة من حله للأشعار، من ذلك بيت المتنبى الذى يصف فيه استنقاذ سيف الدولة لقلعة الحدث من الروم وتجديد بنائها وتمزيق العدو شر ممزّق، إذ يقول:
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
…
ومن جثث القتلى عليها تمائم
وقد نثره ضياء الدين فى وصف معركة مماثلة قائلا: «وكأنما كان بالبلدة جنون، فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلّق عليها من رءوس القتلى تمائم» . ومن ذلك بيت البحترى:
(1) العجاج: الغبار.
(2)
الصعاد: الرماح.
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم
…
محمّرة فكأنهم لم يسلبوا
فقد نثره فى فصل من جملة رسالة تتضمن البشرى بهزيمة الكفار ومحقهم محقا لم يبق منهم ولم يذر. والفصل يجرى على هذا النمط:
والفصل يدل على مهارة ضياء الدين فى السجع، وهى مهارة كتب بها مجلدات، كما أسلفنا من الرسائل الديوانية. ونراه فى المثل السائر يحمل على الأسجاع الغثة التى تحيل الكلام رصفا لألفاظ وحشدا لكلمات دون أن تحمل شيئا من المعانى الطريفة المبتكرة، بحيث لا يلذ السجع الفكر كما لا يلذ السمع.
وينوه ابن خلكان ببعض صوره واستعاراته فى أسجاعه، ويضرب لذلك بعض الأمثلة، منها قوله فى وصف النيل وقت زيادته وفيضانه فى رسالة من رسائله:«وعذب رضابه فضاهى جنا النّحل (4)، واحمرّ صفيحه فعلمت أنه قتل المحل (5)» . ويقول ابن خلكان: «وهذا بديع غريب نهاية فى الحسن، ولم أقف لغيره على أسلوبه» . وضياء الدين يشير به إلى طمى النيل، وكأنه فى رأيه دماء الجدب، وهى حقا صورة رائعة. وجعلته عنايته بالمعانى والصور المبتكرة يؤلف كتابه «المعانى المخترعة فى صناعة الإنشاء» كما جعلته عنايته بحل الشعر والاقتباس من آيات القرآن والأحاديث النبوية يؤلف كتابه:«الوشى المرقوم» .
وفى الحق أن ضياء الدين بن الأثير كان من الكتاب المجيدين، ولم تحظ العراق بعده بكاتب ديوانى على مثاله أو مثال أنداده السابقين. وحرى بنا أن نترك كتاب الدواوين إلى أدباء العصر النابهين: أبى حيان التوحيدى، وابن مسكويه، والحريرى.
(1) جيب الثوب: جعل له جيبا وهو فتحته العليا.
(2)
البيض: السيوف.
(3)
الطلى: الأعناق، والهام: الرءوس.
(4)
الرضاب: الريق ورغوة العسل. جنا النحل: عسله
(5)
المحل: الجدب.
3 -
أبو حيان (1) التّوحيدىّ
هو أبو حيان على بن محمد بن العباس التّوحيدىّ، وقد اختلف فى مسقط رأسه وتاريخ مولده ووفاته، فقيل مسقط رأسه شيراز بفارس، وقيل نيسابور بخراسان، وقيل واسط بجنوبى العراق، وقيل بغداد، وهو القول الراجح فى رأينا، إذ ذكر كثير من مترجميه أن أباه كان يبيع نوعا من التمر ببغداد يعرف باسم التوحيد، وعليه حمل شرّاح المتنبى قوله:
يترشّفن من فمى رشفات
…
هنّ فيه أحلى من التوحيد
وكأنه هو وأباه نسبا إلى هذا التمر. وخطأ ما ذهب إليه ابن حجر وغيره ممن ترجموا له من أن نسبته إلى التوحيد تعنى أنه من أهل العدل والتوحيد أى من المعتزلة، إذ القدماء لا ينسبون إليهم هذه النسبة، وإنما يقولون هذا معتزلى وذاك غير معتزلى، وسنرى عما قليل أبا حيان من ألد خصومهم وخصوم المتكلمين عامة، فليس بصحيح أنه منهم ولا أنه منسوب إليهم، إنما هو ابن بائع متجول ببغداد كان يبيع تمر التوحيد. وفى هذا ما يشير بوضوح إلى أنه كان بغداديا ومن أسرة متواضعة. وتاريخ مولده بالدقة غير معروف، إنما يعرف بالتقريب، إذ روى ياقوت رسالة له مؤرخة بشهر رمضان سنة 400 ذكر فيها أنه فى عشر التسعين، وإذن فيغلب أن يكون مولده فى العقد الثانى من القرن الرابع بين سنتى 310 و 320. ويقال إنه فى السنة المذكورة كان قد ألقى عصاه فى شيراز وظل بها حتى توفى، ويتأخر بعض مترجميه بوفاته إلى سنة 414. وليس فى المصادر القديمة نص على جنسيته أو على أصله، واختلف المعاصرون من قائل إنه فارسى، ومن قائل إنه عربى، ويرجح عروبته اعترافه-كما جاء فى ترجمه ياقوت له-بأنه لم يكن يعرف الفارسية، وكرّر ما يشير
(1) انظر فى أبى حيان وترجمته معجم الأدباء 15/ 5 وابن خلكان 5/ 112 وشد الإزار لمعين الدين الشيرازى 53 والمنتظم 8/ 185 والسبكى 5/ 286 وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 223 وميزان الاعتدال للذهبى 2/ 355، 4/ 518 ولسان الميزان لابن حجر 6/ 369 وروضات الجنات 714 وكتبت عنه فى العصر الحاضر مؤلفات وبحوث كثيرة لعبد الرزاق محيى الدين وإحسان عباس وزكريا إبراهيم ومحمد كرد على فى الجزء الثامن من مجلة المجمع العلمى العربى بدمشق وأحمد أمين فى تقديمه لكتاب الهوامل والشوامل وزكى مبارك فى كتابه النثر الفنى وإبراهيم الكيلانى فى مقدمتيه لثلاث رسائل ولكتاب مثالب الوزيرين ومحمد توفيق حسين فى تقديمه لكتاب المقايسات وبروكلمان 4/ 335 ودائرة المعارف الإسلامية.
إلى ذلك فى المقابسة الثانية من كتابه «المقابسات» وفى المسألة الرابعة والثلاثين من كتابه «الهوامل والشوامل» . وأيضا فإنه يدافع عن العرب بقوة-دفاع العربى الأصيل-ضد الشعوبيين من معاصريه أمثال الجيهانى، ويرفعهم مكانا عليّا، كما يرفع لغتهم على كل اللغات لبيانها الرائع على نحو ما يلقانا فى الليلة السادسة من ليالى كتاب الإمتاع والمؤانسة.
وليس بين أيدينا شئ واضح عن طفولة أبى حيان ومرباه ومنشئه، وطبيعى أن تكون طفولته عادية وأن يختلف إلى الكتّاب مثل لداته يحفظ القرآن الكريم والشعر ويتعلم الخط والحساب، وأكبر الظن أن أباه لاحظ فيه مخايل ذكاء منذ نعومة أظفاره، مما جعله يدفعه إلى حلقات العلماء فى المساجد، وكانت مفتوحة ومهيّأة لكل من أراد لونا من ألوان المعرفة. ويذكر أبو حيان طائفة كبيرة من أساتذته فى كتاباته، منهم فى النحو واللغة أبو سعيد السيرافى المتوفى سنة 368 وفى البلاغة والبيان على بن عيسى الرمانى المتوفى سنة 386 وفى الفقه أبو حامد المرورّوذى المتوفى سنة 362 وفى الحديث أبو بكر الشافعى صاحب الغيلانيات المتوفى سنة 354، وفى التصوف جعفر الخلدى تلميذ الجنيد المتوفى سنة 348 وفى الفلسفة وعلوم الأوائل يحيى بن عدى تلميذ الفارابى المتوفى سنة 363 وأبو سليمان المنطقى السجتانى الذى مرّ ذكره، وقد تعرّف به فى مجلس يحيى بن عدى وانعقدت بينهما صداقة وثيقة، حتى إذا استقل أبو سليمان بندوة أو مجلس كمجلس يحيى بن عدى أصبح أبو حيان من روّاده، بل من ملازميه ومسجّلى ما يدور بحضرته.
وكان من أكبر الأسباب فى اتساع ثقافته وأنها شملت كل علم وفن احترافه الوراقة أو نسخ الكتب بالأجرة للناس، فقد قرأ وكتب بيده كثيرا من الكتب فى كل فن وفى كل علم، وانطبع كثير مما كتبه فى ذهنه وحافظته سواء أكان نثرا أو شعرا. واشتهر بشغفه بكتب الجاحظ وتوفره على تصحيحها وخاصة كتاب الحيوان، فكان ما يكتبه منه يعدّ نسخا نفيسة فى عصره ويدرّ عليه مكافأة جزيلة، كما جاء فى مقدمة كتاب الإمتاع والمؤانسة، بل لا شك فى أن كل ما كان يكتبه كان يجزى عليه الجزاء الحسن.
وتظل حياة أبى حيان مجهولة لنا حتى أوائل العقد السادس من القرن، إلا ما نعرفه عنه من أنه كان ورّاقا، يعيش من نسخ الكتب، ونراه يذهب إلى الحج فى سنة 353 ويتعرف فى مكة على جماعة من الصوفية، منهم ابن الجلاّء والحرّانى، وفى كتاباته روايات وأخبار نسبها إليهما. وعاد إلى بغداد فى سنة 354 والتقى فيها ببعض المتصوفة. ويبدو أنه أنس فى نفسه شيئا من القدرة الأدبية، فرأى أن يقصد إلى ابن العميد فى الرّىّ لعله يجد لنفسه عملا عنده، أو لعله يوصى به أولى الأمر فى خراسان. ويظل بعيدا عن بغداد منذ سنة
355 حتى سنة 358 إذ عاد إليها خالى الوفاض بعد أن طال وقوفه بباب ابن العميد. وكان تعرّف فى هذه الرحلة الطويلة إلى ابن مسكويه وبعلم من أعلام الهندسة والرياضة هو أبو الوفاء المهندس. وطبيعى أن يعود أبو حيان إلى عمله فى الوراقة ونسخ الكتب.
ويحدث فى سنة 363 أن تشتد مظالم الدولة للرعية بما ترهقها به من الضرائب وأن تثور الطبقات البائسة المحرومة، واستفحل أمر العيّارين وسيطروا على بغداد ونهبوا كثيرا من الدور خاصة دور الأغنياء، وكان مما نهبوه دار التوحيدىّ، فقد أخذوا كل ما كان بها من ذهب وثياب وأثاث وكل ما كان جمعه منذ أيام صباه كما يقول هو نفسه فى الجزء الثالث من كتابه الإمتاع. ولعل هذا ما جعله يهاجم العيّارين لا فى هذا الكتاب وحده، بل أيضا فى كتاب الصداقة والصديق، بل إنه يهاجم العامة جميعا حتى يقول فى الليلة السادسة عشرة من كتاب الإمتاع:«طلب الرفعة بينهم ضعة والتشبه بهم نقيصة» . وهو استعلاء غريب على العامة من رجل أسرته منهم ونشأ بينهم. وأهم من ذلك أنه يعترف بما أكسبته الوراقة من ذهب وثياب وأثاث، ومع ذلك نراه هاجيا لهذه المهنة أشد الهجاء ثالبا لها أشد الثلب حتى ليسميها «حرفة الشؤم» . وهو يضيف إلى ذلك شكوى مرة من البؤس، مما جعل كل من كتبوا عنه فى هذا العصر يرثون لبؤسه وفقره، معللين ذلك بأنه كان يعيش على الوراقة، مع أنه كان يعيش منها فى عصره بعض كبار العلماء دون شعور بالبؤس، بل كان منهم من يكتفى بالقليل مما ينسخ فى حدود حاجته على نحو ما يروى ياقوت فى ترجمته للسيرافى أستاذ أبى حيان فى النحو واللغة من أنه كان لا يخرج إلى مجلسه فى القضاء بين الناس أو فى محاضرة طلابه حتى ينسخ عشر ورقات بعشرة دراهم بقدر مئونته يوميا. وطبعا لم يكن أبو حيان وأمثاله من المحترفين للوراقة يكتفى بمثل هذه الورقات القليلة. وكان يحيى بن عدى أستاذه فى علوم الأوائل وما يتصل بها من الفلسفة يحترف الوراقة على نحو ما يروى القفطى فى ترجمته، كما مر بنا، وكان يكتب فى اليوم والليلة مائة ورقة.
فالوراقة لم تكن مهنة بائسة كل هذا البؤس الذى تصوّره المعاصرون من شكوى أبى حيان المستمرة من الضنك وضيق العيش. وفى رأينا أن بؤسه كان بؤسا نفسيّا أكثر منه بؤسا ماديا، فقد كان يرى كثيرين ارتفعوا فى الحياة وهم دونه فى الثقافة والمعرفة والأدب والكتابة، فكان يشعر بضجر شديد وبشقاء لا حد له يملأ قلبه حسرة ولوعة، وظل هذا الشعور يلازمه حتى الأنفاس الأخيرة من حياته.
على كل حال لم تمنحه الوراقة راحة ولا رضا ولا طمأنينة، ولعله من أجل ذلك فكر أن يضيف إليها بعض مؤلفات يكتبها أو يهديها باسم بعض الأعيان أو بعض ذوى المناصب
الكبرى، وأيضا فإن ذلك لم يعد عليه بشئ من طمأنينة النفس وراحة الفؤاد فظل يشعر بالتعاسة والقلق المضنى. . ومن أوائل ما ألفه كتابه «البصائر والذخائر» الذى نشره الدكتور إبراهيم كيلانى بدمشق فى ستة أجزاء، ويقول التوحيدى فى مقدمته إنه ابتدأ فيه سنة 350 وانتهى منه فى سنة 365 كما يقول إنه استقاه من كتابات الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وغيرهم من أعلام الأدب فى القرن الثالث الهجرى. والكتاب على طريقة الجاحظ فى كتابه البيان والتبيين، ويحمل كثيرا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال النساك وأشعار الشعراء وكلام حكماء الفرس واليونان والهند، مما قرأه أبو حيان فى أثناء نسخه للكتب من كل لون وللدواوين القديمة والحديثة وفيه كثير مما سمعه من أساتذته ومعاصريه. وليس له فيه إلا جودة الاختيار وإلا مقدمته التى يدعو فيها إلى الزهد فى الحياة الدنيا الزائلة. وهى نزعة كانت تمس نفسه فى الأربعينيات على ما يظهر، وكذلك فى الخمسينيات من عمره وبعد ذلك، وهى التى دفعته إلى الحج، غير أنها لم تكن تتعمقه، ولذلك نراه يطلب الدنيا فيذهب إلى الرّىّ وأرّجان وافدا على أبى الفضل بن العميد، ويرجع بخفى حنين. ويدور الزمن ويتولى الوزارة ابنه أبو الفتح، ويزور بغداد ويتناقل الناس أخبار عطاياه للعلماء وفى مقدمتهم السيرافى وأبو سليمان المنطقى، ويشد أبو حيان الرحال إليه فى الرىّ سنة 366 راجيا أن يعوضه ما نهبه منه العيّارون منذ ثلاث سنوات، ويقدم إليه رسالة رواها ياقوت تكتظ بملق مسرف غاية الإسراف وإلحاح شديد فى السؤال وطلب النوال، حتى لكأنه من أهل الكدية والشحاذة الأدبية. وما كان أغناه عنها، فإن أبا الفتح قابلها بالإعراض، وكان أبو حيان يسرع دائما إلى الهجاء والذم، فربما بلغه عنه شئ منهما على الأقل يتصل بأبيه أبى الفضل بن العميد الذى ازورّ عنه. وتتطور الحوادث سريعا، ويفتك مؤيد الدولة البويهى بأبى الفتح ويخلفه الصاحب بن عباد، فيعرض عليه أبو حيان خدماته، ويكلفه بالوراقة له والنسخ، ويظل ناسخا له مدة ثلاث سنوات حتى سنة 370. وكان يحضره مجالسه وعلى موائده، فيتدخّل فيما يكون من حديث ببجاحة وزهو وتعالم مما ملأ نفس الصاحب عليه حنقا وموجدة، فبرم به الصاحب برما شديدا، وأبو حيان لا يتراجع، بل يزداد وقاحة. ولا يبعد أن يكون أبو حيان قد أخذ يسلّ عليه لسانه، وأن شيئا من ذمه نقل إليه. على كل حال فسد ما بينهما فسادا من الصعب إصلاحه أو رتقه. وأخذ الصاحب يجفوه ويصدّه عن مجالسه صداقبيحا. وليس ذلك فحسب فقد حرمه من مكافأته على ما ينسخ، إذ حبس عنه أجرته، وكلما لقيه تجهّم له، مما اضطر أبا حيان أن يرحل عنه بعد عمل متواصل لمدة ثلاث سنين دون أن يأخذ منه كما قال درهما
أو ما قيمته درهم. وبمجرد أن عاد أبو حيان إلى بغداد انتقم منه ومن أبى الفضل بن العميد شر انتقام بتأليفه فيهما كتابه «مثالب الوزيرين» الذى نشره بدمشق الدكتور إبراهيم الكيلانى، وهى صحف هجاء لاذعة أشد اللذع للوزيرين الكاتبين المشهورين، إذ تحامل عليهما تحاملا مسرفا وتجنى عليهما تجنيا قبيحا، محاولا بكل ما استطاع أن يسلبهما ما اشتهرا به فى الناس من الفضائل. ونصيب الصاحب فى هذا الهجاء المقذع أكثر من نصيب أبى الفضل بن العميد، لأن جرح أبى حيان منه كان أبعد غورا وأشدّ إيلاما.
ويعود أبو حيان جريحا كسيرا إلى بغداد وإلى حرفته فى الوراقة، ويشفق عليه ابن مسكويه وصديقه أبو الوفاء المهندس، لما تجرّع من حرمان مرير، ومدّ إليه يد العون أبو الوفاء. أما ابن مسكويه فإنه ارتضى منه أن يؤلف معه كتابه «الهوامل والشوامل» والهوامل أسئلة لأبى حيان فى الفلسفة والطبيعة والسلوك واللغة، والشوامل إجابات بديعة لابن مسكويه، وقد نشره أحمد أمين والسيد صقر فى القاهرة ومعروف أن ابن مسكويه كان يلازم عضد الدولة، فلابد أن يكون قد نزل معه بغداد حين استولى عليها من ابن عمه بختيار سنة 367 وكان أبو حيان غائبا فى الرّىّ، حتى إذا عاد وجد ابن مسكويه وكان قد تعرف به قديما حين نزل الرىّ زمن أبى الفضل بن العميد. والمظنون أن حوار الهوامل والشوامل لم ينعقد بينهما حينئذ، وإنما انعقد فى بغداد بعد مجئ أبى حيان من لدن الصاحب كاسف البال مقروح الكبد، يؤكد ذلك أننا نجد ابن مسكويه يحاول أن يفرّج عنه الغم الذى ملأ قلبه وما انطوى عليه من الإحساس بالبؤس واليأس المرير من الزمان والإخوان، إذ لاحظ مسارب ذلك فى حنايا نفسه وجوانب أسئلته، فقال له فى مطلع أجوبته:«انظر حفظك الله إلى كثرة الباكين حولك وتأسّ، أو إلى الصابرين معك وتسلّ، فلعمر أبيك إنما تشكو إلى شاك وتبكى على باك، ففى كل حلق شجى وفى كل عين قذى» . فالناس كلهم شاكون باكون مثل أبى حيان، وكلهم يعترض فى حلقه ما يكاد يغصّ به، وحسبه أن يكون له فى الناس قدوة وأسوة. وكأن ابن مسكويه أراد بالكتاب أن يكون فيه سلوان لأبى حيان، ينسيه همومه ولو إلى حين. ومع تقديمه هذه الهدية الفكرية لأبى حيان نجده يهاجمه فى الليلة الثانية من كتابه الإمتاع، ويبدو أن سبب تهجمه عليه ما نعته به أبو حيان من أنه كان شحيحا شحّا شديدا، وكأن أبا حيان لم يجد عنده ما كان يأمله من العون على ما كان يتجرّعه من الصاب والعلقم.
أما أبو الوفاء المهندس فكان نعم الصديق لأبى حيان، وكان قد تعرف عليه قديما ووعده بالسعى فى صلاح حاله، وحين لقيه بعد عودته من لدن الصاحب أرعاه بصره كما يقول أبو
حيان وأعاره سمعه، وبدأ فتوسط له عند القائمين على بيمارستان بغداد، فعيّنوه راعيا لبعض شئونه. وأهم من ذلك أنه قرّبه من ابن سعدان أحد كبار رجال الدولة البويهية، فكلّفه بنسخ كتاب الحيوان للجاحظ، وأخبره زيد بن رفاعة فى سنة 371 أن أبا حيان يفكر فى صنع رسالة عن الصداقة والصديق، فشجع ابن سعدان أبا حيان على إنجازها غير أنه لم ينجزها توا، بل ظل يراجعها ويزيد فيها حتى نشرها سنة أربعمائة، وهى أقوال وأشعار مجموعة على طريقته فى كتابه البصائر والذخائر، ولا يكاد يكون له فيها سوى المقدمة وحديث عن ندماء ابن سعدان وحسن اختياره للمادة التى كوّن منها الموضوع، والرسالة طبعت بإستانبول والقاهرة. ويبتسم الزمن فترة لابن سعدان من سنة 372 حتى سنة 375 إذ يصبح وزيرا لصمصام الدولة البويهى ويتخذ له مجلسا علميا فلسفيا أدبيا للحوار ليلا فى كل ما يتصل بالإلهيات والطبيعيات والأخلاق وعلم الكلام واللغة والشعر وقد ذكر أبو حيان العلماء والمتفلسفة الذين كانوا يتحاورون فى هذا المجلس بكتابه «الإمتاع والمؤانسة» وقد نشره أحمد أمين وأحمد الزين فى ثلاث مجلدات بالقاهرة.
وجعل ابن سعدان أبا حيان واسطة عقد هذا المجلس، فأزال من نفسه غشاوات الكآبة التى كانت قد تراكمت فيها طوال سنوات وقوفه بأبواب الوزراء: أبى الفضل بن العميد وابنه أبى الفتح والصاحب بن عباد، وسأله صديقه أبو الوفاء أن يسجل فى كتاب أطرف المسائل التى تناولها حواره مع ابن سعدان، فألف له كتاب الإمتاع مقتصرا فيه على مادار فى سبع وثلاثين ليلة، وعادة يعرض الوزير سؤالا ويأخذ أبو حيان فى الإجابة، وقد يطلب إليه فى موضوع أن يكتب فيه رسالة حتى يوفيه حقه، وقد ينقل إليه مناظرة طويلة دارت فى سوق الوراقين أو دارت فى عهد وزير آخر مثل مناظرة السيرافى ومتى بن يونس فى النحو والمنطق بمجلس الوزير ابن الفرات سنة ست وعشرين وثلثمائة، وقد رواها أبو حيان كاملة فى الليلة الثامنة. وعرض الحوار جوانب من حياة البغداديين كجانب الغناء واللهو. وليس فى الكتاب ما يدل على أنه ألّف بعد فتك صمصام الدولة البويهى بابن سعدان سنة 375 ويغلب أن يكون أبو حيان ابتدأ تأليفه فى حياة الوزير، وأتمه بعد وفاته، ذكرى عزيزة له ولمجلسه العلمى الفلسفى الرائع الذى لم يبلغ مبلغه مجلس أى وزير أو حاكم بويهى فى زمنه.
وعلى نحو ما سجل أبو حيان حواره مع ابن سعدان فى الإمتاع والمؤانسة سجّل فى كتاب المقابسات أطرف ما دار من حوار فى ندوة أبى سليمان المنطقى السجستانى، ومرّ بنا فى غير هذا الموضع حديث طويل عن المقابسات وعن أبى سليمان، ونرى أبا حيان يصرّح
فى المقابسة الخامسة والثلاثين أنه يكتبها ووراءه خمسون عاما ويذكر فى المقابسة الحادية والستين أنه قرأ على أبى سليمان كتاب النفس ببغداد سنة 371، ويتحدث فى المقابسة الثانية والخمسين عن شخص توفى سنة 386 وهناك مقابسة هى المقابسة الثانية والثمانون اختلفت المخطوطات فى تاريخ إملاء أبى سليمان لها على تلاميذه، هل هى سنة إحدى وسبعين أو هى سنة إحدى وتسعين. وإن صح التاريخ الأخير كان زمن المقايسات وإلقائها يمتد طويلا من نحو سنة 370 حتى سنة 391 وإلا فقد امتد يقينا حتى سنة 386.
وليست المقابسات جميعها من إملاء أبى سليمان فكثير منها من إملاء من كانوا يحضرون ندوته من المتفلسفة ورجال الفكر. ويذكر أبو حيان فى المقابسات الثانية والرابعة والواحدة والتسعين أنه حرّر كلام أبى سليمان وغيره من أهل الندوة فأخلاه مما كان فيه من اضطراب اللفظ وزيغ التأليف، ويقول إنه استنفد الطاقة فى تنقية الألفاظ من الشوائب، حتى يسلم التعبير. وجعل ذلك بعض المعاصرين يتسع فى الظن، فيقول إن صياغة المقابسات وغيرها من النصوص التى يحكيها أبو حيان عن المتفلسفة إنما هى من صنيعه، وإن أبا سليمان وغيره من جلسائه إنما لهم المعنى وحده. وقد يؤكّد ذلك بالقياس إلى أبى سليمان خاصة ما وصفه به أبو حيان فى الليلة الثانية من كتابه «الإمتاع» بأن فى لسانه لكنة ناشئة عن عجمته وما ذكره عنه من أن فى عبارته تقطعا فى السياق، غير أن ما نعرفه عن أبى حيان من أن أحدا لم يسلم من لسانه يجعلنا نشك فيما قاله عن أستاذه. ولعلى لا أجاوز الحق إذا قلت إن المقابسات فى جملتها من كلام أبى سلمان ورفاقه نصّا ولفظا. ومما يؤكد ذلك أن من يرجع إلى المقابسة السابعة عشرة المنسوبة لابن سوار المشهور باسم ابن الخمّار المتفلسف يجدها بنصّها ولفظها فى كتاب صوان الحكمة لأبى سليمان المنطقى ص 335 ومثلها المقابسة الثانية والأربعون المنسوبة إلى نفس المتفلسف فإنها بنفس اللفظ والنص فى صوان الحكمة ص 353. والمقابسة التاسعة والعشرون المنسوبة إلى النوشجانى موجودة بلفظها ونصها فى صوان الحكمة ص 341. ونفس أبى سليمان فى كتابه صوان الحكمة وفى رسائله التى ألحقها به الدكتور بدوى يملك بوضوح زمام العربية ويصدر عن ملكة بيانية جيدة. ونحن لا ننفى عن أبى حيان جهده فى تنسيق المقابسات وتصحيحه أو إصلاحه بعض عباراتها، ولكن هذا لا يعنى ما قيل من أن اللفظ أو الصياغة فى المقابسات له، والمعنى لأبى سليمان وصحبه، فصياغتها ولفظها أيضا لهم إلا ما أدخله أبو حيان فى بعض التغييرات وبعض الحذف أو الزيادات أحيانا. وقد طبع كتاب المقابسات طبعات مختلفة فى بومباى والقاهرة وبغداد.
ونمضى مع أبى حيان بعد وفاة ابن سعدان، ويبدو أنه عاد بعده إلى عملين: الوراقة وتأليف بعض الكتب والرسائل وأهم كتاب أخرجه بأخرة من حياته كتاب الإشارات الإلهية المطبوع فى القاهرة وبيروت، وأكثره مكتوب فى صورة رسائل موجهة إلى بعض الضالين عن طريق الهداية الإلهية وإلى بعض السالكين وإلى مجموعة من المتصوفة. وتتخلّل ذلك مناجيات وأدعية وابتهالات تصوّر استشرافه إلى الملأ الأعلى. وقد يهبط من هذا الملكوت إلى تصوير ما استشعره سنوات طوالا من الضياع والحرمان والشكوى من الناس شكوى مريرة حتى ليتجه إلى ربه فى رسالته رقم «يه» قائلا:«اللهم إليك أشكو ما نزل بى منك، وإياك أسأل أن تعطف علىّ برحمتك، فقد-وحقّك-شددت الوثاق، وضيّقت الخناق، وأقمت الحرب بينى وبينك» . ومثل هذا الإحساس بالتمرد على الخالق إنما بلغ ذروته، حتى أصبح إحساسا بالحرب كما يقول، فى عهود وقوفه بأبواب الوزراء:
أبى الفضل بن العميد وابنه أبى الفتح والصاحب بن عباد. ولذلك نظن ظنا أن الإشارات الإلهية مثلها مثل كثرة كتبه لم تؤلف فى عام واحد ولا فى أعوام قليلة، فبعضها يرجع إلى الستينيات من حياته إن لم يكن إلى الخمسينيات، وبعضها متأخر فى السبعينيات من حياته وبعد السبعينيات يدل على ذلك ما يجرى فى كلامه من هجر للدنيا وترهاتها وتعلق بالله ووقوف طويل ببابه فى طلب العفو والرجاء فى نعيمه، وعيناه تعتصرها الدموع، وقلبه يتحرق شوقا لاكتحال بصره بنور ربه.
وحاول الدكتور عبد الرحمن بدوى فى تقديمه للكتاب أن يربط بين مناجيات أبى حيان فى الإشارات وبين مزامير داود وبعض آيات الأناجيل وأولى من ذلك فى رأينا الربط بين مناجياته والمناجيات المبثوثة فى عيون الأخبار لابن قتيبة، فمصادرها عنده مصادر إسلامية لا أجنبية. وهى تدل بقوة على تعمق الدين الحنيف فى فؤاده وصفاء جوهره الروحى. أما ما ردده ابن الجوزى والذهبى وغيرهما-ونقله عنهم السبكى فى طبقاته-من أنه كان زنديقا كبيرا، فهو بهتان عليه أى بهتان، وقد دافع عنه السبكى، وقال إن الذهبى حمل عليه، كما حمل على المتصوفة جميعا، وهى حملة ظالمة.
والحق أنه كان سنيا شديد التمسك بالسنة ولعل هذا هو السبب المهم الذى جعله يهاجم المعتزلة والأشاعرة والمتكلمين مهاجمة عنيفة، حتى ليقول فيهم عامة فى الليلة الثامنة من كتابه الإمتاع:«لم أر متكلما فى مدة عمره بكى خشية أو دمعت عينه خوفا أو أقلع عن كبيرة رغبة. . جذّ الله عروقهم واستأصل شأفتهم» ويفضّل الأميين عليهم ويقول إنهم أتقى لله عز وجل وأذكر للمعاد وأيقن بالثواب والعقاب، ويسلق الباقلانى الأشعرى العظيم
بلسان حاد. وهى طبيعة أبى حيان حين يهجو يسفّ فى هجائه إسفافا شديدا، حتى لنراه يصف الباقلانى بأنه على طرائق الملحدة. وربما كان من أسباب حملته على المتكلمين -بجانب أنه سنى-ما أشرنا إليه فى غير هذا الموضع من أنهم كانوا يصلون بين الفلسفة والدين، وكان هو وأستاذه أبو سليمان يرون الفصل بينهما، حتى لا يتسلل الإسماعيلية وغيرهم عن طريق هذا الوصل، كما مرّ بنا، إلى مذاهبهم ونحلهم الباطلة. وكان يهاجم الشيعة كما هاجم المتكلمين وكانت الدولة البويهية الحاكمة لبغداد شيعية، فلم يجاهرهم بالهجوم، بل اتبع طريقة أخرى: أن يكتب رسالته التى سماها رسالة السقيفة، وينسبها إلى أبى بكر وعمر زاعما أنهما وجّها بها إلى على بن أبى طالب لبيان أنه دون أبى بكر منزلة فى استحقاق الخلافة. وقد نشرها بدمشق إبراهيم الكيلانى مع رسالتين أخريين: أولاهما فى علم الكتابة والثانية فى بيان أنواع الحياة على نحو ما كان يتصورها المتفلسفة فى عصر أبى حيان. وله رسالة فى بيان ثمرات العلوم نشرت ملحقة بكتاب الصداقة والصديق المطبوع فى القاهرة وبها تعريفات للعلوم المختلفة.
ووراء كل ما قدمنا لأبى حيان كتب ورسائل أخرى سقطت من يد الزمن، فلم تصلنا، منها رسالة سماها «الحج العقلى إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعى» وأكبر الظن أنه يقصد بها-إن صحت نسبتها إليه-النسك والعبادة لمن لا يستطيعون إلى الحج سبيلا.
وذكر ياقوت رسالة له كتبها إلى أحد أصدقائه سنة أربعمائة وفيها يذكر أنه أحرق كتبه، لما فقد من الولد النجيب والصديق والحبيب والتابع الأديب، ونظن ظنا أنه لم يحرق جميع كتبه، وإنما أحرق طائفة منها يريد أن ينشرها فى الناس، ولعله لم يرتض أن تنسب إليه.
وعلى كل حال كتبه المهمة كانت قد ذاعت وشاعت نسخها فى الناس، فلم يؤثر إحراقه لها -إن كان قد أحرقها-شيئا. وكأن هذا الإحراق كان معلما قويا على طريق حياته التى أخذ يمضيها فى شيراز منذ هذا التاريخ متجها بكيانه وروحه إلى بارئه، مناجيا له وداعيا، مع اتخاذه لنفسه حلقة يروى فيها الناس عنه-كما ذكر السبكى-الحديث النبوى حتى وفاته.
وأبو حيان يعدّ أكبر أدباء العراق فى هذا العصر من القرن الرابع الهجرى إلى القرن الثالث عشر، ويمتاز أدبه بتنوع موضوعاته، إذ تناول فيه-كما فى كتابه الإمتاع والمؤانسة-كثيرا من جوانب التفلسف والفكر العميق فى الإلهيات والطبيعيات والإنسان والأخلاق والنفس، فأدبه ليس لفظيا، قعقعة ولا طحن، بل هو أدب يحمل زادا كبيرا من المعانى، وقد أشار مرارا فى الإمتاع وغيره من كتبه إلى أن واجب الكاتب أن يعنى بالمعانى كما يعنى بالألفاظ، وهو شئ طبيعى لمن تمثل مثله ثقافة زمنه على اختلاف ألوانها، فقد
استوعبها استيعابا رائعا، وصدر عنها فى كتاباته صدورا طبيعيّا، كما يصدر الضوء عن الشمس. وأداه ذلك إلى أن ينفصل عن موجة السجع التى سادت الكتابات الأدبية فى أيامه، إذ رأى فيها طلبا للفظ أو الألفاظ واستعلاء لها على المعانى، بل قل تحيّفا وانتقاصا، فازورّ عنها، وكانت المكتبة العربية قد ألقت بكنوزها بين يديه فى أثناء وراقته ونسخه، فراعه أسلوب الجاحظ وأدبه، إذ رآه يوازن موازنة دقيقة بين الأداء الصوتى والمعانى، مستخدما أسلوب الازدواج الذى عرف به، وقد يتخلله فى الحين البعيد بعد الحين السجع، ولكن دون التزامه ودون الإكثار منه، فاستقر هذا الأسلوب فى نفس أبى حيان وأصبح جزءا لا يتجزأ من أدبه وكتاباته. ويبلغ فيه ذروة من الجمال الصوتى لعلها لا تقل جمالا وروعة عن نظيرتها عند الجاحظ. وهو يتسع اتساعا واضحا فى أسلوبه بالترادف وما يتبعه من التقطيع الصوتى، ولنقرأ هذه الفقرة فى فاتحة الرسالة التى توسل بها إلى أبى الفتح بن العميد.
وقد بدأ أبو حيان الرسالة بالسجع وسرعان ما انصرف عنه إلى أسلوب الازدواج، معادلا بين كل عبارة وتاليتها معادلة صوتية دقيقة، وليس ذلك فحسب، فإنه يستغل قدرته الفكرية فى تفريع الجمل بعضها من بعض، إذ بدأ بالصواب وجعله ينتهى بالتوفيق. ونحس كثيرا إزاء ازدواجات أبى حيان وتفريعاته كأنما يريد أن يكتسح بها قارئه اكتساحا، دون أن يستطيع تخلصا أو إفلاتا. وكان عجبا له أن هذه الرسالة التى كتبها لأبى الفتح لقيت منه إعراضا، وعرف أن السبب فى ذلك أنها لم تكتب بلغة السجع لغة معاصريه، إنما كتبت بأسلوب الجاحظ، فرأى أن يدافع عن هذا الأسلوب بقوة مما جعله يكتب رسالة فى تقريظ الجاحظ يشيد فيها به وبفنه. ولا يروعنا عنده ظاهر هذا الأسلوب وما يتخلله من السجع أحيانا إنما يروعنا فيه أيضا ما شفعه به من تلوينات عقلية تتداخل فى جميع أوعيته الصوتية، ونقصد الشراب السائغ الذى تحمله هذه الأوعية من المعانى الغزيرة حين يتحدث عن موضوع من الموضوعات، فإذا هو يستقصيه من جميع أطرافه، ولا يكاد يترك فيه فكرة ولا خاطرة. ويكفى لبيان ذلك كتابه «مثالب الوزيرين» الذى
يقع فى نحو ثلثمائة وستين صحيفة، إذ لم يترك جانبا فيهما إلا مزقه تمزيقا، وخاصة الصاحب بن عباد، وإنه ليعتذر عن ثلبه وذمه بمثل قوله فى الكتاب:
«رمانى عن قوسه معترقا (1) فأفرغت ما كان عندى على رأسه مغيظا، وحرمنى فازدريته، وحقرنى فأخزيته، وخصّنى بالخيبة التى نالت منى، فخصصته بالغيبة التى أحرقته، والبادى أظلم، والمنتصف أعذر، وكنت كما قال الأول:
وإن لسانى شهده يشتفى به
…
أجل وعلى من صبّه الله علقم
ولئن كان منعنى ماله الذى لم يبق له، فما حظر علىّ عرضه الذى بقى بعده، ولئن كنت انصرفت عنه بخفّى حنين، لقد لصق به من لسانى وقلمى كل عار وشنار (2) وشين، ولئن لم يرنى أهلا لنائله (3) وبرّه، إنى لأراه أهلا بقول الحق فيه، ونثّ (4) ما كان اشتمل عليه من مخازيه، ولئن كان ظن أن ما يصير إلىّ من ماله ضائع، إنى لأوقن الآن أن ما يتصل بعرضه من قولى شائع. والمنصف فى الحكم يعذر المظلوم، ويلوم الظالم».
وواضح فى الفقرة أن أبا حيان يعتمد فى أسلوبه المزدوج على المقابلات، فهو يقابل بين صنيع الصاحب به وصنيعه بالصاحب فى كل عبارتين متواليتين. وهو يتسع فى ذلك هنا وفى كثير من جوانب كتاباته، يرفده فى ذلك ذهن خصب حافل بالمعانى المتقابلة فلا يكاد المعنى يدوّنه قلمه حتى يسيل معه مقابله. وشئ من ذلك كان عند الجاحظ وقد صورناه فى حديثنا عنه بكتابنا «الفن ومذاهبه فى النثر العربى» ولكن الجاحظ لا يبلغ فيه هذا المبلغ الذى نجده عند أبى حيان فقد كانت ثقافته، وخاصة الثقافة الفلسفية، أوسع بحكم تقدم العصر، فغزر فكره إلى أقصى حد، وكان لسانه يطاوعه ولا يتأبى عليه شئ من التعبير، فاتسعت المقابلات عنده واتسع توليد المعانى بل فيضانها من نبع متدفق لا يتوقف رفده ولا مدده.
ونراه فى الإشارات يصور إحساسه فى أواخر حياته بالغربة التى طالما أمضته والتى وصفها فى مقدمة رسالته: الصداقة والصديق، إذ لم يبق له مؤنس ولا صاحب ولا مشفق إلا الوحشة والوحدة، وكادت شمس الحياة تغرب، وماء الحياة ينضب. وإنه ليطيل فى الإشارات فى وصفه للغريب إذ يمتّد فى ست صفحات لبّته فيها الألفاظ ولبّته المعانى بمثل قوله:
«قد قيل الغريب من جفاه الحبيب، وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب،
(1) معترقا: أى حتى نفذ السهم من اللحم إلى العظم.
(2)
شنار: شنعة.
(3)
نائل: عطاء.
(4)
نث: نشر.
بل الغريب من تغافل عنه القريب، بل الغريب من حاباه الشّريب (1)، بل الغريب من نودى من قريب، بل الغريب من هو فى غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب. . والغريب من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعذّاله. . والغريب من إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا. .
والغريب من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحق زجر، وإذا قعد لم يزر. . الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. . الغريب من إذا أقبل لم يوسّع له، وإذا مرض لم يسأل عنه. . الغريب من إن زار أغلق دونه الباب، وإن استأذن لم يرفع له الحجاب. . الغريب ليله أسف، ونهاره لهف، وغداؤه حزن، وعشاؤه شجن، وسره علن، وخوفه وطن».
وهى كلمات من سيل الغربة الذى تدفق فى صفحات الإشارات، وكأنما هو سيل ليس له آخر من المعانى التى صيغت فى أسلوب الازدواج. وغلب السجع فى هذه الكلمات، وهو يكثر فى الإشارات كثرة لا نراها فى كتبه الأخرى، مما يدل على أنها حقا آخر كتاباته.
ونجد فيها نفس الحرارة التى لا تغيب أبدا عن كتابات أبى حيان لا فى شبابه ولا فى هرمه.
وارجع إلى فكر أبى حيان الخصب فى هذه الكلمات وما يصوره من ضروب الغربة، حتى لتشمل الغربة النفسية لمن لم يغترب، بل لمن يواصله الحبيب وينعم بوصله. وبذلك بثّ فى كلامه معانى إنسانية عميقة، وهى تجرى فى كتاباته، وقد ختم حديثه عن الغريب بقوله:
«دع هذا كله. الغريب من أخبر عن الله بأنباء الغيب داعيا إليه، بل الغريب من تهالك فى ذكر الله متوكلا عليه، بل الغريب من توجه إلى الله قاليا لكل من سواه، بل الغريب من وهب نفسه لله متعرّضا لجدواه» . فحتى الصوفى غريب، ولعله أولى بالشفقة والعطف من جميع الغرباء حوله. ومن أروع الأشياء حقا أدعيته ومناجياته لربه فى الإشارات من مثل قوله:
وخصائصه التى صورناها واضحة فى هذا الدعاء، فهو يعتمد فيه على الازدواج
(1) الشريب: المشارك فى الشرب.
ومعادلاته الموسيقية، هو وما قد يلتحم معه من السجع، كما يعتمد على التفريعات فى المعانى والتوليدات والمقابلات والاستعارات مما يروع قارئه روعة شديدة، بل مما يمتع سمعه وعقله وقلبه متعة هنيئة.
4 -
ابن (1) مسكويه
هو أبو على أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه، واضطربت المصادر القديمة فى مسكويه هل هو اسم جده أو هو اسمه، فذكر ياقوت فى ترجمته وكذلك القفطى فى تاريخ الحكماء أن مسكويه اسمه، وقال ابن خلكان فى ترجمة ظهير الدين الروذراورى إنه أبو على أحمد بن محمد المعروف بمسكويه. وجعلت المصادر الأخرى لترجمته مسكويه اسم جده، وهو الذى يتبادر من اتفاق المصادر على أن اسمه أحمد بن محمد، وكأن اسم جده غلب عليه أحيانا. ويقول ياقوت إن مسكويه كان مجوسيا وأسلم وكان عارفا بعلوم الأوائل معرفة جيدة، وكأنه خلط بين الحفيد والجد، فالمجوسية للجد والمعرفة بعلوم الأوائل للحفيد.
وليس بين أيدينا شئ واضح عن نشأة ابن مسكويه ومرباه فضلا عن مولده ومسقط رأسه، وأكبر الظن أنه ولد حوالى سنة 320 للهجرة لا سنة 330 كما ظن مرجليوث فى مقدمته لكتاب تجارب الأمم، إذ نراه يعمل مع المهلبى وزير معز الدولة البويهى منذ سنة 345 حتى وفاته سنة 352 والمعقول أن يلتحق بالعمل فى دواوينه وهو فى نحو العشرين على الأقل. ونسبه بعض من ترجموا له إلى الرّىّ، وقد تكون مسقط رأسه وموطن آبائه.
ويبدو من صلته المبكرة بالمهلبى وعمله معه ببغداد أنه إما أن يكون منشؤه ومرباه فيها بحيث أتيحت له فرصة تعرفه على المهلبى، وإما أن يكون قد نزلها فى شبابه لاستكمال ثقافته.
وتدل كتبه ومؤلفاته على أنه كان فيه نزوع للاطلاع على كتب الأدب والتاريخ وعلوم الأوائل، ولابد أنه اختلف فى بغداد إلى كثير من أساتذة هذه العلوم. ونظن ظنا أنه
(1) انظر فى ابن مسكويه وترجمته تتمة اليتيمة 1/ 96 ومعجم الأدباء 5/ 5 وابن خلكان 5/ 137 وروضات الجنات للخوانسارى 36 وتاريخ الحكماء للقفطى 331 وابن أبى أصيبعة 330 ورسائل الخوارزمى وصوان الحكمة ص 346 وما بعدها والإمتاع والمؤانسة لأبى حيان 1/ 35 ومقدمة أحمد أمين للهوامل والشوامل وتاريخ الفلسفة فى الإسلام لدى بور ص 158 ومقدمة مرجليوث لكتاب تجارب الأمم والتراث اليونانى فى الحضارة الإسلامية ترجمة د. بدوى ص 90 ودائرة المعارف الإسلامية فى مادة ابن مسكوية وكتاب ابن مسكويه: فلسفته الأخلاقية ومصادرها لعبد العزيز عزت (طبع القاهرة) ومقدمة د. عبد الرحمن بدوى لكتابه الحكمة الخالدة.
اختلف مع لداته إلى يحيى بن عدىّ ومجالسه التى كان يحاضر فيها تلاميذه فى تلك العلوم، كما اختلف إلى حلقات شيوخ مختلفين فى اللغة والتاريخ، ثم التحق بالعمل مع المهلبى، ونراه فى كتابه تهذيب الأخلاق يصرح بأنه مرت عليه فترة كان يعكف فيها على اللذات الجسمانية ويستكثر من المطاعم والملابس والزينة وأنه تدرج إلى فطام نفسه بعد الكبر واستحكام العادة وأنه جاهد نفسه جهادا عظيما حتى استخلصها من مطالب النفس الشهوانية وارتقى بها إلى مطالب النفس الناطقة أو العاقلة من الفضائل. وأغلب الظن أن هذا الاسترسال فى اللذات إنما كان فى عهد المهلبى الذى مرّ بنا انهماكه فى الغناء والقصف وشرب الخمر وأنه كان يعقد بقصره لذلك ليلتين فى كل أسبوع، ولابد أن ابن مسكويه كان يحضر هذا المجلس من حين إلى آخر، واندفع فيما اندفع فيه المهلبى من اللهو، حتى إذا توفى وصادر معز الدولة أمواله وقبض على بعض حواشيه ولّى ابن مسكويه وجهه نحو الرّىّ ووزير ركن الدولة هناك أبى الفضل بن العميد، فأقامه خازنا على مكتبته. وربما كان فى ذلك ما يدل على أنه عرف بثقافة واسعة تشمل كل علم وكل فن، ولذلك اتخذه ابن العميد مشرفا على مكتبته ينظّمها ويضيف إليها روائع الكتب لزمنه فى مختلف العلوم والفنون. وتعرّف عليه أبو حيان التوحيدى حين وفوده على ابن العميد. وقال إنه رآه يهتم بعلم الكيمياء دون غيره من علوم الأوائل. وأكبر الظن أن أبا حيان بالغ فى قوله، فقد كان ابن مسكويه يهتم بعلوم الأوائل جميعا كما يتضح من مديحه لأبى الفضل بن العميد فى الجزء السادس من كتابه تجارب الأمم، إذ يقول عن شغفه بهذه العلوم:«فأما علم المنطق وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة فما جسر أحد فى زمانه أن يدعيها بحضرته» وطبيعى وابن مسكويه خازن كتبه أن يكون له بها نفس اهتمامه، وكان يعهد إليه بتربية ابنه أبى الفتح وتعليمه. ولما توفى أبو الفضل سنة 360 وتحولت مقاليد الوزارة إلى أبى الفتح ظل خازنا لكتبه وأعلى منزلته. ويقبض على أبى الفتح سنة 366 ويتحول ابن مسكويه إلى عضد الدولة البويهى، مؤملا العمل عنده فيتخذه خازنا لكتبه، ويجعله من ندمائه المقربين إليه، حتى إذا استولى على بغداد سنة 367 تحوّل معه إليها. وأخذ يعنى-منذ هذا التاريخ على الأقل-بمجالس المتفلسفة ومصاحبتهم، فكان لا يكاد يفترق عن ابن الخمّار المتفلسف الذى مرّ ذكره، كما كان يلم أحيانا بمجلس أبى سليمان المنطقى السجستانى ويستمع إلى ما فيه من محاورات بين متفلسفة عصره. أما زعم أبى حيان بأنه أعطاه شرحا لإيساغوجى وقاطيغورياس لأبى القاسم غلام أبى الحسن العامرى سنة 372 فلا يغض من شأنه كما أراد، بل لعله يدل على رغبته فى الاطلاع على كتب الفلسفة. وظل بعد وفاة عضد الدولة
فى السنة المذكورة يعمل مع ابنه صمصام الدولة (372 - 376 هـ) ثم مع ابنه الثانى بهاء الدولة (379 - 403 هـ) ويبدو أنه تحول مع صديقه ابن الخمار إلى بلاط خوارزم شاه مأمون بن مأمون إذ يذكر أنهما خدماه مع جملة من الأطباء منهم ابن سينا، ويغلب أن يكون ذلك فى أوائل القرن الخامس الهجرى. وحدث بينه وبين ابن سينا شئ من الجفوة، حتى ليذكر القفطى أن ابن سينا قال إنه حاضره فى مسألة فاستعادها كرات دون أن يفهمها، ويصفه بأنه كان عسر الفهم. وفى رأينا أن ابن سينا تجنّى عليه، كما تجنّى عليه أيضا أبو حيان فى كلمته عنه بكتابه الإمتاع إذ قال إنه «عيىّ بين أبيناء» . وكتبه تشهد بفصاحته وذكائه. وبأخرة من حياته ترك خوارزم إلى أصفهان وعاش حتى بطلت حركته وبلغ من الكبر عتيّا، فقد توفى عن نحو مائة عام سنة 421. وكان شيعيّا إماميّا يعتقد بعصمة الإمام على نحو ما ذكر ذلك فى خواتيم كتابه الفوز الأصغر.
وابن مسكويه يعدّ فى الصفوة من فضلاء عصره وأجلاّئه، يقول الثعالبى فى وصفه:
«إنه فى الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر» ويذكر له طائفة من أشعاره تدل على براعته الشعرية وإحسانه فى صنع الشعر ونظمه، غير أنه لم يتفرغ له ولم يجعله وكده وهمّه. وكان ناثرا بليغا كما يتضح من تراسله مع الخوارزمى وبديع الزمان. وفى رسائل الخوارزمى رسالة يعزيه فيها عن زواج أمه بعد وفاة أبيه، مما يؤكد أن صداقة كانت ناشبة بينهما، وربما رجعت إلى أيام شبابه. وفى ترجمة ياقوت له رسالتان متبادلتان بينه وبين بديع الزمان، يتنصّل البديع فى أولاهما من شئ بلغ ابن مسكويه عنه بعد مودة وثيقة كانت بينهما، وردّ عليه ابن مسكوية فاسحا فى تنصله ومشيدا ببلاغته. ولم يجعل ابن مسكويه التراسل الأدبى صناعته، إذ كان يهتم بالتأليف وبرسالة خلقية كبرى جرّد نفسه لها فى معظم كتاباته وتأليفاته، ويذكر له القفطى من كتبه المتصلة بالطب كتابا فى الأدوية المفردة، وذكر له كتابا فى الأطعمة.
وأول ما نقف عنده من كتبه كتابه «تجارب الأمم» وهو فى التاريخ العام من الطوفان حتى سنة 369 مع أنه عاش بعد ذلك طويلا كما مرّ بنا، ويقال إنه وصل به حتى وفاة عضد الدولة صاحبه سنة 372. ويبدو من مقدمة الكتاب ومن نفس اسمه أنه أراد به أن يتخذه الناس وخاصة الملوك والحكام والقواد عظة وعبرة، مما يرون فيه من أحداث التاريخ وتجاربه، فمقصده مقصد أخلاقى، وهو المقصد الأسمى الذى ابتغاه فى تآليفه على نحو ما سنرى عما قليل. وللكتاب أهمية تاريخية بعيدة، وقد سقط من يد الزمن أكثر أجزائه، ونشر منه القسم الأخير الخاص بالقرن الرابع الهجرى وهو فيه يعرض تاريخ البويهيين الذين خدم فى
دولتهم عرضا عادلا منصفا دون تحيز، ومما يدل على ذلك موقفه من صديقه أبى الفضل ابن العميد حين كفّ يده عن مساعدة المتطوعين لجهاد الروم الذين أقبلوا من خراسان فى حماسة بالغة حين جاءهم النبأ المشئوم باستيلاء الروم على ثغرى المصّيصة وطرسوس فى شمالى الشام، إذ وفدوا على أبى الفضل بن العميد فى الرىّ سنة 354 يطلبون المال للميرة والسلاح، فردّهم ردّا منكرا، وكأنه خشى منهم مكيدة فسلّط عليهم جنوده، ففرّقوا جموعهم، ويأسى لذلك ابن مسكويه قائلا:«لو أن هؤلاء المتطوعين لجهاد الروم- وكانوا يبلغون نحو عشرين ألفا-أعطاهم ابن العميد المال الذى طلبوه لانضمت إليهم فى الطريق أعداد ضخمة من الغزاة المجاهدين ولنكّلوا بالروم نكالا شديدا، لكن لله أمرا هو بالغه» . فصداقته لأبى الفضل بن العميد لم تمنعه من تسجيله عليه هذه الوصمة فى تاريخه، ويبدو أن ابن مسكويه فرغ من تأليفه لهذا الكتاب التاريخى الذى كان يقع فى ست مجلدات إما فى حياة عضد الدولة وإما بعد وفاته مباشرة لأنه لم يذكر فيه شيئا عن خلفائه من أبنائه.
وهذا المقصد الأخلاقى من العبرة والعظة الذى دفعه إلى تأليف هذا الكتاب التاريخى الضخم دفعه أيضا إلى تأليف كتابه «جاويدان خرد» أى العقل الأزلى، وقد اختار له اسما فارسيا، مما يدل على أنه ألف مبكرا، وهو لا يزال فى الرىّ بخدمة أبى الفضل بن العميد وابنه، وربما كان أول مصنفاته، وقد نشره الدكتور عبد الرحمن بدوى باسم الحكمة الخالدة، وهو يصوّر فى ابن مسكويه منزعا إنسانيا واضحا، إذ يجعل العقل الإنسانى وما ينتجه من الحكم فوق كل جنس وكل أمة، بدليل ما جمعه فى الكتاب من حكم الفرس والهند والعرب والروم الشرقيين، مما يثبت أن العقل الإنسانى واحد مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة بالإنسان، ومهما اختلفت الظروف الطبيعية والاجتماعية.
وقد شغل ابن مسكويه نفسه بالأخلاق حتى عدّ من أئمة نظرياتها ومباحثها، وهو يعرض لها فى ثلاثة كتب، هى الفوز الأصغر وتهذيب الأخلاق والهوامل والشوامل. أما الفوز الأصغر فقد تناول فيه ثلاث مسائل كبرى، وجعل كل مسألة فى عشرة فصول، والمسألة الأولى تتصل بالإلهيات، وهى فى إثبات الصانع وأنه واحد أزلى ليس بجسم وأنه واجب الوجود ليس بمتركب ولا متكثر ولا متحرك مما يؤكد أنه إنما يعرف بطريق السلب دون الإيجاب، وأيضا فإن الله أبدع الأشياء لا من شئ. والمسألة الثانية تتصل بالنفس وأحوالها وأنها ليست بجسم ولا عرض وأنها تدرك المحسوسات والمعقولات وأنها ليست الحياة بل هى التى تعطى الحياة، وهى لا تبطل ولا تموت، ولها حال من الكمال تكون بها سعادة
الإنسان عن طريق الحكمة النظرية والأخرى العملية التى تحصل بها الهيئة الفاضلة التى تصدر عنها الأفعال الجميلة. وإذا عاق هذه الحكمة عائق فإنه يتدنّى فى حال من النقص يكون فيها شقاؤه. ويوضح هنا توضيحا رائعا كيف أن الإنسان خلق مدنيّا بالطبع، إذ لم يخلق خلق من يعيش وحده من الوحش والبهائم والطيور وحيوان الماء، فكلها تتم لها حياتها خلقة وإلهاما، أما الإنسان فلا تتم له حياته إلا بالتعاون والتعاضد فى كل ما يتعلق به من المطعوم والملبوس والمشروب. ويحمل على الزهاد الذين يحرّمون المكاسب لأنهم يعتمدون على الناس فى ضرورات أبدانهم ويطلبون معونتهم ولا يعاونونهم بشئ، وهم بذلك-فى رأيه-جائرون ظالمون. والمسألة الثالثة فى النبوات، وقد بدأ فصولها بالحديث عن مراتب الموجودات فى العالم التى تسرى فيها الحكمة ويظهر التدبير المتقن، وهى النبات والحيوان والإنسان. وكل نوع فى هذه الموجودات الثلاثة لا يزال يترقى حتى يصل إلى صورة النوع الذى يليه، فالنبات لا يزال يرقى حتى نرى أرفعه يقبل صورة الحيوان على نحو ما يرى فى أشجار النخيل ففيها المذكر والمؤنث وتحتاج إلى التلقيح كالسّفاد فى الحيوان، والحيوان لا يزال يرقى حتى يقبل صورة الإنسان فى القرود وما يماثلها فى الخلقة الإنسانية. وهى تقترب فى التمييز وقبول المعارف من الزنج وأشباههم. وبالمثل لا يزال يرقى الإنسان حتى يبلغ وجودا أعلى من الوجود الإنسانى وهو وجود الملائكة. ومن هنا أو فى هذه الدائرة يظهر الأنبياء. وواضح أن فكرة ترقى الموجودات عند ابن مسكويه تشبه نظرية أهل النشوء والارتقاء، مما يدل على روعة تفكيره وأصالته.
وخصّ ابن مسكويه نظريته الأخلاقية بكتاب مفرد هو تهذيب الأخلاق، وهو كتاب نفيس إلى أقصى حد ونظريته فيه تقوم على المزج بين الروح الإسلامية كما يمثلها القرآن الكريم والسنة النبوية وبين آراء فلاسفة اليونان: أرسطو وجالينوس وأفلاطون وكذلك آراء الكندى والفارابى وما قرأه من حكم الفرس والهنود والعرب وما تلقفه من تجارب الحياة. وهو يستهله بتعريف النفس وأنها ليست جسما ولا جزءا من جسم ولا عرضا، ويستدل على أنها ليست جسما بأنها تقبل صور الأشياء المتناقضة بينما الأجسام لا تقبل إلا صورة واحدة كالطول والعرض والبياض والسواد، ثم هى تدرك المحسوسات والمعقولات وتميز المدركات الحسية والعقلية الصحيحة والخاطئة. ويلاحظ-كما لاحظ الفلاسفة قبله-أن للنفس ثلاث قوى: قوة شهوانية وقوة غضبية وقوة عقلية ويقول إن الغرض من كتابه إصابة الخلق الشريف الذاتى لا العرضى عن طريق المال أو السلطان أو المكاثرة والمغالبة. ويمضى فيما وضع الكتاب من أجله وهو بيان نظريته الخلقية عن الخير
وكيف أنه غاية الإنسان من وجوده حتى يحصل على الفضائل، وهو لا يحصل عليها إلا إذا طهرت نفسه من الشهوات الجسمانية والنزوات البهيمية ويفرق بين الخير والسعادة، فالخير عام للبشر جميعا والسعادة خاصة بكل إنسان حسب ما يحقق لنفسه من المآرب العقلية وغير العقلية. ولما كان الخير كثيرا ولم يكن فى طاقة الإنسان الواحد القيام بجميعه وجب أن تنهض به جماعة كثيرة، حتى يتوزعوه، ولذلك يجب على الناس أن يحب بعضهم بعضا لأن كلا منهم لا يتحقق كماله إلا بغيره. ويرى أن الأجناس الكبيرة للفضائل أربعة هى الحكمة والعفة والشجاعة والعدل، ويأخذ فى بيان أنواع كل جنس من هذه الأجناس ملاحظا نظرية الأوساط الأخلاقية عند أرسطو، وهى أن الفضيلة دائما تقع بين رذيلتين.
ويأخذ برأى جالينوس القائل بأن الناس أقسام ثلاثة: أخيار بالطبع وهم قلة، وأشرار بالطبع لا يمكن أن يتحولوا أخيارا وهم كثرة، ووسط بين الطرفين، وهم قابلون لأن يكونوا أخيارا بالتأديب أو أشرارا أيضا بالتعليم، وقد ينتقلون إلى الخير بمصاحبة الأخيار وبالمثل إلى الشر بمصاحبة الأشرار. وينقل عن أرسطو أن الشرّير قد ينتقل إلى الخير بالتأديب.
ويعرض للشريعة وأنها هى التى تقوّم الناشئة وتعوّدهم الأفعال الخيرة، ويقول إن كمال الإنسان فى اللذات المعنوية لا فى اللذات الحسية، وإن من الواجب أن ترّبى الناشئة على أحكام الشريعة ثم تنظر فى كتب الأخلاق حتى تتأكد تلك الأحكام والآداب فى أنفسها.
ويدلى بفصل طويل فى تأديب الناشئة والصبيان يقتبس أكثره من بروسن ويتحدث عن طائفة من الآداب فى المطاعم وغيرها، ويطيل فى الحديث عن الخير والسعادة وفرق ما بينهما مما أشار إليه. ويفيض فى بيان الفضائل. ثم يتحدث عن التعاون والاتحاد، وفى رأيه أنه لا يمكن أن تقوم جماعة بدون المحبة، وأن علم الأخلاق إنما هو علم الإنسان بما يجب عليه فى الجماعة، وبها تفسّر الأخلاق، فليس هناك خلق فاضل لا يكون محوره الجماعة، ومن هنا كانت الأفعال الدينية لا توصف بأنها خلقية وكانت العبادة تخرج عن علم الأخلاق. ومن آرائه الطريفة أن أحكام الدين الحنيف تؤلّف مذهبا خلقيا يقوم على محبة الإنسان للإنسان، ولذلك كانت العبادات دائما تتطلب الجماعة على نحو ما هو معروف عن الندب لصلاة الجماعة وفرض صلاة الجمعة واشتراك الناس فى أداء فريضة الحج. وهكذا تقوم شريعتنا على الأنس والمحبة، وفى الذروة من المحبة محبة الله وتليها محبة التلاميذ لأساتذتهم ثم محبة الأبناء لآبائهم. ويقف عند الصداقة طويلا مبينا آدابها، ثم يتحدث أحاديث طريفة عن أمراض النفس وأسبابها وعلاجها وكيف أن الإنسان فى حاجة إلى أن يعرف عيوب نفسه، ويعرض طائفة من الرذائل كالتهور والغدر والغضب.
وكان هذا الكتاب النفيس يدرس للناشئة فى كثير من البلدان العربية فى هذا العصر وشطر من العصر الحديث، وحرى بنا أن نعود إلى دراسته لهم فى المدارس الثانوية، حتى نمدهم بخير زاد لتقويم سلوكهم وتربيتهم تربية خلقية سديدة. وكثيرون يظنون أن قوام نثرنا الرسائل الرسمية والشخصية!
وحسبنا هذا الكتاب لنرى منه خطأ هذه الفكرة وأن فى العربية كتبا نثرية نفيسة لا تمتد صفحاتها فى أسجاع قلما تحوى غذاء فكريّا، بل تمتد فى أسلوب مرسل وتشتمل على زاد من غذاء خلقى تربوى رائع.
ومر بنا أننا نظن ظنا أن ابن مسكويه ألف هذا الكتاب قبل أن يعرض عليه أبو حيان أسئلته الكثيرة التى أجاب عنها فى الهوامل والشوامل، وظننا أن ابن مسكويه أجاب أبا حيان عن أسئلته الكثيرة بعد رجوعه بخفى حنين من لدن الصاحب ترويحا عن نفسه الجريح، ونقول الآن إن كتاب تهذيب الأخلاق هو الذى دفع أبا حيان إلى أن يعرض أسئلته الكثيرة على عالم الأخلاق وفيلسوفها كما اتضح فى هذا الكتاب، وأيضا كما اتضح فى الفوز الأصغر، فقد ألفه ابن مسكويه هو الآخر قبل الهوامل والشوامل بدليل أنه ذكره فى بعض صحفه.
ويكمل كتاب الهوامل والشوامل نظرات ابن مسكويه الأخلاقية. والكتاب مجموعة من المسائل الهوامل التى تحتاج إلى إجابة، جمعها أبو حيان، وقد بلغت مائة وخمسا وسبعين مسألة، وجّهها إلى الفيلسوف الأخلاقى ابن مسكويه، فأجاب عليها إجابات شوامل، وهى موزّعة بين مسائل خلقية ولغوية وأدبية وعلمية. وإجابات ابن مسكويه تصوره حقا متفلسفا ومفكرا كبيرا، وقد أعجب الأستاذ أحمد أمين فى تقديمه للكتاب بإجابة بديعة من إجاباته رد بها على سؤال أبى حيان هل تأتى الشريعة بما يخالف العقل ويأباه كذبح الذبائح مثلا؟ فقد ردّ على هذا السؤال قائلا:
ويذكر ابن مسكويه أن ما يعرض للإنسان من كراهية ذبح الحيوان إنما هو لمشاركته له