الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذى المجرّة والنجوم كأنها
…
نهر تدفّق فى حديقة نرجس
قوما اسقيانى قهوة روميّة
…
من عهد قيصر دنّها لم يمسس
صرفا تضيف إذا تسلّط حكمها
…
موت العقول إلى حياة الأنفس
والصورة فى البيت الثانى جيدة إذ جعل نهر المجرة يتدفق فى حديقة نرجس، وجعل الخمر فى البيت الأخير تميت العقول فى رأيه، ولكنها تحيى النفوس. وله خمرية قالها فى عيد المهرجان، وهى تخلو من مقاذره غير أن فيها تبجحا شديدا باعترافه بعصيانه لربه لشربه الخمر مع ما جاء من تحريمها فى الذكر الحكيم.
وكل ذلك كان يريد به التماجن والتعابث والإضحاك، وقد عاد فى هذه القصيدة أو الخمرية يعلن أن رأس ماله كله خسران إلا ما كان من حبه لآل البيت وللرسول عليه السلام والإمام على وفاطمة الزهراء والحسن والحسين، وتكثر فى أشعاره الكدية أو الشحاذة الأدبية، فهو يكثر من بيان فقره وحاجته، وأنه لا يجد المرق فضلا عن اللحم، وأنه دائما يأكل الخبز بالملح دون إدام فيجرح حلقه من خشونته، ودائما لا يجد صوفا يقيه برد الشتاء ولا خيشا يقيه حر الصيف. وكل ذلك دعابة وفكاهة، فقد كانت الدنانير والدراهم تنسكب عليه من كل جانب.
3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية
منذ ظهور الإسلام يعدّ الزهد والتقشف من صميم حياة المسلم، زهد فى طيبات الحياة ومتاعها وإقبال على ما عند الله من ثواب الآخرة، وهو إقبال يوازن فيه المسلم بين نسكه وتعبده لربه وبين السعى لرزقه، فهو يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا. وهو يضع ثقته فى الله ويتوكل عليه حق التوكل، ولا يرى فى سعيه لكسب قوته ما يقلل من هذا التوكل أو تلك الثقة. وتلقانا فى العراق مع العصر الأموى طوائف من النساك والعباد الزهاد، فالزهد والنسك قديمان فى هذه البيئة، وأخذت تتسع موجة الزهد مع العصرين العباسى الأول والثانى. وظلت حادة فى هذا العصر، ولا شك فى أنها كانت أحدّ وأكثر اتساعا وجمهورا بل جماهير من موجة اللهو والمجون، فقد كانت هذه
تكاد تكون خاصة بالطبقة المترفة فى الأمة ومن حفّ بها من المغنين والمغنيات والشعراء وأهل العبث. وكان الشعب لا يشترك فى اللهو إلا فى مواسم خاصة كأعياد المجوس والنصارى. أما موجة التقشف والنسك فكانت عامة يشترك فيها كثير من الطبقة العامة وجمهور أو جماهير الأمة، إذ كانت تغدو صباح مساء إلى المساجد تتلو القرآن وتسبح الله وتذكره ليلا ونهارا. وكان يغذى هذه الروح فى المساجد وعاظ يزدحم الناس على مجالسهم.
ومن كبار الوعاظ ابن سمعون (1) المتوفى سنة 387 ويقول ابن خلكان: كان وحيد دهره فى الكلام على الخواطر وحسن الوعظ وحلاوة الإشارة ولطف العبارة» ومن قوله:
«سبحان من أنطق باللحم، وبصّر بالشحم، وأسمع بالعظم» إشارة إلى اللسان والعين والأذن، وإياه عنى الحريرى فى المقامة الرازية الحادية والعشرين بقوله فى أوائلها:
«رأيت بالرّىّ ذات بكرة، زمرة فى إثر زمرة، وهم منتشرون انتشار الجراد، ومستنّون (2) استنان الجياد، ومتواصفون واعظا يقصدونه، ويحلّون ابن سمعون دونه» ولم يكن له نظير فى زمنه. وكانت تعاصره ميمونة (3) بنت ساقولة الواعظة البغدادية المتوفاة سنة 393 وكان لها لسان حلو فى الوعظ. وكان قبلها وبعدها كثيرات زاهدات، وكان بعضهن يعظن وبعضهن يحمل عنهن الحديث وقد ترجم ابن الجوزى فى كتابه «صفة الصفوة» لطائفة كبيرة منهن. وفى سنة 496 توفى ببغداد واعظ كبير هو أردشير بن منصور «وبوعظه حلق أكثر الصبيان رءوسهم ولزموا المساجد وبدّدوا الخمور وكسروا الملاهى» (4) ومن كبار الوعاظ الزهاد أبو الوفاء بن عقيل الحنبلى المارّ ذكره ويقول ابن رجب:«من معانى كلامه يستمد أبو الفرج بن الجوزى» . وفى كل بلدان العراق نلتقى بأخبار هؤلاء الوعاظ مثل محمد بن عبد الملك الفارقى (5) المتوفى سنة 564 وقد ترجم له العماد ترجمة ضافية، ذكر فيها مواعظه ومناجياته لربه، وكان يضمنها أشعارا فى الزهد والوجد مثل قوله:
(1) انظر فى ترجمة ابن سمعون ابن خلكان 4/ 304 وتاريخ بغداد 1/ 274 وطبقات الحنابلة لابن أبى يعلى 2/ 155 وصفة الصفوة 2/ 266 والوافى 2/ 51.
(2)
مستنون من استن: جرى.
(3)
النجوم الزاهرة 4/ 209.
(4)
النجوم الزاهرة 5/ 186.
(5)
انظر ترجمة محمد بن عبد الملك فى الخريدة (قسم الشام) 2/ 431 وما بعدها والمنتظم 10/ 229 والوافى 4/ 44.
من كان فى ظلماء ليل ساريا
…
رصد النجوم وأوقد المصباحا
حتى إذا ما البدر أشرق نوره
…
ترك السّراج وراقب الإصباحا
حتى إذا انجاب الظلام جميعه
…
ورأى الضياء بأفقه قد لاحا
هجر المسارج والكواكب كلّها
…
والبدر وارتقب السّنا الوضّاحا
وهى قطعة صوفية رمزية إذ يشير إلى أن من أظلمت عليه الدنيا فى مطلبه الأسنى من الاتصال بربه، يلجأ إلى نجوم فهمه ومصباح قريحته وسراجها، حتى إذا بدر الدراية والمعرفة أشرق على نفسه هجر ذلك السراج وتلك النجوم وانتظر الإصباح والسّنا الوضاح فرأى عين اليقين ونهل من معين الحب الإلهى ورحيقه المصفى. وربما كان أكبر واعظ عرفته العراق فى هذا العصر ابن الجوزى المتوفى سنة 597 وقد وصف مجلس وعظه ابن جبير سنة 580 وصفا مسهبا قائلا «شاهدنا صبيحة يوم السبت الثالث عشر من شهر صفر مجلس الشيخ الفقية الإمام الأوحد جمال الدين أبى الفضائل عبد الرحمن بن على الجوزى بإزاء داره على الشطّ بالجانب الشرقى فى آخره على اتصال من قصور الخليفة. . وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل. . آية الزمان وقرة عين الإيمان رئيس الحنبلية والمخصوص فى العلوم بالرتب العليا إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة (يريد الوعظ) والمشهود له بالسبق الكريم فى البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام فى النظم والنثر، والغائص فى بحر فكره على نفائس الدر، فأما نظمه فرضىّ الطباع مهيارى الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقسّ وسحبان، ومن أبهر آياته وأكبر معجزاته أنه يصعد المنبر ويبتدئ القرّاء بالقراءة وعددهم نيف على العشرين قارئا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات. .
فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن فى إيراد خطبته عجلا مبتدرا، وأفرغ فى أصداف الأسماع من ألفاظه دررا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات فى أثناء خطبته فقرا. . ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. . وحدّث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر. ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب اشتياقا، وذابت بها الأنفس احتراقا، إلى أن علا الضجيج وتردد النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقى ناصيته بيده فيجزّها ويمسح على رأسه داعيا له، ومنهم من يغشى عليه، فيرفع فى الأذرع إليه، فشاهدنا هولا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكّرها هول يوم القيامة،
فلو لم نركب ثبج (وسط) البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة، والوجهة المفلحة الناجحة. فالحمد لله على أن منّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله (1)».
وطبيعى أن ينهى هذا الوعظ الذى كانت تتدفق جداوله فى المساجد الناس عن ارتكاب المعاصى وأن يدفع كثيرين دفعا إلى الزهد فى متاع الحياة وخيراتها فضلا عن قمع النفس عن الشهوات وارتكاب المآثم. وكما كان للوعاظ فضل كبير فى سريان هذه الروح كذلك كان لفقهاء الحنابلة نفس الفضل، فقد كانوا يؤلفون جمهورا كبيرا ببغداد، وكثيرا ما كانوا يثورون طالبين إلى الدولة قلع المواخير وتتبع المفسدين ومن يبيع النبيذ. وكثيرا ما نهضوا بأنفسهم فكبسوا الدور وأراقوا الأنبذة (2) وكانت الدولة لا ترى بدا من النزول على إرادتهم، وسيرهم كما يمثلها كتاب طبقات الحنابلة لابن أبى يعلى وذيله لابن رجب تفوح دائما بشذى الزهد والتقشف والإعراض عن الدنيا وملذاتها، ويستحيل ذلك عند كثيرين منهم إلى أشعار زاهدة وأخرى تفيض بوجد ملتاع. وكان هذا الوجد يصل بين الزهاد والمتصوفة على نحو ما مرّ بنا آنفا فى مقطوعة واعظ ميّافارقين وزاهدها محمد بن عبد الملك. وتمتلئ كتب طبقات المتصوفة بأشعارهم الصوفية الخالصة التى يصورون فيها عشقهم الإلهى ومكابدتهم معطّلين لحواسهم وعقولهم بينما يتجلى الله فى كل الموجودات، وهم سابحون فى بحار الوجد وبين أمواجه، غارقون فى آلام حبهم وأشجانه ودموعه، على نحو ما يصور ذلك الشيخ أحمد الرفاعى صاحب الطريقة الرفاعية المشهورة فى قوله:(3)
إذا جنّ ليلى هام قلبى بذكركم
…
أنوح كما ناح الحمام المطوّق
وفوقى سحاب يمطر الهمّ والأسى
…
وتحتى بحار بالأسى تتدفّق
وسبق أن عرضنا لشهاب الدين السّهروردىّ البغدادى فى الفصل الأول. وهو إمام صوفية بغداد ومقدمهم فى القرن السابع الهجرى، وولىّ عدة ربط للصوفية، وكان فقيها عالما واعظا، عقد مجلس الوعظ سنين، ويروى أنه أنشد يوما فى تضاعيف وعظه (4):
لا تسقنى وحدى فما عوّدتنى
…
أنى أشحّ بها على جلاّسى
أنت الكريم ولا يليق تكرّما
…
أن يعبر النّدماء دور الكاس
(1) انظر رحلة ابن جبير وزيارته فيها لبغداد (طبع ليدن) ص 220 ومصادر ترجمة ابن الجوزى مذكورة فى صفحة 318.
(2)
ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 24.
(3)
ابن خلكان 1/ 172.
(4)
ابن خلكان 3/ 446.