الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرّابع
طوائف من الشعراء
1 - شعراء الغزل
لعلنا لا نغلو إذا قلنا إنه لم يخل شاعر من شعراء اليتيمة والدّمية والخريدة ومن تلاهم على مر الحقب من بعض قصائد أو مقطوعات تغنىّ فيها بالحب، مصورا هذه العاطفة الإنسانية التى تملك على النفوس أهواءها وأحاسيسها ومشاعرها. ويمتلئ تاريخ الشعر العربى بأبطال لهذه العاطفة، يعيشون للحب وآماله وآلامه، يتجرّعون غصصه فى صبر، مهما ألمّ بهم اليأس وما يطوى فيه من حزن. ومن أطرف الأشياء حقا أن نقرأ شعر أحد هؤلاء الأبطال وما يعانون من وجد لا يشبهه وجد وخطوب لا تدانيها خطوب. وهم دائما من العشاق العذريين الذين يتعمقهم الحب ويستأثر بقلوبهم، ويفتنهم فتنة لا يستطيعون الخلاص منها، حتى لتصبح المحبوبة كأنها معبودة، فهم يحبونها، بل يقدسونها، ويقدمون لها الأشعار، بل التراتيل التى يتغنون فيها بسحرها سحرا يشغلهم عن كل شئ وعن كل متاع فى الحياة إلا ما يكون من الغرام العنيف وما ينسج فيه العاشق بشعره من شباك الأمل والتضرع والاستعطاف. وهذا اللون من الحب العذرى العفيف الذى يتحول فى قلب صاحبه إلى ما يشبه جذوة من النار لا تنطفئ أبدا قديم فى الشعر العربى منذ العصر الجاهلى، وأصبح ظاهرة عامة فى بوادى نجد والحجاز طوال العصر الأموى، وظل حيّا بقوة فى العصرين: العباسى الأول والعباسى الثانى، وكانت ترافقه من قديم من موجة من الغزل المادى اتسعت مع العصر العباسى الأول وما كان به من فنون اللهو والمجون على نحو ما يصور ذلك بشارو أبو نواس. غير أن الشعراء التالين حاولوا أن يخففوا من حدة هذا المجون والعبث، بما أشاعوا فى غزلهم من عفة ومن نقاء وطهارة، على نحو ما هو معروف عن أبى تمام والبحترى وابن الرومى وأضرابهم، ومع ذلك كانت لا تزال تظهر فى بغداد وغير بغداد جماعات من الغزلين الماجنين. ولعل ذلك هو الذى دفع المتنبى فى أوائل هذا
العصر إلى أن يهجر فى غزله المرأة المتحضرة، وكأنه رآها أو رأى كثيرات من الجوارى ببغداد فى أوائل شبابه يتهالكن على اللهو ويسرفن فيه، فصمم-كما مرّ بنا-أن يتخذ البدويات الأعرابيات موضوعا لغزله، حتى يردّ إلى الغزل فى أيامه العفة والسمو والنبل والارتفاع عن الجسد والغريزة التى يشترك فيها الإنسان والحيوان، وحتى يذيع فيه أريج الوجدان النقى الأفلاطونى البرئ، كما يذيع فيه شذا الحنان الذى يكتظ به الغزل العذرى عند العرب وما يطوى فيه من حرارة ولوعة. وهذا الوتر من الغزل البدوى الطاهر الملتاع الذى شدّه المتنبى إلى قيثارته، تبعه فيه الشريف الرضى يشده بدوره إلى قيثارة شعره مستخرجا منه ما لا يكاد يحصى من الأنغام كما أشرنا إلى ذلك فى ترجمته، على شاكلة قوله:
خذى نفسى يا ريح من جانب الحمى
…
ولاقى به ليلا نسيم ربى نجد
فإنّ بذاك الجوّ حيّا عهدته
…
وبالرغم منى أن يطول به عهدى
ولولا تداوى القلب من ألم الجوى
…
بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
وما شرب العشّاق إلا بقيّتى
…
ولا وردوا فى الحبّ إلا على وردى
فقد انقطعت الأسباب بينه وبين محبوبته النجدية، ولم يبق من أمل إلا أن تلتقى نفسه من جانب الحمى بقطع من النسيم المعطّر بشذا صاحبته، نسيم ربى نجد الذكىّ، وإنه ليشعر بآلام ثقال بقلبه من أثر الحب وعذابه وأوصابه، آلام ليس لها من دواء إلا دواء ذكريات لقائهما، ولولا هذا الدواء لمات أسى والتياعا. وياله من عاشق شرب كأس الحب، حتى لم يبق لغيره منها سوى الثمالة، وكأنه أب العشاق أو كبيرهم، فجميعهم إنما يرد على ورده وينهل من بقية شربه. وتبعه تلميذه مهيار يشدّ إلى قيثارته نفس هذا الوتر، كما مرّ بنا فى ترجمته، صابّا فى أشعاره منه ألحانا كثيرة من مثل قوله:
قل لجيران الغضا آه على
…
طيب عيش بالغضا لو كان داما
نصل العام ولا ننساكم
…
وقصارى الوجد أن نسلخ عاما
حمّلوا ريح الصّبا نشركم
…
قبل أن تحمل شيحا وثماما
وابعثوا أشباحكم لى فى الكرى
…
إن أذنتم لجفونى أن تناما
والغضا من أشجار نجد، وكذلك الشيح والثمام من نباتاتها ذات الرائحة الطيبة.
والقطعة تفيض بالحنين لصاحبته وأهلها من جيران الغضا أو أهل نجد، فإنه لا ينساهم ولا يسلوهم، ولا يزال يأمل فى أن تحمل ريح الصبا نشرهم العطر حتى يردّ إليه روحه،
ويتمنى أن يرى صاحبته ولو خيالا أو شبحا فى النوم حتى تملأ نفسه بهجة وغبطة. ولصرّدرّ أشعار نجدية أو فى نجد ومحبوباته بها بديعة، من مثل قوله فى مطلع قصيدته الهائية التى أشرنا إليها فى حديثنا عن شعراء المديح:
وقفنا صفوفا فى الديار كأنها
…
صحائف ملقاة ونحن سطورها
يقول خليلى والظّباء سوانح
…
أهذى التى تهوى؟ فقلت نظيرها
ويا عجبى منها يصدّ أنيسها
…
ويدنو على ذعر إلينا نفورها
وو الله ما أدرى غداة نظرننا
…
أتلك سهام أم كئوس تديرها
فإن كنّ من نبل فأين حفيفها
…
وإن كنّ من خمر فأين سرورها
أراك الحمى قل لى بأىّ وسيلة
…
وصلت إلى أن قبّلتك ثغورها
وتصوير صرّدر نفسه وصحبه وهم وقوف بأطلال الديار كأنهم سطور بديع، ولا نكاد نمضى معه حتى نشعر بروعة التصوير ودقة المشاعر. فصواحبه والظباء جنس واحد يدنو وحشيّه مذعورا ويصد أنيسه نفورا، ولا يدرى ما الذى أودعته ظباء الإنس-حين نظرن اليهم-قلوبهم وأفئدتهم، هل أودعتها نبلا قاتلا، أو كئوسا من خمر تلذ الشاربين.
ويظل فى حيرته ويتساءل إنها إن كانت نبلا فأين حفيفها ودويّها؟ وإن كانت كئوسا فأين سرورها ومتاعها. ويلتفت إلى شجر الأراك وبراهنّ يتخذن منه المسواك، فيسأله مذهولا كيف وصل إلى ثغورهنّ. وكلها حيرات تصور لوعات هذا العاشق المفتون، ومن بديع غزلياته قوله:
نسائل عن ثمامات بحزوى
…
وبان الرّمل يعلم من عنينا
وقد كشف الغطاء فما نبالى
…
أصرّحنا بذكرك أم كنينا
بنفسى راميات ليس تفنى
…
نصول سهامهنّ إذا رمينا
وأمسينا كأنا ما افترقنا
…
وأصبحنا كأنا ما التقينا
إنه يمشى على استحياء فى ديار صواحبه بحزوى يسأل عن نبات الثمام، وكل شيئ فى الديار حتى ما بها من أشجار البان تعلم حقيقة أمره وخبيئة سرّه، فقد كشف الغطاء وذاع السر المخبوء. وإنه ليفدى بروحه من رمته بسهامها، ويقول إن سهامها لا تفنى أبدا، فهى ما تنى ترسلها على المعجبين والمحبين. والبيت الأخير حكمة بديعة تصدق على كل شئ فى الدنيا وكل أمل ضائع أو سيضيع.
وهذا الوجد فى شعر الغزل البدوى وما يثير فى النفس من حنين ومن ظمأ لا يرتوى إلى رؤية المحبوبة استغله المتصوفة منذ ظهوره للتعبير عن حبهم للذات الإلهية بما فيه من مواجد ومن لوعات، لوعات تلذع فى الفؤاد كأنها نيران محرقة، فإنهم وجدوا فيه خير معبّر عن تشوقهم لرؤية الذات الإلهية، وأنىّ لهم! ، فمضوا يتغنون به فى حفلات الذكر المعروفة حين ينعقد الذاكرون لله فى صفين متقابلين، ويقف منشد بينهما، يرتّل أشعار الوجد والهيام تارة مما نظمه الصوفية وتارة مما نظمه الشريف الرضى ومهيار وغيرهما ممن تلاهما واستلهم طريقتهما البدوية النجدية فى الغزل، لما أحسوا فى هذه الطريقة من الوجد والصبابة، بل من سعة النداء فيها، وهى سعة تلاحظ أيضا فى الغزل الصوفى، وكأن هذين الضربين من الغزل يلتقيان، وهو التقاء هيأ لأن يتأثر الغزل عامة بالشعر الصوفى، وأن يتيح ذلك الفرصة لظهور ما يمكن أن نسميه الشعر الوجدانى الصافى، على نحو ما سنرى عند الحاجرى والتّلعفرىّ.
ولا بد أن نلاحظ أن وتر الغزل البدوى الذى شدّه المتنبى إلى فيثارته ظل الشعراء بعده لا فى العراق وحده بل فى جميع الأقاليم العربية يشدّونه إلى قيثاراتهم حتى العصر الحديث، إذ وجدوا فيه فسحة للتعبير عن حبهم ووجدهم وما يثيران فى القلوب من العواطف والأهواء. وقد تفجرت ينابيعه تفجرا فى مقدمات المدائح النبوية التى أخذت تجرى على كل لسان منذ القرن السابع الهجرى. ومرّ بنا فى الفصل الأول من هذا القسم حديث طويل عن تغنى الجوارى والحرائر فى بغداد لزمن أبى حيان التوحيدى، وما ذكره من أنه كان ببغداد أربعمائة وستون جارية ومائة وعشرون حرة يتغنين بأشعار غزلية تدلع الوجد والحنين واللوعة فى قلوب الناس من المتصوفة وغير المتصوفة، فتتفتّت قلوبهم وتتحدر دموعهم ويعلو نحيبهم، ومنهم من يسقط مغشيا عليه، ومن يلطم وجهه ويخرّق ثيابه أو يمزّقها، ومن يضرب الأرض بقدمه أو بجسده ويرغى ويزبد. وكان وراء هؤلاء المغنيات مغنون يعدّون أو قل لا شك أنهم كانوا يعدّون بالعشرات إن لم يكن بالمئات، كانوا يزلزلون الأرض-كما يقول أبو حيان-بأصواتهم الناعمة وألحانهم الرخيمة ودماثتهم الحلوة. وكل ذلك عمل على ازدهار شعر الحب وأغانيه.
وطبيعى أن يتكاثر شعراء الغزل فى هذا العصر كما تكاثروا فى العصور السابقة، وأن لا يقف ذلك عند شعراء القرنين الرابع والخامس وأن يتعدّاهم إلى شعراء القرنين السادس والسابع ومن جاء بعدهم، ومن أهم الشعراء الذين عاشوا للغزل وشعر الصبابة فى القرن
السادس الشاعر الملقب بالأبله (1) لقّب بذلك لأنه كان فيه طرف بله، وقيل بل لأنه كان غاية فى الذكاء فلقّب بذلك على طريقة الأضداد، واسمه أبو عبد الله محمد بن بختيار ابن عبد الله المولّه أى الهائم صبابة وعشقا، وحرّفت الكلمة فى بعض الكتب فقيل المولد بدلا من الموله، وهو تحريف واضح. وذكره العماد الأصبهانى فى كتاب الخريدة، فقال:
«هو شاب ظريف يتزيىّ بزىّ الجند، رقيق أسلوب الشعر حلو الصناعة، رائق البراعة، عذب اللفظ، أرق من النسيم. وكل ما ينظمه، ولو أنه يسير، يسير، والمغنون يغنون برائقات أبياته (مؤثرين لها) عن أصوات (أغانى) القدماء، فهم يتهافتون على نظمه المطرب، تهافت الطير الحوّم على عذب المشرب» . ثم قال أنشدنى لنفسه من قصيدة سنة 555 ببغداد:
زار من أحيا بزورته
…
والدّجى فى لون طرّته
يا لها من زورة قصرت
…
فأماتت طول جفوته
آه من خصر له وعلى
…
رشفة من برد ريقته
يا له فى الحسن من صنم
…
كلّنا من جاهليّته
والكلمات محكمة، وتكاد تطير عن الشفاه طيرانا لخفتها، والدقة واضحة فى تشبيهاته وطبقاته، وأيضا فى مراعاته للنظائر فى الكلمات كما فى البيتين الأخيرين، وقد جعل محبوبته صنما يريد أنها معبودة لفتنتها وسحر جمالها وكأنها أعادت الناس إلى زمن الجاهلية، فكلهم عابد لها مسحور. والكلمات والأبيات معدّة حقا للغناء، إذ كان أستاذا فى زمنه من أساتذة الأغانى، ولذلك كان يتخاطف المغنون والمغنيات غزلياته. ويقول ابن خلكان:«جمع الأبله البغدادى فى شعره بين الصناعة والرقة وله ديوان شعر بأيدى الناس» وقال ابن الجوزى فى المنتظم كانت وفاته ببغداد سنة 579 وقال غيره بل سنة 580 ومن غزله البديع قوله فى مطالع إحدى قصائده:
يا برق إن تجف العقيق فطالما
…
أغنته عنك سحائب الأجفان
هيهات أن أنسى رباك ووقفة
…
فيها أغير بها على الغيران
ومهفهف ساجى اللّحاظ حفظته
…
فأضاعنى وأطعته فعصانى
يصمى قلوب العاشقين بمقلة
…
طرف السّنان وطرفها سيّان
(1) انظر فى ترجمة الأبله المنتظم والنجوم الزاهرة فى سنة 579 وابن خلكان 4/ 463 والوافى للصفدى 2/ 244 وعبر الذهبى 4/ 238 والشذرات 4/ 266.