الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجناس مقبول فى البيت الثانى، وربما الذى جعله مقبولا أن كلمة «كفىّ» هّيأت له واستدعته، فخفّ التكلف فيه، ولم تمجّه النفس، ومثله قوله:
ماذا عليه لو أباح ريقه
…
لقلب صبّ يشتكى حريقه
والجناس هنا بين «ريقه» و «حريقه» مقبول لأنه ليس جناسا تاما يبدو فيه القصد والتكلف، وكأنه جناس طبيعى استدعاه الكلام، وقارن ذلك بقوله:
صدف الحبيب بوصله
…
فجفا رقادى إذ صدف
ونثرت لؤلؤ أدمع
…
أضحى لها جفنى صدف
فقد جانس بين قافيتى البيتين باستخدامه كلمة «صدف» الأولى بمعنى أعرض، والثانية بمعنى غشاء اللؤلؤة، والتكلف شديد الوضوح. وكثيرون غيره من معاصريه كانوا يذهبون مذهبه فى هذا الجناس الثقيل الذى كثيرا ما تقابل فيه كلمتان كلمة واحدة، ويقرب منه فى هذا التصنع بل ربما زاد عليه وأربى أبو الحسن أحمد (1) بن المؤمل، وقد روى له منه الثعالبى أبياتا كثيرة فى الغزل وغير الغزل. وللميكالى وراء غزله أشعار فى وصف الطبيعة وفى الإخوان، وله مداعبات، ولا يخليها أيضا من تصنعه، كقوله:
فتى سخط النّصب فى قدره
…
كما رضى الخفض فى قدره
وقد تصنع لذكر النصب والخفض المعروفين فى النحو، وأراد أنه لا ينصب قدره ولا يدع فيها شيئا يطبخ، كما رضى بالدون فى قدره فلا كرم له ولا همة. ومن طريف ما روى له الثعالبى قوله:
كم والد يحرم أولاده
…
وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تبصر ما حولها
…
ولحظها يدرك ما يبعد
ولعل فيما قدمنا ما يدل على شاعرية أبى الفضل الميكالى، ولو لم يثقلها بكلف الجناسات لبدا خصبها واضحا، إذ كان غزير المعانى والصور. وليس من ريب فى أن إعجاب الشعراء والأدباء من حوله بجناساته هو الذى جعله يبالغ فى ذلك ويغلو فيه.
2 - شعراء اللهو والمجون
كان شعر اللهو والمجون منتشرا فى إيران طوال العصر، إذ كان هناك من ينغمسون فى الملاهى والخمور إما لتحلل الأخلاق وإما هروبا من مآسى الحياة وما فيها من اضطراب
(1) انظر فى ترجمته فى اليتيمة 4/ 148.
القيم، وكان يتورط فيها كثيرون من رجال الدولة: سلاطينها ووزرائها. ومرت بنا أبيات لعضد الدولة فى غير هذا الموضع يقول فيها إن متاع الحياة إنما هو الشرب فى المطر وغناء الجوارى فى السحر. وكان وزراؤه على شاكلته يعكفون على الخمر ويتغنون بها فى أشعارهم من مثل قول الصاحب بن عباد فى وصف كأس مملوءة بالخمر (1).
رقّ الزجاج وراقت الخمر
…
وتشابها، فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
…
وكأنما قدح ولا خمر
وكان كثيرا ما يحاكى الصّنوبرى فى ثلجياته أو بعبارة أخرى فى ذكره الخمر مع الثلج ونزوله فى الشتاء القارس وفى ذلك يقول (2):
أقبل الثلج فانبسط للسرور
…
ولشرب الكبير بعد الصغير
أقبل الجوّ فى غلائل نور
…
وتهادى بلؤلؤ منثور
فكأنّ السماء صاهرت الأر
…
ض فصار النّثار من كافور
وكأنما يتصور الدنيا تجلو عروسا. وتتكاثر هذه الثلجيات عند غيره من شعراء العصر، فقد أكثروا من وصف شرب الخمر واحتسائها فى أيام الثلج وزمهريره، ومعروف أن العكوف على الخمر قديم فى إيران منذ أعتق عصورها، وظل ذلك طوال الحقب، ويقول أبو عبد الله الروزبارى (3):
ما لابن همّ سوى شرب ابنة العنب
…
فهاتها قهوة فرّاجة الكرب
أدهق كئوسك منها واسقنى طربا
…
على الغيوم فقد جاءتك بالطّرب (4)
نثار غيث حكى لون الجمان لنا
…
فاشرب على منظر مستحسن عجب
جاد الغمام بدمع كالّلجين جرى
…
فجد لنا بالتى فى اللون كالذهب
فهى فرحتهم ومسرتهم فى دنياهم، وهم يعبّون منها أرطالا تلو إرطال حين يكفهر الجو بالسحب، لما تبعث فى النفوس من طرب فى أيام الشتاء المفضّضة، التى تتناثر فيها الأمطار، وكأنها نثار عرس مفرح، نثار فضىّ مبهج، ويقول أبو المظفر ناصر بن منصور البستى المعروف بالغزّال (5):
وإذا الهموم تطاولت فاطلب لها
…
عيشا هنيئا بانتزاع مدام
صهباء تسطع فى الكئوس كأنها
…
نار تجيش بوقدة وضرام
من كفّ ساق لو سقاك بكفّه
…
سمّا لكان شفا لكل سقام
(1) النجوم الزاهرة 4/ 171.
(2)
اليتيمة 3/ 261.
(3)
اليتيمة 3/ 416.
(4)
أدهق املأ.
(5)
الدمية 2/ 358.
وكأنها معصورة من خدّه
…
إذ ظلت ترمقه بلحظ سام
وأبو المظفر يريد أن يعيش حياته لتناول الكئوس التى تلهب فؤاده، من كف ساق يقدم له بها ما يشفى سقامه، ويتخيلها كأنما عصرت من خدود جميلة، وهو يكبّ عليها غير محتشم ولا مفكر فى رشاد، فحسبه الخمر وحسبه احتساؤها، وليكن من الإثم ما يكون! ودائما تلقانا هذه الخمريات فى تراجم الشعراء، إذ كان يتورّط فيها كثيرون من مثل عمر الهرندى القائل (1):
لا أحبّ المدام إلا العتيقا
…
ويكون المزاج من فيك ريقا
إنّ بين الضلوع منى نارا
…
تتلظّى فكيف لى أن أطيقا
بحياتى عليك يا من سقانى
…
أرحيقا سقيتنى أم حريقا
فبين ضلوعه نار متقدة لا يشفيها إلا الخمر وهو يعكف عليها، ولا يدرى أحريق هى أم رحيق لأنها تدفعه دائما إلى المزيد، بحيث لا يستطيع أن ينصرف عنها، إذ تأخذ عليه طريقه. وإنها لتظل تملؤه حبّا لها وشوقا لارتشافها، وهو يرتشف ولا يدرى أيرتشف رحيقا أو نارا أو قل أيرتشف شرابا هنيئا أو سمّا زعافا، وهو ممعن فى الشرب متعلق به، لا يستطيع فكاكا منه ولا خلاصا. وكانت للخمر مواسم عندهم هى الأعياد الفارسية والمسيحية، ففى عيد الشّعانين وفى أعياد النّيروز والمهرجان والسّذق أو النار المجوسية يشربون منها ويعبّون فى احتفالات صاخبة. وكانوا يشربونها كثيرا وسط الرياض، ولذلك يكثر عندهم معها وصف الطبيعة والربيع البهيج. وتلقانا فى أثناء ذلك أبيات طريفة من مثل قول أبى منصور قسيم بن إبراهيم، وكان ينظم باللسانين العربى والفارسى (2):
وحجّب فى الثلج الربيع وحسنه
…
كما اكتنّ فى بيض فراخ الطّواوس
وكانوا يخرجون أحيانا للصيد والطّرد. ولأحمد بن عضد الدولة طردية بديعة (3).
ونعجب لألفاظ الفحش والمقاذر التى نجدها عند بعض الشعراء، وهو جانب أشاعه فى العصر ابن الحجاج الشاعر البغدادى المتوفى سنة 391 ومواطنه ابن سكرة. ويلاحظ ذلك صاحب الدمية حين يترجم للمشطّب الهمذانى، فيقول:«له أشعار سخيفة نسج فيها على منوال ابن الحجاج (4)» ويذكر منها قصيدة مليئة بالفحش، وحتى الصاحب بن عباد الوزير الوقور تجرى أمثلة من هذا الفحش على لسانه فى أشعاره (5)، وهى وصمة لها
(1) اليتيمة 3/ 411.
(2)
تتمة اليتيمة 2/ 45.
(3)
اليتيمة 2/ 221.
(4)
الدمية 1/ 572
(5)
اليتيمة 3/ 272 - 275