الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمارة اليمنى
(1)
هو أبو حمزة عمارة بن أبى الحسن اليمنى، من أهل الجبال فى تهامة. من قرية يقال لها مرطان فى وادى وساع، وهو قحطانى مذحجى من سلالة الحكم بن سعد العشيرة. ولد فى سنة 515 فى أسرة تهتم بالعلم والثقافة، ولم تكد توافى سنة 531 حتى أرسله أبوه إلى زبيد فثقف فيها الفقه الشافعى، وقرئ عليه مدة، وله فى الفرائض مصنف مشهور فى اليمن. واتصل بآل نجاح حكام زبيد ووزرائهم، كما اتصل بآل زريع حكام عدن وبعلى بن مهدى الذى خلف آل نجاح على زبيد، وكان الأولون سنّيّين والثانون إسماعيليين والثالث كان خارجيا. حتى إذا كانت سنة 549 توجه إلى حج بيت الله الحرام، وتعرف إلى أمير مكة قاسم بن هاشم بن فليتة الزيدى، وكلفه بحمل رسالة إلى الخليفة الفائز الفاطمى، فقدم القاهرة سنة 550 واستقبله طلائع بن رزّيك وزير الفائز فى قاعة الذهب بقصر الخلافة، وأنشده عمارة ميمية طويلة يقول فى تضاعيفها:
قد رحت من كعبة البطحاء والحرم
…
وفدا إلى كعبة المعروف والكرم
فهل درى البيت أنى بعد فرقته
…
ما سرت من حرم إلا إلى حرم
ولم يكد يفرغ من إنشاد القصيدة حتى أفيضت عليه الخلع، وأغدق عليه طلائع خمسمائة دينار. وصنعت مثله سيدة القصر بنت الخليفة الحافظ. وتهاداه أمراء الدولة وموظفوها الكبار. وقفل راجعا إلى مكة، فإلى زبيد. وعاد إلى الحج سنة 551 فكلفه أمير مكة برسالة ثانية إلى الخليفة بمصر، فقدم إليها واستوطنها حتى آخر حياته. وبالغ طلائع وبنوه فى إكرامه، وله فيهم مدائح كثيرة. وقتل طلائع بعد قدومه الثانى بأربع سنوات سنة 556. وحظى بعده بجوائز الوزيرين شاور وضرغام، وله فى شاور وطلائع مراث بديعة، وكان قريبا من نفس الكامل بن شاور قبل وزارة أبيه، فلما وزر أعرض عنه، فعاتبه عتابا رقيقا. وما زالت العطايا تسبغ عليه، حتى إذا ملك مصر السلطان صلاح الدين مدحه ومدح جماعة من بيته، وخاصة توران شاه الأيوبى، وله ميمية حرّضه فيها على أخذ اليمن أولها:
(1) انظر فى عمارة وترجمته وأشعاره الخريدة (قسم الشام) 3/ 101 وابن خلكان 3/ 431 والروضتين 1/ 2/572 ومفرج الكروب 1/ 212، 238 والسلوك للمقريزى 1/ 1/53 والنجوم الزاهرة 6/ 70 والسلوك فى طبقات العلماء والملوك للجندى وتاريخ ثغر عدن لبامخرمة والشذرات 4/ 234 وتاريخ ابن الأثير 11/ 398 وصبح الأعشى 3/ 526 والانتصار لواسطة عقد الأمصار لابن دقماق ص 94 وكتابه النكت العصرية فى أخبار الوزراء المصرية، وذيل النكت وبه ديوانه.
العلم مذ كان محتاج إلى العلم
…
وشفرة السيف تستغنى عن القلم
ويقول ابن خلكان إنه كان فقيها شافعيا شديد التعصب للسنة، ويبدو أن ذلك إنما يصدق على أوائل حياته حين كان يدرس مذهب الشافعى فى زبيد. أما بعد ذلك فإننا نراه يتصل بآل زريع الإسماعيليين وبأمير مكة الزيدى. ولعل السبب فى أن ابن خلكان أطلق كلامه عليه وعمّمه أنه وجده فى كتابه «النكت العصرية» يتبرأ من التشيع ويذكر أن طلائع بن رزّيك عرض عليه أن يدخل فى العقيدة الإسماعيلية، فأجابه بأن يمنّ عليه بسدّ هذا الباب. ولكن كتاب النكت-فيما يبدو-ألّف فى عصر الأيوبيين، فكان طبيعيا أن يخفى إسماعيليته أو تشيعه، وأن يعلن براءته فى تصانيفه وقصائده من التشيع وآله. ونراه فى قصيدة له كتب بها إلى صلاح الدين وسماها «شكاية المتظلم ونكاية المتألم» يصف كثرة ما كان يصله من عطايا الفائز والعاضد ووزرائهما بمثل قوله:
مذاهبهم فى الجود مذهب سنّة
…
وإن خالفونى فى اعتقاد التشيّع
وهذا وأمثاله كان-فى رأينا-سبب ضلال ابن خلكان فى الحكم عليه، فإن من يرجع إلى ديوانه ومدائحه فى الخليفة الفاطمى العاضد وطلائع وزيره وابنه العادل لا يشك فى أنه اعتنق المذهب الفاطمى الإسماعيلى، من ذلك قوله من قصيدة فى مديح العاضد وطلائع:
لا يبلغ البلغاء وصف مناقب
…
أثنى على إحسانها التنزيل
شيم لكم غرّ أتى بمديحها ال
…
فرقان والتّوراة والإنجيل
سير نسخناها من السّور التى
…
ما شانها نسخ ولا تبديل
وهو يشير إلى ما جاء فى الذكر الحكيم من مثل قوله تعالى: {(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)} ويمد ذلك إلى التوراة والإنجيل وما جاء فيهما من ذكر الرسول على لسان موسى وعيسى، وكأن ذكره يتضمن ذكر ذريته، وقد جاء فى سورة الصفّ على لسان عيسى:{(وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ)} وهذه الفكرة التى تصل بين الرسول والأئمة الفاطميين فى التوراة والإنجيل كان يرددها شعراؤهم من مثل قول السلطان الخطاب فى الخليفة الآمر:
هو الذى كنت التّوراة عنه وفى
…
الإنجيل ما ضمنّت فيه المزامير
ودائما يقرّر عمارة حق العاضد الثابت بالمعقول والمنقول كما يقول فى نفس اللامية السالفة، ونراه يقول فى دالية مدح بها العاضد ووزيره العادل بن طلائع بن رزّيك:
أغنى عن التّقليد نصّ إمامة
…
والنّصّ يبطل عنده التّقليد
لا شئ من حلّ وعقد فى الورى
…
إلا إلى تدبيره مردود
ملك أغاث المسلمين وحاطهم
…
منه وجود فى الزمان وجود
وهو يردّد ما يزعمه الشيعة من أن الإمامة فى الأمة إنما تورث بالنص عن الإمام السابق، فهى ليست مفوضة للأمة، بل هى من حق الأئمة وحدهم يتوارثونها خالفا عن سالف. ويشير عمارة فى البيت الثانى إلى نظرية العقل الفعال التى يمثّلها الإمام والتى تجعله-كما مر بنا عند السلطان الخطاب-يدبّر الكون وشئون الورى وكل ما يتصل بها من حلّ وعقد. أما البيت الثالث فيصور فيه فكرة الفيض الأفلاطونى المعروفة عند الإسماعيليين والتى تجعل الأئمة مائلين فى كل وجود إنسانى. ويقول فى مديح العاضد من قصيدة طويلة:
كم آية رويت لكم أسرارها
…
آل الوصىّ وللورى إعلانها
فكأنما تأويلكم أرواحها
…
وكأنما تفسيركم أبدانها
وكأنّ علم الكائنات وديعة
…
مخزونة وصدوركم خزّانها
وهو هنا يردّد ما يؤمن به الشيعة الإسماعيلية الفاطميون من أن للقرآن الكريم وآياته ظاهرا وباطنا، والباطن لا يعلمه إلا الأئمة، فهم الذين يعلمون أسرار الآيات القرآنية وحدهم دون غيرهم، وهم الذين يعلمون تفسيرها وتأويلها علما حقيقيا. وليس ذلك فحسب، بل هم يعلمون كل علم، وما صدورهم إلا خزانات لهذا العلم: علم الحاضر وعلم الغيب. وكل هذه شواهد بينة على أن عمارة تحول فى مصر فاطميا إسماعيليا. وكان حزنه لا يحدّ ولا يوصف حين دالت دولة الفاطميين، وبثّ هذا الحزن الغاضب غضبا عنيفا فى لامية له مشهورة استهلّها بقوله:
رميت-يا دهر-كفّ المجد بالشّلل
…
وجيده بعد حسن الحلى بالعطل
هدّمت قاعدة المعروف عن عجل
…
سقيت مهلا أما تمشى على مهل
يا عاذلى فى هوى أبناء فاطمة
…
لك الملامة إن قصّرت فى عذلى
وهو فى هذا الاستهلال ملتاع لوعة شديدة على زوال الدولة الفاطمية، وإنه ليسبّ الدهر الذى أطاح بها ويدعو عليه أن يسقى المهل شراب أهل الجحيم. ويدعو عذّاله على حب الأئمة الفاطميين أن يظلوا فى عذلهم ولومهم وكأنه يجد فيه شفاء لغليل نفسه. ويمضى فيدعو رفيقه أن يبكى معه على ساحة القصرين لا على ساحات معارك صفين وواقعة الجمل، وكأن النكبة هنا أكثر أسى وفجيعة، ويقول إن الجرح الذى أصاب فؤاده بزوال الدولة الفاطمية لا يندمل، وما يلبث أن يقول عجبا ينزل كل هذا بالفاطميين لا من الصليبيين ولكن من إخوان لهم فى الدين، ويقول: