المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌187 - قلت: وفي هذا الأمر إشارة إلى أن من أعمال الشيطان الرجيم: الرشوة على منع الحق - حسن التنبه لما ورد في التشبه - جـ ٦

[نجم الدين الغزي]

فهرس الكتاب

- ‌66 - ومن أعمال الشيطان: شرب الخمر، وتناول المسكرات، والقمار، واللعب بالنرد ونحوه مطلقًا، واللعب بالشطرنج إذا اقترن بمحرم، والتكهن، والتنجيم، والتطير، والزجر، والطرق، والعيافة، ونحو ذلك

- ‌ تَنْبِيهانِ:

- ‌67 - ومن أعمال الشياطين لعنهم الله: عمل السحر، وعِلْمُه وتَعَلُّمِهِ وَتعليمِه، وهي منه

- ‌68 - ومنها: النشرة

- ‌69 - ومنها: سائر أنواع الرقى إلا الرقية بذكر الله تعالى وما يعرف معناه مما يسوغ، وكذلك الإشارة بالرقية إلا ما ذكر

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌70 - ومن أعمال الشيطان: تصوير ما فيه روح، والأمر بذلك؛ وهو من الكبائر

- ‌71 - ومن أخلاق الشيطان: إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، والنميمة، وإتيان هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه

- ‌ تَنْبِيهانِ:

- ‌الأَوَّلُ:

- ‌ الثَّانِي:

- ‌72 - ومنها: اعتياد الشر والأذى

- ‌73 - ومنها: التشاتم والتساب

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌74 - ومنها: عدم المبالاة بما قال، وما قيل له

- ‌75 - ومنها: حضور مجالس أهل الجور من القضاة والولاة

- ‌76 - ومنها: حضور مجالس الغضب والخصومات التي لا خير فيها

- ‌77 - ومنها: الدخول على الملوك والسلاطين والأمراء بغير ضرورة، والتأويل في ذلك، والإشارة بذلك

- ‌78 - ومنها: دلالة أعداء المسلمين على عوراتهم، والسعي في أذيتهم؛ وكل ذلك من الكبائر

- ‌79 - ومنها: تثبيت أعداء المسلمين على قتالهم واستثارتهم لذلك

- ‌80 - ومن أعمال الرجيم: تخبيب الولد على أبيه، والعبد على سيده، والمرأة على سيدها، والرجل على زوجته؛ وكل ذلك حرام

- ‌81 - ومن أعمال الرجيم وأخلاقه: مصادقة من أصر على مصارمة أخيه المسلم وهجره بغير حق، ورد التحية على من لم يستحقها

- ‌82 - ومنها: التجسس والاستماع إلى حديث قوم يكرهون سماعه

- ‌83 - ومنها: إيقاع الناس في التهمة وسوء الظن فيمن لا يساء به الظن

- ‌84 - ومنها: إساءة الظن بالله تعالى، وبأوليائه ومن لا يساء به الظن

- ‌85 - ومنها: حمل الإنسان على الأشر والبطر، والفخر والخيلاء، والكبر واتباع الهوى

- ‌86 - ومنها: تمنية الإنسان بما لا يليق به، أو ما يليق به ولا يستطيعه خصوصًا من أمور الدنيا

- ‌87 - ومنها: تحزين المؤمن، وإدخال الهم والغم عليه

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌88 - ومن أعماله قبحه الله: تخويف المؤمن وازعاجه وترويعه؛ وكل ذلك حرام

- ‌89 - ومن أعمال اللعين وأخلاقه: إيذاء المؤمن في بدنه وأهله وولده وماله، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه خصوصًا بالإتلاف والإفساد، وقسوة القلب على خلق الله تعالى، وعدم الرحمة والشفقة

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌ فائِدَةٌ أُخْرَى:

- ‌ تَنْبِيهانِ:

- ‌90 - ومن أخلاق اللعين: الظلم والجور والعسف كما يدل عليه فعله بأيوب عليه السلام

- ‌91 - ومن أخلاق الشيطان لعنه الله تعالى: السعي في أذى المسلم والسعاية به، والمعاونة عليه في باطل

- ‌92 - ومنها: التزوير كما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تزوير الشيطان على سليمان عليه السلام علم السحر

- ‌93 - ومنها: تغليط العلماء، والتزوير عليهم، ونسبة الاعتقاد السيئ إليهم

- ‌94 - ومنها: التزوير على ولاية القضاء والحكم، والحكم بين الناس بالباطل؛ وذلك كله من الكبائر

- ‌95 - ومنها: استحلال الحرام وتحريم الحلال

- ‌96 - ومنها: أكل الحرام

- ‌97 - ومنها: غضب أثواب الناس وأمتعتهم؛ وهو من الكبائر

- ‌98 - ومنها: السرقة؛ وهي كبيرة

- ‌99 - ومنها: الاعتذار بكثرة العيال وغلبة الدَّين عن الدخول في الحرام والشبهات

- ‌100 - ومن أخلاق الشيطان قبحه الله: منع فضل الماء عن ابن السبيل؛ وهو كبيرة أيضاً

- ‌101 - ومنها: قطع الطريق، وإضلال المسافرين في طاعة الله تعالى

- ‌102 - ومنها: السفر وحده أو مع ثان

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌103 - ومنها: تلبية الجاهلية؛ وهي كفر صراح

- ‌104 - ومنها: استيطان الشيطان الأمكن المستقذرة كالكُنَف، والحمامات، والمزابل، والحانات - بالمهملة - وفي معناها بيوت القهوة المتخذة من البن - وإن كانت القهوة في نفسها مباحة - فإن بيوتها مأوى الشياطين

- ‌105 - ومنها: إطالة المكث في الحمام لغير ضرورة، بل لمجرد التلهي والبطالة، وهو مضر من جهة الطب

- ‌106 - ومنها: القعود في الأسواق لغير غرض صحيح

- ‌ تنبِيهانِ:

- ‌الأَوَّلُ:

- ‌ الثَّانِي:

- ‌107 - ومن أخلاق الشيطان وأعمالة: التبكير إلى الأسواق، والتأخر في الانصراف منها

- ‌ تنبِيهٌ:

- ‌108 - ومن أخلاق الشيطان: ترك القيلولة؛ وهي النوم وسط النهار، وهي مستحبة لقيام الليل

- ‌109 - ومنها: الانتشار من غروب الشمس إلى أن تذهب فحمة العشا - أي: ظلمتها - من غير ضرورة

- ‌110 - ومنها: السهر في غير فائدة

- ‌111 - ومنها: تسهير أهل المعصية والغفلة، وكراهية نومهم

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌112 - ومنها: تنويم أهل الطاعة عن الطاعة

- ‌ فائِدَةٌ لَها مُناسَبةٌ تامَّة بِهَذا الْمَحَلِّ:

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌113 - ومن أعمال الشيطان وأخلاقه: افتتاح المجالس والأمور وختمهَا بالشر، ومحبة ذلك من غيره

- ‌114 - ومن أخلاقه لعنه الله: بغض العلماء والصالحين

- ‌115 - ومن أخلاقه لعنه الله تعالى: تطويل أمل العالم حتى يدع العمل معتذراً عنه بطلب العلم، وهذا من جملة أغلاط العلماء

- ‌116 - ومنها: الفرح بموت العلماء العاملين، والفقهاء الزاهدين، والصلحاء العابدين، ولكن فرحه بموت العلماء والفقهاء أشد، وهذا مِنْ لازم بغضهم

- ‌117 - ومنها: إطالة الأمل للعاصي حتى يسوف بالتوبة والطاعة، وللغني حتى يسوف بالحج، والصدقة، والإنفاق في وجوه الخير

- ‌118 - ومنها: تنديم العبد على ما فات

- ‌119 - ومنها: تعيير المؤمن بذنبه، أو شيء أصيب به في الدنيا من فقر أو مرض أو غيرهما

- ‌120 - ومنها: إظهار الشماتة بالمؤمن

- ‌121 - ومنهَا: الوقاحة، وقلة الأدب، وعدم الحياء من الله تعالى، ومن خلقه

- ‌122 - ومنها: الاستهزاء بالناس والسخرية بهم، ولا سيما أهل العلم والولاية؛ وهو من أشد الحرام

- ‌123 - ومنها: الوسوسة، وهي أشد أعمال الشيطان

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌124 - ومن أخلاق الشيطان وأعمَاله: الشعوثة بغير نية صالحة ولا قصد جميل

- ‌125 - ومنها: ترك السواك وكراهيته من غيره

- ‌126 - ومن أخلاق اللعين: كراهية الرخصة والمنع منها؛ وهو خلاف ما يحبه الله تعالى من العبد

- ‌127 - ومنها: تثبيط الناس عن التبكير إلى الجمعة

- ‌128 - ومنها: كراهية شهر الصوم، وترك الصيام فيه لغير عذرة وكلاهما حرام

- ‌129 - ومن أخلاق الشيطان اللعين: محبة سماع ما كان من هذا القبيل من الأشعار

- ‌130 - ومنهَا: كثرة الكلام، والتشدق به، والتعمق فيه، والبيان كل البيان

- ‌131 - ومنها: الصمت عن ذكر الله تعالى في محله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ضرر يلحقه

- ‌132 - ومنها: الغناء، والنَّوح والصياح، وحضور تلك المجالس، واستماع ذلك والأمر به

- ‌133 - ومنها: الزفن لهواً ولعباً، وهو الرقص

- ‌134 - ومنها: اتخاذ آلات اللهو وسماعها

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌135 - ومن أخلاق الشيطان: كراهية الديك والتحرُّج عن سماع صوته، ولاسيما الأبيض

- ‌136 - ومن أخلاق الشيطان: الاستماع إلى نهيق الحمار ونباح الكلب، وحمل الحمير على النهيق كما يفعل بعضر الجهلة من التصويت بصوت إذا سمعه الحمار نهق

- ‌137 - ومنها: إشلاء الكلاب ونحوها على الناس

- ‌138 - ومنهَا: اللعب بالحَمَام الطيارة

- ‌139 - ومنها: لباس الحُمرة والملونات

- ‌140 - ومنها: تشبيك الأصابع في أمكنةٍ وأوقاتٍ تُطلب فيها الطاعة وحضور القلب عبثاً وتلهياً عن ذكر الله تعالى

- ‌141 - ومنها: رفع البصر إلى السماء في محل يطلب قيه الخضوع والاتِّضاع

- ‌142 - ومنها: الاختصار؛ بمعنى وضع اليد على الخاصرة

- ‌143 - ومنها: التبختر في المشية، والمبالغة في الإسراع بها

- ‌144 - ومنها: العسف بالدابة، وعدم الرفق بها والمبادرة إلى راحتها في المنازل

- ‌145 - ومنها: المشي في نعل واحدة

- ‌146 - ومنها: اشتمال الصَّمَّاء

- ‌147 - ومنها: الاقعاء

- ‌148 - ومنها: القعود بين الظل والشمس

- ‌149 - ومنها: الانبطاح على الوجه

- ‌150 - ومنها: ضحك القهقهة، واستدعاؤها من غيره

- ‌151 - ومنها: استحباب رفع الصَّوت بالجُشاء والعطاس، وفتح الفم بالتثاؤب

- ‌ تنبِيهٌ:

- ‌ فائِدةٌ:

- ‌152 - ومنها: تلهية العاطس عن الحمد، واستحباب تركه

- ‌153 - ومنها: الضحك من ابن آدم إذا صدر منه ما هو من ضروريات البشرية من نعاس، أو عطاس، أو تثاؤب، أو ضراط، أو غير ذلك

- ‌154 - ومنها: وضع الثوب على الأنف

- ‌155 - ومنها: تسمية العشاء عتمة

- ‌156 - ومنها: أكل الميتة في غير حالة الاضطرار؛ وهو من أشد الحرام

- ‌157 - ومنها: ترك التسمية على الطعام والشراب، وعند الدخول إلى الأماكن، وعند الخروج منها، وفي سائر الأمور المهمة، وأكل

- ‌158 - ومنها: تناول المآكل الخبيثة، والميل إليها

- ‌159 - ومنها: الأكل بالشمال والشرب بالشمال، والأخذ والأعطاء بها

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌ تنبِيْهٌ آخَرُ:

- ‌160 - ومنها: الأكل مع من يأكل بشماله والشرب مع من يشرب بشماله، وعدم إنكار ذلك عليه

- ‌161 - ومنها: الأكل بأصبع واحدة أو بأصبعين، والسنة الأكل بالثلاث

- ‌ فائِدَةٌ:

- ‌162 - ومنها: الأكل من جوانب القصعة، والامتناع من الأكل مما يليه

- ‌163 - ومنها: الأنفة عن مؤاكلة اليتيم

- ‌164 - ومنها: الأكل في الظلمة ما لم يضطر إليه

- ‌165 - ومنها: الأكل والشرب من الإناء الذي يبيت مكشوفاً

- ‌166 - ومنها: عَبُّ الماء في نَفَس واحد

- ‌167 - ومنها: الشرب من ثُلمة القدح ومن ناحية أذنه

- ‌168 - ومنها: الشرب قائماً

- ‌169 - ومنها: إتيان البهائم؛ وهو من أخبث الحرام

- ‌170 - ومنها: استحباب كشف العورة

- ‌171 - ومنها: استحباب أن يكون الإنسان ضُحَكَةً للناس يسخرون به؛ لأثر ابن عباس المذكور

- ‌172 - ومنها: الجماع بحضور أحد من الناس، وإفشاء أحد الزوجين سر الآخر

- ‌173 - ومنها: النظر إلى ما لا يحل له من امرأة أجنبية، أو غلام أمرد جميل، والفتنة به أشد من الفتنة بالمرأة، كما علمتَ

- ‌174 - ومنها: حمل الإنسان على النظر الحرام

- ‌175 - ومنها: كراهته لطول عمر ابن آدم لئلا يزداد خيراً دون من لا يزداد إلا شراً؛ فإنه يحب طول عمره محبة لمعصية الله تعالى، وحزنه إذا بلغ ابن آدم زمان الربيع وزمان بلوغ الثمار وجَدادها حسداً وبغياً

- ‌176 - ومنها: كراهية حصول الشهادة لابن آدم

- ‌177 - ومنها: الإشارة بالتداوي بالخمر والمحرمات

- ‌178 - ومنها: الإشارة بترك تغسيل الميت غير الشهيد في المعركة

- ‌179 - ومنها: الرغبة في سكنى بلاد الأشرار، ومحال الفتن، والفرار من مساكن الأخيار، ومحالِّ إقامة السنن وظهور شعائر الإسلام، وحفظ حرمات الملك العلَاّم

- ‌180 - ومن أخلاق الشيطان: الجبن والوهن

- ‌181 - ومنها: الغباوة، وطلب ما لا يمكن حصوله، والإلقاء باليد إلى التهلكة من غير فائدة معتبرة

- ‌182 - ومنها: أن يُسترضى فلا يرضى لما علمت سابقاً أنه رأس اللؤماء والخبثاء

- ‌183 - ومنها: أن يستغضب فلا يغضب لا كرماً ولا حلماً، ولكن وقاحة أو بَلادة

- ‌184 - ومنها: اعتقاد أن له حولاً وقوة

- ‌185 - ومنها: الإصرار على المعصية، كما تقدمت الإشارة إليه أول الباب

- ‌186 - ومنها: القعود على طريق المخلصين ليمنعهم من الإخلاص

- ‌187 - قلت: وفي هذا الأمر إشارة إلى أن من أعمال الشيطان الرجيم: الرشوة على منع الحق

- ‌خَاتِمَةتشتمل على فوائِد

- ‌النَّوْعُ الثَّاني مِنَ القِسمِ الثَّاني مِنَ الكتَابِ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُهِ بِالكُفَارِ

- ‌(1) بَابُ النَّهي عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَابْيلَ القَاتلِ لِأَخْيِهِ هَابِيْلَ

- ‌1 - فمنهَا: أن قابيل سَخِطَ قسمة الله تعالى، ولم يرض بما قُسم له

- ‌2 - ومنها: عقوق الوالدين وإسخاطهما، وهو من الكبائر

- ‌3 - ومنها: مخالفة النبي، ومخالفة الوالد، ومخالفة الأستاذ

- ‌4 - ومنها: إساءة الظن بالوالد، وبالأستاذ، وبالعبد الصالح

- ‌5 - ومنها: النظر إلى كلام الناس، والخوف من تعييرهم

- ‌6 - ومنها: دعوى ما ليس له، والدعوى الباطلة

- ‌7 - ومنها: تزكية النفس، وتعظيمها، والنظر إلى فضلها

- ‌8 - ومنها: قطيعة الرحم، وهي من الكبائر

- ‌9 - ومنهَا: التصدق بأردأ الأموال وشرها، وهو مكروه

- ‌10 - ومنها: لوم غيره، والانتقام منه على ما ابتلي به بسبب ذنب نفسه، أو تمحض القضاء والقدر

- ‌11 - ومنها: التشبه بالشيطان

- ‌12 - ومنها: إشمات العدو في القريب والصديق

- ‌13 - ومنها: الحسد، والحقد، والبغضاء لغير سبب ديني

- ‌14 - ومنها: العمل بمقتضى الهوى والشهوة، والافتتان بالمرأة التي لا تحل له، خصوصاً المحرم

- ‌15 - ومنها: إخافة أخيه وترويعه

- ‌16 - ومنها: قتل النفس التي حرم الله بغير حق

- ‌ تَنْبِيهانِ:

- ‌التَّنْبِيْهُ الثَّانِي:

- ‌17 - ومن أعمال قابيل وأخلاقه: انتهاك حرمة المسلم بعد موته، وعدم الاهتمام بمواراته وسائر ما يحتاج إليه من تجهيزه، وذلك كله من فروض الكفاية، إذا تركه كلُّ من تعين عليهم أثموا

- ‌18 - ومنها: إزهاق روح الحيوان بغير ذكاة شرعية إلا ما جاز قتله، وأكل الموقوذة وسائر أنواع الميتة، وكل ذلك من العظائم إلا في حالة الاضطرار

- ‌19 - ومنها: تنفير الوحش في محل أمْنِه؛ لأن الأرض كانت أمناً للوحش، فلما فعل قابيل ما فعل فرَّت منه، واستوحشت

- ‌20 - ومنهَا: الإكباب على آلات اللهو، وشرب الخمر، والزنا، وارتكاب الفواحش

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌فَصْلٌ

- ‌1 - منها: تقريب القربان لله تعالى

- ‌2 - ومنها: تقريب أجود ما عنده أو من أجود ما عنده

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌3 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: التحدث بالنعمة، والتمدح بها

- ‌4 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: التقوى، والوصيَّة بها

- ‌5 - ومن أخلاق هابيل عليه السلام: الحلم، واحتمال الأذى، والصبر على المكروه، وترك الانتقام، وعدم مقابلة السيئة بالسيئة

- ‌6 - ومنها: الرجوع إلى الله تعالى في كل أحواله

- ‌7 - ومنها: الخوف لقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [

- ‌8 - ومنها: كلف الأذى عن أخيه مع احتمال الأذى منه

- ‌9 - ومنها: الاستسلام لقضاء الله تعالى

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌ تنبِيْهٌ آخَرُ:

- ‌(2) بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِقَومِ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام

- ‌1 - فمنها: الكفر

- ‌2 - ومنها -وهو نوع مما قبله-: عبادة الأصنام، والتحريض عليها

- ‌3 - ومنها: الزندقة، والانحلال عن الدين، وعدم التقيد بشريعة

- ‌4 - ومنها: التكذيب باليوم الآخر، وإنكار البعث والنشور

- ‌5 - ومنها: عدم المبالاة بالله بحيث لا يرجى ولا يخاف، ولا يشكر له نعمة، ولا يستحيى، ولا يؤمن مكره

- ‌6 - ومنها: الزنا

- ‌7 - ومنها: تبرج النساء بالزينة

- ‌8 - ومنها: اتباع المترفين، وإيثار محبتهم ومخالطتهم

- ‌9 - ومنها: المكر، وهو كبيرة

- ‌10 - ومنها: إضلال الناس، وإغواؤهم، ومنعهم عن الإيمان بالله تعالى، وعن طاعته، والدعوة إلى معصيته، واتباع الأئمة المضلين

- ‌11 - ومنها: الإعراض عن سماع الموعظة

- ‌12 - ومنها: بغض النصحاء

- ‌13 - ومنها: الإصرار على المعصية، وترك التوبة والاستغفار

- ‌14 - ومنها: الاستكبار

- ‌15 - ومنها: مقابلة الإحسان بالإساءة

- ‌16 - ومنها: الوقاحة، والتجري على الأكابر، وعدم توقيرهم، وتجرئة الصغار عليهم، وحمل الأطفال على قبائح الأعمال

- ‌17 - ومنها: استبعاد اختصاص الله تعالى بعض عباده بفضيلة العلم والحكمة، أو نحو ذلك

- ‌18 - ومنها: النظر إلى ظاهر الهيئة، واعتبار أن خسة الحرفة أو رثاثة الهيئة مانع من الاختصاص بالفضيلة

- ‌19 - ومنها: إنكار فضل ذوي الفضل

- ‌20 - ومنها: الاستنكاف عن مجالسة الفقراء، وأداني الناس من حيث الحرفةُ وظاهرُ الهيئة لا في الدين، وإزعاجهم من المجالس

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌(3) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِكَنْعَانَ بْنِ نُوحٍ

- ‌1 - فمنها: النفاق

- ‌2 - ومنها: مخالفة الوالد في الدين والاعتقاد الحق

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌3 - ومنها: عدم المحافظة على ود الوالد والأستاذ

- ‌4 - ومنها: الاستعداد بالرأي، والإعجاب به، وإيثار رأي النفس على الرأي الصواب، وعلى رأي الوالد والأستاذ والمرشد

- ‌5 - ومنها: إيثار تدبير نفسه على تدبير الله تعالى

- ‌6 - ومنها: الالتجاء إلى غير الله تعالى في الشدة

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌(4) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِعَادٍ

- ‌1 - فمنها: الكفر، وعبادة الأوثان، وتقليد الآباء في ذلك

- ‌2 - ومنها: الابتداع في الدين أعم من أن يكون كفراً أو دونه

- ‌3 - ومنها: الكذب، والتكذيب لأهل الصدق

- ‌4 - ومنها: العناد، والتصميم على الباطل بعد ظهور الحق

- ‌5 - ومنها: الأصرار على المعصية، وترك التوبة والاستغفار

- ‌6 - ومن أعمال عاد، وأخلاقهم: عصيان أولياء الأمور في طاعة الله تعالى، وبغض العلماء وأولياء الله تعالى، والرغبة عنهم، والاستنكاف عن مجالستهم ومعاشرتهم، والرغبة في عشرة الأشرار والمترفين، واتباعهم والانهماك معهم فيما هم فيه

- ‌7 - ومنها: أذية أنبياء الله وأوليائه، وانتقاصهم، ورميهم بالسُّوء

- ‌ فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ:

- ‌8 - ومنها: الإعجاب بالشباب والقوة، والفخر والخيلاء، والتطاول على الناس

- ‌9 - ومنها: ظلم الناس، والبغي عليهم، وتمكيس أموالهم

- ‌10 - ومن أخلاق عَاد: تسفيه ذوي الأحلام والعقول، وتجهيل أهل العلم، وتخطئة أهل الصواب

- ‌11 - ومن أخلاقهم وأعمالهم: البطر، والإكباب على اللهو واللعب، وشرب الخمر، واستماع الغناء، واتخاذ القِيان

- ‌12 - ومن أعمال عاد، وأخلاقهم: الكيد

- ‌ تَنْبِيْهٌ:

- ‌13 - ومن أخلاق عاد: الغفلة عن الموت والعقوبة، واستبعاد موعود الله تعالى

- ‌14 - ومن أخلاق عاد: انتظار المحبوب والثواب اعتماداً على حسن الظن بالنفس، ونسيان العقوبة على سوء العمل

- ‌15 - ومن أخلاق عاد: مكابرتهم، وتصميمهم على ما كانوا عليه من المعاصي مع مشاهدة الآيات، وملاحظة العقوبة، وعدم اتعاظهم بها

- ‌ تَتِمَّةٌ:

- ‌(5) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِثَمُوْدَ

- ‌1 - فمنها: الكفر، والتكذيب، وعبادة الأوثان، والزنا

- ‌2 - ومنها: محاجة أهل الحق في أصول الديانات ميلاً مع الهوى

- ‌3 - ومنها: الأخذ بالرأي في مصادمة النص

- ‌4 - ومنها: بغض الناصحين، والأنفة من قول النصيحة

- ‌5 - ومنها: طاعة المترفين والمفسدين، وموافقتهم على ما هم عليه

- ‌6 - ومن أخلاق ثمود: التطير بأهل الخير واليُمن، أو مطلق الطيرة والتشاؤم

- ‌7 - ومنها: طاعة النساء

- ‌8 - ومنها: الوقوع في المعصية والإثم والبلاء رغبة في ذوات الجمال

- ‌9 - ومنها: القيادة، ودعوة المرأة الرجل إلى نفسها أو إلى غيرها

- ‌10 - ومنها: الاغترار بالدنيا، والتأنق في جمعها وبنيانها، وإتقان البنيان وإحكامه أملاً وأشراً

- ‌11 - ومن قبائح ثمود: سوء الأعمال مع طول الأعمار

- ‌12 - ومنها: الأشر والبطر، والفرح بالدنيا، والبخل بها، والتأنق في تحصيلها وتحصينها، والشره، والإعجاب بالنفس، وبما لهَا أو

- ‌ تنبِيْهٌ:

- ‌13 - ومن أعمال ثمود، وأخلاقهم: تعيير أهل الدين بحرفتهم ونحوها مما تعده النفوس الطاغية نقصاناً

- ‌14 - ومنها: اكتساب الإثم، ورمي البريء به

- ‌15 - ومنها: الاستكثار من الشر

- ‌16 - ومنها: الطغيان

- ‌17 - ومنها: نقض عهد الله وميثاقه

- ‌18 - ومنها: تضييع الأمانة، والتعدي عليها

- ‌19 - ومنها: إقرار أهل المعاصي على معصيتهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌20 - ومنها: ذبح الحيوان الموقوف

- ‌21 - ومنها: الاعتداء في الصدقة

- ‌ فائِدَةٌ:

الفصل: ‌187 - قلت: وفي هذا الأمر إشارة إلى أن من أعمال الشيطان الرجيم: الرشوة على منع الحق

قال: فتفكر العابد فيما قال له، فقال: صدق الشيخ، لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة، ولا أمرني الله تعالى أن أقطعها فأكون قد عصيت بتركها، وماذا يضر الموحِّدين من عبادتها، وهذا الذي ذكره أكثر منفعة.

قال: فعاهده على الوفاء بذلك، فحلف له، ورجع العابد إلى متعبده فبات، فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه، وكذلك رأى في الغد، ثم أصبح في اليوم الثالث وما بعده ولم ير عند رأسه، فغضب، فأخذ الفأس على عاتقه وقصد الشجرة، فاستقبله إبليس في صورة الشيخ، فقال له: إلى أين؟

قال: أقطع تلك الشجرة.

قال: ما أنت بقادر على ذلك.

فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة، فقال إبليس: هيهات! فأخذه وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه، وقعد إبليس على صدره، وقال: لتنتهين عن قطع هذه الشجرة أو لأذبحنك، فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، فقال: يا هذا! غلبتني فخلِّ عني، وأخبرني بأمرك.

قال: إنك غلبتني أول مرة لأنك غضبت لله فلم أقدر عليك، وهذه المرة غضبت لنفسك فصرعتك (1).

‌187 - قلت: وفي هذا الأمر إشارة إلى أن من أعمال الشيطان الرجيم: الرشوة على منع الحق

، وهي تُعْوِرُ عينَ الحكيم، وتطمس

(1) انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 272).

ص: 214

قلب العليم، وهي من أشد ما يحيل القلوب ويحولها عن الحق، وقد فشا الرشا الآن في الناس فأعمتهم عن الحق، وقرت لهم عين الشيطان؛ لا أقر الله عينه ولا أعين الراشين والمرتشين.

وليكن هذا آخر ما نذكره من أخلاق الشيطان.

واعلم أن مقصود الشيطان من كل أحد أن يكون شيطاناً مثله ليكون معه في النار كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

فأول ما يهون عليه صغائر الذنوب ومحقرها عنده، ويصغر عقابها في رأيه حتى يرتكبها، ثم يوسوس إليه بالتأويلات في ارتكابها مرة بعد أخرى حتى يُصِرَّ، ثم يستدرجه إلى ارتكاب الكبائر حتى ينزع عنه ثوب الحياء، ثم يلقي القسوة في قلبه حتى يكون صَلداً جُلموداً، ثم شيطاناً مَريداً.

كما روى الإمام الحافظ أبو القاسم زاهر بن طاهر في "خماسياته"، وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يَنْزِعُ اللهُ تَعالَى مِنَ الْعَبْدِ الْحَيَاءُ، فَيَصِيْرُ مَقَّاتاً مُمقتًا، ثُمَّ يَنْزِعُ مِنْهُ الأَمَانة فَيَصِيْرُ خَائِنًا مخوناً، ثُمَّ يَنْزِعُ مِنْهُ الرَّحْمَةَ فَيَصِيْرُ فَظًّا غَلِيْظًا، وَيخْلَعُ دِيْنَ الإِسْلامِ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ فَيَصِيْرُ شَيْطَاناً مَرِيْدًا، لَعِيْنا مَلْعُوْنًا مُلَعَّناً"(1).

(1) ورواه ابن عدي في "الكامل"(3/ 75)، وابن عبد البر في "الاستذكار" (8/ 285) وقال: هذا إسناد ضعيف، وخراش هذا مجهول، والحديث بهذا اللفظ لا يعرف إلا من هذا الوجه، والقطعة التي بهذا الإسناد كلها لا يشتغل أهل العلم بها، منكرة عندهم موضوعة.

ص: 215

واعلم أن الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن من أمارات الساعة أن ينزع من الناس الخشوع والحياء والأمانة، وأخبر في هذا الحديث أن انتزاع هذه الأخلاق الكريمة من المرء تزيد الشيطنة والتمرد، فإذا نزعت هذه الأمور من الناس فإن أمرهم يؤول إلى أن يكونوا شياطين لتقوم عليهم الساعة؛ فمن الشياطين هم شرار الخلق، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق.

وقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيَجِيْءُ أَقْوَامٌ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ وُجُوْهُهُمْ وُجُوْهُ الآدَمِيِّيْنَ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الشيَاطِيْنِ، لا يَنْزِعُوْنَ عَنْ قَبِيْحِ؛ إِنْ تَابَعْتَهُمْ وارَبوْكَ، وإِنْ تَوَاريتَ عَنْهُمُ اغْتابُوْكَ، وإنْ حَدَّثُوْكَ كَذبُوْكَ، وإِنِ ائتمَنْتَهُمْ خَانُوْكَ، صَبِئهُمْ عَارِمٌ، وَشَابُّهُمْ شَاطِرٌ، وَشَيْخُهُمْ لا يَأْمُرُ بِمَعْرُوْفٍ وَلا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، الاعْتِزَازُ بِهِمْ ذُلٌّ، وَطَلَبُ مَا فِيْ أَيْدِيْهِمْ فَقْرٌ، الْحَكِيْمُ فِيْهِمْ حَيْرَانُ، وَالآمِرُ فِيْهِمْ بِالْمَعْرُوْفِ مُتَّهَم، وَالْمُؤْمِنُ فِيْهِمْ مُسْتَضْعَفٌ، وَالْفَاسِقُ فِيْهِمْ مُشَرَّفٌ، السُّنَّةُ فِيْهِمْ بِدْعَة، وَالْبِدْعَةُ فيْهِمْ سُنَّة، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَلِّطُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، وَيَدْعُو خِيَارُهُم فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ"(1).

وقوله: "إِنْ تابَعْتَهُمْ واربوكَ" - بالراء، والموحدة -: من المواربة، وهي المداهاة والمحاتلة والتوريب.

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(11169). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 326): وفيه محمد بن معاوية النيسابوري، وهو متروك.

ص: 216

وقد يراد بالمواربة معناه: أن توري عن الشيء بالمعارضات المباحات.

والعارم: من عرم الصبي علينا: أشر، أو: مرح، أو: بطر، أو: فسد.

والشاطر: الذي أعيى أهله خبثاً، وقد شَطرَ - كنَصَر وكَرُمَ - شطارةً فيهما.

وأخرج الأصبهاني هذا الحديث في "الترغيب"، ولفظه:"يَكُوْنُ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَكْثَرُ وُجُوْهِهِمْ وُجُوْهُ الآدَمِيِّينَ، وَقُلُوْبُهُمْ قُلُوْبُ الشَّيَاطِيْنِ، أَمْثَالُ الذِّئَابِ الضَّوَارِي، لَيْسَ فِي قُلُوْبِهِم شَيْءٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، سَفَّاكِيْنَ لِلدِّمَاءِ، لا يَرْعَوُنَّ عَنْ قَبِيْحٍ، إِنْ تَابَعْتَهُمْ وارَبُوْكَ، وإِنْ تَوَاريتَ عَنْهُمُ اغْتَابُوْكَ، وإِنْ حَدَّثُوْكَ كَذَبُوْكَ، وإِنِ ائتمَنْتَهُمْ خَانُوْكَ، صَبِيُّهُمْ عَارِمٌ، وَشَابُّهُمْ شَاطِرٌ، وَشَيْخُهُمْ لا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوْفِ وَلا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، الاعْتِزَازُ بِهِمْ ذُلٌّ، وَطَلَبُ مَا فِيْ أَيْدِيْهِمْ فَقْرٌ، الْحَكِيْمُ فِيْهِمْ غَاوٍ، وَالآمِرُ فِيْهِمْ بِالْمَعْرُوْفِ مُتَّهَمٌ، وَالْمُؤْمِنُ فِيْهِمْ مُسْتَضْعَفٌ، وَالسُّنَّةُ فِيْهِمْ بِدْعَةٌ، وَالْبِدْعَةُ فِيْهِمْ سُنَّة، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، فَيَدْعُو خِيَارُهُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ".

وأخرجه الخطيب بنحوه من حديث ابن عباس، وقال:"وذُو الأَمْرِ فِيْهِمْ غَاوٍ" موضعَ قوله: "الْحَكِيْمُ فِيْهِمْ غَاوٍ"(1).

والغاوي: الضال، أو الشيطان؛ ففي "القاموس":{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]؛ أي: الشياطين (2).

(1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(2/ 399). وفي إسناده أيضاً محمد بن معاوية النيسابوري.

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1701)(مادة: غوى).

ص: 217

وهذا التفسير أخرجه المفسرون عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ومجاهد (1).

وروى ابن سعد في "طبقاته" عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَتَكُونُ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي صُوْرَةِ إِنسان".

قال حذيفة: كيف أصنع إن أدركني ذلك؟

قال: "اسْمَعْ لِلأَمِيْرِ الأَعْظَمِ وإنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ"(2).

وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تُشَارِكُهُمُ الشَّيَاطِيْنُ فِيْ أَوْلادِهِمْ".

قيل: وكائنٌ ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: "نعمْ".

قالوا: وكيف نعرف أولادنا من أولادهم؟

قال: "بِقِلَّةِ الْحَيَاءِ وَقِلَّةِ الرَّحْمَةِ"(3).

(1) رواه الطبري في "التفسير"(19/ 127) عن قتادة ومجاهد، وابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2831) عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة بمعناه.

(2)

رواه مسلم (1847) بلفظ قريب.

(3)

ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(8675).

ص: 218

فَصْلٌ

واعلم أنه لا سبيل للشيطان عليك إلا من قبل نفسك وهواك، فمهما لم تَتْبع هوى نفسك أنقذك الله من الشيطان.

ومن ثم قال مالك بن دينار: مَنْ غَلَب شهوات نفسه فذلك يَفْرَقُ الشيطان من ظله؛ كما رواه ابن الجوزي في كتاب "ذم الهوى"(1).

ومهما اتبعت هواك أخذك الشيطان بنفسك ودخل عليك بك.

قال الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

ولا شك أنَّ من ضلَّ عن سبيل الله وقع في أحد طرق الشيطان، كما بيَّناه لك فيما تقدم.

وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].

ومن ثم قال بعض العارفين: شيطانك نفسك؛ فإذا أفنيتها فلا

(1) رواه ابن الجوزي في "ذم الهوى"(ص: 22)، وكذا أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 365)، وعندهما:"شهوات الدنيا" بدل "شهوات نفسه".

ص: 219

شيطان لك، أو لا مدخل للشيطان عليك إلا بها.

وصدقَ؛ فإن الشيطان لو كان له مدخل على الإنسان من غير جهة نفسه لم يضره دخوله؛ لأن العبد لا يؤاخذ بذنب غيره {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، ولذلك قال الله تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، ولم يقل: منك وممن أغويت؛ إشارة إلى أنَّ استحقاقهم للعذاب إنما هو سبب اتباعهم للشيطان واقترافهم للعصيان، لا بسبب الإغواء، بدليل أنه لو تجرد الإغواء عن التبعية منهم فإنه لا يضرهم، ولذلك يقول لهم يوم القيامة:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22].

روى ابن المبارك في "الزهد والرقائق"، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم بسند ضعيف، عن عقبة بن عامر - رضي الله تعالى عنه - في حديث الشفاعة: أن الكفار يقولون يوم القيامة: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟

فيقولون: ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا، فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا؛ فإنك قد أضللتنا.

فيقوم، فيثور من مجلسه أنتن من ريحٍ شمَّها أحدٌ، ويقول عند ذلك:{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ}

ص: 220

الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]. (1).

وروى ابن المبارك في "رقائقه" عن يزيد بن قسيط رحمه الله تعالى قال: كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجة من قراهم، فإذا أراد أحدهم شيئاً خرج فصلى في مسجده ما كتب الله له، ثم يسأل ما بدا له، فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله حتى جلس بينه وبين القبلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فكان ذلك ثلاث مرات.

فقال له عدو الله: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟

فقال له النبي عليه السلام: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟

فأخذ كل منهما على صاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].

قال عدو الله: لقد سمعت هذا قبل أن تولد.

قال النبي: يقول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]؛ فإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك.

قال عدو الله: صدقت بهذا تنجو مني.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟

(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(2/ 111)، والطبري في "التفسير"(13/ 201)، والطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 320). وضعف السيوطي إسناده في "الدر المنثور"(5/ 18).

ص: 221

قال: آخذه عند الغضب، وعند الهوى (1).

واعلم أن الإنسان مهما كان عقله حاكمًا على مدينة إنسانيته، مَلَكَ نفسه عند الغضب والهوى فنجا من الشيطان، وإلا فإن استرسل به غضبه وتابع هواه تابع شيطانه - شاء ذلك أم كره - فمخالفة الشيطان لا تتم إلا بمخالفة النفس، ومهما خالفت النفس فقد خالفت الشيطان، ولذلك قدم البوصيري الأمر بمخالفة النفس على الأمر بمخالفة الشيطان في قوله:[من البسيط]

وَخالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطانَ وَاعْصِهِما

وإِنْ هُما مَحَّضاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ

وَلا تُطِعْ مِنْهُما خَصْمًا وَلا حَكَماً

فَأَنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الْخَصْمِ وَالْحَكَمِ

وأنشد حجة الإسلام الغزالي في "منهاج العابدين": [من البسيط]

إِيَّاكَ نَفْسَكَ لا تَأْمَنْ غَوائِلَها

فَالنَّفْسُ أَخْبَثُ مِنْ سَبْعِيْنَ شَيْطانا

واعلم أنَّ النفس لا تكون نفسًا مذمومة إلا باتباع الهوى، فبه تكون أمَّارة بالسوء، ومسؤولة، ومطوعة.

وإنما أطلق جماعةٌ من العلماء والعارفون من الصوفية في مقام

(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 517).

ص: 222

الذم والتحذير منها على الموصوفة بذلك، وما زال الصالحون على اتهام نفوسهم لهذه الأوصاف، وإنما كان الغالب عليهم الخير؛ لئلا يستحسنوا من أوصافها شيئاً فتميل إليه فتعبد نفسها من دون الله تعالى.

وقد تكلمنا على النفس والتحذير منها في "منبر التوحيد" ما ليس عليه مزيد.

وقد أحببت أن أورد في هذا المقام قصيدة حافلة رأيتها بخط بعض العلماء منسوبة إلى الإمام الغزالي حجة الإسلام رضي الله تعالى عنه، وهي غريبة في هذا الباب هي:[من المنسرح]

مَا بَال نَفسِي تُطيلُ شَكواها

إِلَى الورى وَهِي ترتجي الله

تعُدُّ إصلاحها شِكايتَها

ذَاك الَّذِي رَابَها وَأَرداها

لَو أَنَّهَا من مليكها اقْتَرَبت

وَأَخْلَصتْ وِدَّها لأدْناها

لَكِنَّهَا آثرت بريَّتَه

عَلَيْهِ جهلًا بِهِ فَأَقصاها

أَفقَرَها لِلوَرَى وَلَو لَجَأَت

إلَيهِ مِن دُونهم لأَغناها

لَو فَوَّضت أمرهَا لِخَالقها

وَصحَّحت صِدقهَا وتُكلاها

عوضهَا من همُومها فَرَجًا

وَلم يَدعهَا لِطُول غَيَّاها

تُسخِّطُه فِي رضَى بَرِيَّتِهِ

تَبًّا لَهَا مَا أجل بلواها

لَو أَنَّهَا للعباد مُسخِطةٌ

مُرضيةٌ لِرَبِّهَا لأَرضاها

ص: 223

لدي نفس أحب أنعتها

لتعلموا نعتها وأسماها

فاسمع صفاتي لَهَا لَعَلَّك أَن

تفهم ذَا اللب سر مَعْنَاهَا

تسْعَى إِلَى اللَّهْو وَهُوَ غايتها

يَا وَيْلَهَا مَا أضلَّ مسعاها

أَزْجُرُها وَهِي لِي مُخَالفَةٌ

كأنني لست من أوداها

قد ظلمتني بِسوء عشرتها

وَلم تدع لي تقوى وَلَا جاها

كَثِيرَة اللَّهْو فِي مجالسها

قَليلَة الذِّكر فِي مُصلاها

قَليلَة الشُّكْر عِنْد نعمتها

ضَعِيفَة الصَّبْر عِنْد بلواها

كثيرة المَنِّ في مواعدها

كذوبة في جميع دعواها

بصيرة بالهوى وفتنتها

عمية عن أمور أخراها

نشيطة عند وقت لذتها

كسْلانَةٌ عند وقت ذكراها

نَوَّامة العين عن عِبادَةِ مَنْ

أتقن تصويرها وسواها

عظيمة المَّن والثَّناءِ لمن

رفع مقدارها وأطرافها

مطيلة الذم بالقبيح لمن

عرفها قدرها وخطواها

ذاكرة للورى مساويهم

ناسية ما جنته كفَّاها

كم بين نفسي ونفس فَتًى

طهَّرها بالتُّقى وزكَّاها

أقامها في الدجى على قدم

فانهملت بالدموع عيناها

إذا اشتهت شهوة توعَّدَها

خوف معبودها فسوَّاها

ص: 224

ذاكرة للإله شاكرةً

مخلصة سرَّها ونَجْواها

شرفها رَبهَا وكرمها

وَمن مياه الْيَقِين روَّاها

سمت اليه بِحسن سيرتها

ثمَّ صفا ودُّها فصافاها

تِلْكَ الَّتِي إِن دعت بحاجتها

أجابها مسرعا ولبَّاها

ليست كنفس لديَّ عاصية

ويلٌ لما قد جنت وويلاها

كيف إلى ربها تنيب وقد

زلَّت لشيطانها فأغواها

لو تعرف الله حق معرفة

لصححت برها وتقواها

لَكِنَّما جَهْلُها بِخالِقِها

أَغْفَلَها رُشْدها وَألهاها

صِرْتُ مَعَ النَّفْسِ فِي مُجاهَدَةٍ

تَأْمُرُنِي بِالْهَوى وَأَنْهاهَا

أَصْرَعُها تَارَةً وَتَصْرَعُنِي

لَكِنْ لَها السَّبْقُ عِنْدَ لُقْياها

عَدَوَّة لا أُطِيْقُ أُبْغِضُها

يا لَيْتَنِي أَسْتَطِيع أَنْساها

أَحْسِبُها إِنْ أَبَتْ مُوافَقَتِي

خاسِرَةً دِيْنَها وَدُنْياهَا

يا رَبِّ عَجِّلْ لَها بِتَوْبَتِها

وَاغْسِلْ بِما الْتَقَى خَطاياها

إِنْ تَكُ يا سَيِّدِي مُعَذِّبَها

مَنْ ذا الَّذِي يُرْتَجَى لِرُحْماها (1)

- روى الديلمي - قال الحافظ زين الدين العراقي، وإسناده جيد - عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ

(1) انظر: "معارج القدس في مدارج معرفة النفس" للغزالي (ص: 185).

ص: 225

بِعَبْدِهِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَاعِظًا مِنْ قَلْبِهِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ" (1).

وروى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: كنَّا نتحدث أن العبد إذا أراد الله به خيراً جعل له زاجراً من نفسه يأمره بالخير وينهاه عن المنكر (2).

وقال بعض العارفين: من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ.

وقال أبو مدين رحمه الله تعالى: كل قلب ليس له واعظ من نفسه فهو خراب.

وروى الحكيم الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ، وَعَصَمَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ: مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ حِيْنَ يَرْغَبُ، وَيرْهَبُ، وَحِيْنَ يَشْتَهِي، وَحِيْنَ يَغْضَبُ"(3).

واعلم أن الشهوات في هذه الدنيا مؤذِنةٌ بما في الجنة من الملاذِّ والنعيم ليرغب فيها ويتطلب، وفاتنةٌ لمن أبعده الله تعالى حتى يخرج من دار القرب - أعني: الجنة - بطريق، ويحاد به عنها بحجة بينة، ولله الحجة البالغة.

(1) قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 711): رواه الدارمي عن أم سلمة رضي الله عنها، وسنده جيد.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35324).

(3)

رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(4/ 50).

ص: 226

فمن فهم هذا المعنى فمهما عرضت له شهوة من الدنيا اعتبر ما في الجنة من نوعها مع النزاهة والدوام، ثم تناول منها ما يزيل عنه ضرورة البشرية، وأمسك عن الاسترسال خشية من الفتنة والهلاك؛ إذ من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر - كما في الحديث المتقدم - واستحضر الخوف من أن يحال بينه وبين الشهوة في دار الآخرة بسبب الاسترسال في تناولها في الدنيا كما قال تعالى:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].

وقد روى النسائي، والحاكم وصححه على شرطهما، عن عقبة ابن عامر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول:"إِنْ كُنتمْ تُحِبُّوْنَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيْرَهَا فَلا تَلْبَسُوهُمَا فِي الدُنْيَا"(1).

وصحح على شرطهما أيضاً عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: استأذن سعد - رضي الله تعالى عنه - على ابن عامر، وتحته مرافق من حرير، فأمر بها فرفعت، فدخل عليه وعليه مطرف من خز، فقال له: استأذنت وتحتي مرافق من حرير، فأمرت بها فرفعت.

فقال: نِعْمَ الرجل أنت يا ابن عامر، إن لم تكن ممن قال الله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]، والله لأن اضطجع

(1) رواه النسائي (17348)، والحاكم في "المستدرك"(7403)، وكذا ابن حبان في "صحيحه"(5486).

ص: 227

على جمر الغضا أحب إليَّ من أن أضطجع عليها (1).

وروى الإمام مالك رحمه الله تعالى عن يحيى بن سعيد: أن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنهما جاء (2) ومعه حامل لحم، فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لجاره وابن عمه؟ فأين تذهب عنكم هذه الآية {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20](3)؟

وهذه الآية - وإن كانت في الكفار - فقد يخشى ما فيها على المنهمكين في الطيبات من المسلمين كما فهمه عمر وسعد رضي الله تعالى عنهما بأن يسترسلوا في الشهوات المباحة، بحيث إنه كلما أجاب نفسه إلى واحدة دعته إلى أخرى، فيصير إلى أنه لا يمكنه عصيان نفسه في هوى، وينسد عنه باب العبادة التي ثوابها طيبات الجنة، وينفتح له باب المعصية التي عقابها حرمان الطيبات، والنزول من الدرجات إلى الدركات، فلا يبعد أن يقال له والعياذ بالله:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20].

وقد نبَّهَ على ذلك الحليمي في "منهاجه"، وغيره (4).

وروى ابن أبي حاتم في "تفسير" عن أبي الأشعث رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن القلوب

(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3697).

(2)

في "ت" و"شعب الإيمان": "أدرك جابر بن عبد الله" بدل "جاء".

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(5672).

(4)

انظر كلام الحليمي في "شعب الإيمان" للبيهقي (5674).

ص: 228

المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة (1).

وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].

قال ابن مسعود رضي الله عنه في الآية: ليس إضاعتها تركها؛ قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه، ولكن إضاعتها إذا لم يصلها لوقتها. أخرجه عبد بن حميد (2).

وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سَيَهْلَكُ مِنْ أُمَّتِي أَهْلُ الْكِتَابِ وَاللّيْنِ".

قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما أهل الكتاب؟

قال: "قَوْمٌ يَتَعَلَّمُوْنَ الْكِتَابَ يُجَادِلُوْنَ بِهِ الَّذِيْنَ آمَنُوْا".

قلت: وما أهل اللين؟

قال: "قَوْمٌ تتَّبِعُوْنَ الشَّهَوَاتِ، وَيُضَيِّعُوْنَ الصَّلَوَاتِ"(3).

وقوله: وأضاعوا الصلوات؛ أي: وغيرها من الطاعات، وإنما اقتصر على الصلاة لأنها عماد الدين، وإذا ضيَّعها العبد فهو لغيرها أكثر إضاعة.

(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 526).

(2)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 526).

(3)

رواه الحاكم في "المستدرك"(3417)، وكذا الروياني في "المسند"(240).

ص: 229

وقد روى الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم، والبيهقي عن شدَّاد بن أوس رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أتخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ".

قلت: أتشرك أمتك من بعدك؟

قال: "نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلا قَمَراً، وَلا حَجَرًا وَلا وَثَنا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ".

قلت: يا رسول الله! فما الشهوة الخفية؟

فقال: "يُصْبحُ أَحَدُهُمْ صَائِمًا، فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَة مِنْ شَهَوَاتِهِ، فَيترُكُ صَوْمَهُ، ويُوَاقِعُ شَهْوَتَهُ"(1).

وروى سعيد بن منصور، والطبراني، والحاكم وصححه، والمفسرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]؛ قال: الغي: نهرٌ، أو وادٍ في جهنم من قيح، بعيدُ القعر، خبيثُ الطعم، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات (2).

وقال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169]؛ يعني: حطام الدنيا، وهو من الدنو أو من

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 123)، والطبراني في "المعجم الكبير"(7144)، والحاكم في "المستدرك"(7940)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(6830). وضعف المنذري إسناده في "الترغيب والترهيب"(1/ 36).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(9107)، والطبري في "التفسير"(16/ 100).

ص: 230

الدناءة، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169].

ولعل هذه الآية في علماء السوء خاصة من أهل الكتاب وهذه الأمة؛

بدليل قوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169].

سئل ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - عن هذه الآية قال: أقوام يقبلون على الدنيا يتأكلونها، ويتبعون رخص القرآن، ويقولون: سيغفر لنا، ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، وقالوا: سيغفر لنا. رواه أبو الشيخ (1).

وروى هو عن أبي الجَلْد رضي الله تعالى عنه قال: يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن، وتتهافت وتبلى كما تبلى ثيابهم، لا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصَّروا عما أمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا ما نهوا عنه قالوا: سيغفر لنا؛ إنا لا نشرك بالله شيئاً، أمرُهم كله طمع ليس فيه خوف، لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في نفسه المُدهن (2).

وقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]؛ أي: محنة ممتحنون بهما، أو مضلات لكم لا ينجيكم منها إلا ابتغاء ما عند الله

(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 593).

(2)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 593)، ورواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (ص: 474) عن أبي العالية.

ص: 231

وإيثاره عليهم.

ولذلك قال الله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 15، 16].

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46].

قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إنما سمي المال لأنه يميل بالناس، وسميت الدنيا لأنها دنت. رواه ابن أبي حاتم، والخطيب (1).

قلت: ويحتمل أنه سمي مالاً لأنه يميل عن الناس كما يميل بهم.

وفي الحديث: "لِكُلِّ أُمَّةِ فِتْنةٌ، وفِتْنةُ أُمَّتِي الْمَالُ". رواه ابن مردويه عن عبادة بن الصامت، وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهم، وعن كعب بن عياض رضي الله عنه، ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةِ فِتْنةٌ، وفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ"(2).

وفي نفس الأمر فالمال يجمع الفتنة، وبه تحصل كل زينة في الدنيا ومتاع؛ من مطعم أو مشرب، أو ملبس، أو مسكن، أو خادم، أو مركب، أو منكح، أو غير ذلك.

وروى الإمام أحمد في "الزهد"، والبيهقي في "الشعب" عن

(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(8/ 2783)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(4/ 44).

(2)

ورواه الترمذي (2336) عن كعب بن عياض رضي الله عنه، وصححه.

ص: 232

سفيان بن سعيد رحمه الله تعالى قال: كان عيسى عليه السلام يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير.

قالوا: وما داؤه؟

قال: لا يسلم صاحبه من الفخر والخيلاء.

قالوا: فإن سلم؟

قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله تعالى (1).

وروى ابن أبي الدنيا عن وهيب المكي رحمه الله تعالى قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال: أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً (2).

وروى ابن عساكر عن يحيى بن سعيد رحمه الله تعالى قال: كان عيسى عليه السلام يقول: اعبروا الدنيا ولا تعمروها، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة (3).

وفي ذلك إشارة إلى أن الدنيا مفتنة ولو بمجرد النظر إليها من غير ملك لها ولا تمتع بها، ومن ثم كان عيسى عليه السلام يقول: جودة الثياب من خيلاء القلب. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد

(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 92)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10458).

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "الزهد"(1/ 34).

(3)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(47/ 429).

ص: 233

الزهد" عن ابن شوذب (1).

وفي جودة الثياب نعيم الجسد ونعيم البصر، ومن هنا تعجب ابن آدم وهي على غيره كما تعجبه وهي عليه، فيتولد من النظر إليها على غيره الحسد، وعلى نفسه العجب.

وروى عبد الله في "زوائد الزهد" أيضًا عن عمران بن سليمان رحمه الله تعالى قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليهما السلام قال: يا بني إسرائيل! تهاونوا بالدنيا تَهُنْ عليكم، وأهينوا الدنيا تكرم الآخرة عليكم، ولا تكرموا الدنيا فتهون الآخرة عليكم؛ لأن الدنيا ليست بأهل الكرامة، وكل يوم تدعو للفتنة والخسارة (2).

وحقيقة فتنة المال والولد أن يمنعا العبد من طاعة الله، أو يبعثاه على معصية الله تعالى، وهما معرضان إلى كل بلاء وعناء في الدنيا والآخرة.

وقد روى الإمام أحمد، وأصحاب "السنن الأربعة" عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين - رضي الله تعالى عنهما - عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر، وحملهما واحداً من ذا الشق، وواحداً من ذا الشق، ثم صعد المنبر، وقال "صَدَقَ الله؛ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ} [التغابن: 15]

(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 130).

(2)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 205).

ص: 234

فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، إِنِّيْ لَمَّا نظَرْتُ إِلَى هَذِيْنِ الْغُلامَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيعْثُرَانِ لَمْ أَصْبِرْ أَنْ قَطَعْتُ كَلامِيَ وَنزَلْتُ إِلَيْهِمَا" (1).

وفي رواية ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: إن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قَاتَلَ اللهُ الشَّيْطَانَ؛ إِنَّ الْوَلَدَ لَفِتْنَةٌ، وَالَّذِي نَفْسِيْ

بِيَدِهِ مَا دَرِيْتُ أنِّي نزلْتُ عَنْ مِنْبَرِي" (2).

وفي قوله تعالى في الآية: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تهييجٌ، وإرشاد إلى طلب ما عنده بالإعراض عما به الفتنة، ولذلك أعقبه بقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وهذا من لطفه سبحانه وتعالى بالمؤمنين؛ إذ لم يكلفهم فوق استطاعتهم من تقواه؛ قال:{وَاسْمَعُوا} أي: الأمر والنهي، {وَأَطِيعُوا}؛ أي: بالائتمار والانتهاء، {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]؛ وفيه إشارة إلى أن الافتتان بالدنيا يكون من قِبَل شح النفس، فالفتنة من النفس في نفس الأمر.

قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] أمر بالإعراض عن زهرة الدنيا وزينتها مخافة الفتنة.

وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 354)، وأبو داود (1109)، والترمذي (3774) وحسنه، والنسائي (1585)، وابن ماجه (3600).

(2)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 186).

ص: 235

قال الحسن رحمه الله تعالى: أشد للدنيا تركاً (1).

وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أزهد في الدنيا (2). رواهما ابن أبي حاتم.

وروى هو وابن جرير، والحاكم في "تاريخه" عن ابن عمر رضي

الله تعالى عنهما قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: لنبلوهم أيهم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله (3).

وقال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].

ولا شك أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} تحريضٌ على استبدال ما عنده سبحانه وتعالى من اللذات الحقيقية الأبدية

(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 361).

(2)

رواه ابن أبي حاتم "التفسير"(6/ 2006).

(3)

رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 2006)، والطبري في "التفسير" (12/ 5). قال ابن حجر في "المطالب العالية" (13/ 725): هذه الأحاديث من كتاب "العقل" لداود بن المُحَبَّر، كلها موضوعة، ذكرها الحارث في "مسنده".

ص: 236

بالشهوات الفانية الدنيوية.

ثم قرر ذلك بقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] قال قتادة رحمه الله تعالى: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: اللهم زينت لنا الدنيا، وأنبأتنا أن ما بعدها خير منها، فاجعل حظنا في الذي هو خير وأبقى. رواه ابن أبي حاتم، وغيره (1).

وفيه: أنَّ المزين هو الله تعالى.

وقال الحسن في الآية: زينها الشيطان. رواه ابن أبي حاتم (2).

ودليل الأول: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4].

ودليل الثاني: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت: 38].

والأول حقيقة، والثاني مجاز.

هذا مذهب أهل السنة، وعكس ذلك المعتزلة.

ومعنى تزيين الله تعالى أعمالهم لهم: أنه جعلها مشتهاة للطبع، محبوبة للنفس.

ومعنى تزيين الشيطان لهم أعمالهم: تحسينها في أعينهم، وتزيين رأيهم فيها بما يوسوسه في صدورهم.

(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 612).

(2)

رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 1796).

ص: 237

وقال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17].

وكان ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - يقرؤها: بل تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة. كما رواه عبد بن حميد (1).

وروى ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في "الشعب" عن عرفجة الثقفي رحمه الله تعالى قال: استقرأت ابن مسعود رضي الله عنه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فلمَّا بلغ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] ترك القراءة، وأقبل على الصحابة، فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا لأنا زاينا زينتها ونساءها، وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة، فاخترنا العاجل وتركنا الآجل (2).

وروى البيهقي في "الشعب" عن أنس منه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ تَمْنعُ الْعِبَادَ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا لَمْ يُؤْثِرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِيْنِهِم، فَإِذَا آثَرُوْا دُنْيَاهُمْ ثُمَّ قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللهُ قَالَ اللهُ: كَذَبْتُم"(3)؛ أي: في دعواكم لأن قولكم خالف حالكم.

وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ

(1) انظر: "الدر المنثور"(8/ 487).

(2)

رواه الطبري في "التفسير"(30/ 157)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10641).

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(10497).

ص: 238

الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39 - 41]

والمراد نهي النفس عن الهوى المخالف للحق، فإذا كان موافقاً للحق كان حرياً بالاتباع لا من حيث إنه هوى، بل من حيث إنه مأمور به.

وقد روى الإمام الزاهد نصر المقدسي رحمه الله تعالى في "حجته" - بإسناد صحيح كما قال النووي رحمه الله تعالى - عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يَكُوْنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ"(1).

وحكي عن المأمون أنه كان يقول: أطيب الطيبات الحق إذا وافق الهوى.

ومن لطائف الآثار: ما رواه ابن الجوزي في "ذم الهوى" عن حسن الأسدي رحمه الله تعالى قال: كان عبد الله بن حسن بن حسين - رضي الله تعالى عنهم - يطوف بالبيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:[من البسيط]

أَهْوَى هَوَى الدِّيْنِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُني

فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّيْنِ

فقالت له: دعْ أحدَهما تنلِ الآخر.

وفي رواية: لقي امرأة جميلة، فلما نظرت إليه وإلى جماله مالت

(1) تقدم تخريجه.

ص: 239

إليه، وطمعت فيه، فأقبل عليها وقال:[من البسيط]

أَهْوَى هَوَى الدَّيْنِ وَاللَّذَّاتُ

فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّيْنِ

نَفْسِي تُزَيِّنُ لِي الدُّنْيا وَزينتَها

وَزاجِرِي مِنْ حَذارِ الْمَوْتِ

قال: فتركته، ومضت (1).

وقال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل هوى ضلالة (2).

وقال طاوس رحمه الله تعالى: ما ذكر الله تعالى هوى في القرآن إلا ذمه (3). رواهما ابن المنذر.

وقال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] وقال الحسن في قوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} : لا يهوى شيئا إلا اتبعه. رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (4).

وقال: المنافق عبد هواه. رواه ابن حميد (5).

(1) رواه ابن الجوزي في "ذم الهوى"(ص: 25).

(2)

ورواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(1/ 130).

(3)

انظر: "الدر الممثور" للسيوطي (7/ 464).

(4)

رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(8/ 2700).

(5)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 261).

ص: 240

وروى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ"(1).

وقال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: إذا ارتفع إليك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى، فلا تشتهي في نفسك الحق له، فيفلج على صاحبه، فأمحو اسمك من نبوَّتي، ثم لا تكون خليفتي، ولا كرامة. رواه الحكيم الترمذي (2).

ولقد بيَّن الله تعالى أن بني إسرائيل لم يمنعهم من اتباع الحق، ويبعثهم على الظلم وقتل الأنبياء إلا متابعة الهوى، فقال سبحانه وتعالى:{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا}

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(7502)، وكذا ابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 8). قال ابن عدي في "الكامل" (2/ 301): وهذا إن كان البلاء فيه من الحسن -بن دينار- وإلا من الخصيب بن جحدر، ولعله أضعف منه.

(2)

رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 180).

ص: 241

{أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71]؛ أي: بسبب اتباع الهوى، أو بسبب التكذيب والقتل.

{فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].

وفي هذه الآية أنَّ الاستكبار يكون من متابعة الهوى، وفيه الهلاك، وهو أول معصية عصى بها إبليس؛ {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]: حتى حمله هوى نفسه على الامتناع من السجود، فأبلس من رحمة الله تعالى، وأيس منها.

وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

قيل: هم اليهود، وقيل: النصارى (1).

والأولى أن الخطاب لكل العلماء؛ إذ من الجائز أن يكون المراد بالكتاب جنس كتب الله تعالى؛ نهوا عن الغلو في الدين والابتداع فيه،

(1) أكثر التفاسير ذكرت أن الخطاب للنصارى، كما في "تفسير الطبري"(6/ 316)، و"تفسير الثعلبي"(3/ 418)، ومن الذين ذكروا أنه لليهود أو النصارى: الماوردي في "تفسير"(1/ 546).

ص: 242

واتباع مثل أهواء الضالين من أهواء أنفسهم، واتباع أهل الأهواء على أهوائهم.

وفيه إشارة إلى أنه كما أن اتباع هوى الإنسان منهي عنه، كذلك ينهى عن اتباع هوى غيره، فلا يقلد صاحب الهوى على هواه ورأيه.

وقد قال الله تعالى لنبيه الذي قال فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وعَصَمه عن اتباع الهوى.

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].

وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50].

وفيه إشارة إلى أن الحكم بالهوى، بل مجرد اتباع الهوى سنة جاهلية.

وفي هذه الآية إشارة إلى أن العالم يتعين عليه أن يحذر ممن يحاكم إليه، أو يأتيه للمناظرة والمذاكرة أن يفتنه بما يزخرفه من كلام، أو يصوره من جدال عن دينه أو عن اعتقاده، ولا يتوهم من شَقْشقته في الكلام وتولِّيه عن الحق في صورة اتباعه له أنه على شيء، بل يكون ذلك لينفذ فيه أمر الله، ويقع به عقابه.

ص: 243

وفي قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] بيانٌ واضح أن هذا لا يختص بأهل الكتاب، بل يتفق لغيرهم من فاسقي هذه الأمة اتباع الأهواء.

وقال الله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].

فبيَّن سبحانه أنَّ متابعة أهل الأهواء من أهل الكتاب، وكذلك غيرهم سبب للخذلان والحرمان من ولاية الله ونصرته، ثم سجل على المتبع لأهوائهم من العلماء بالتوغل في الظلم، وعده في سلك الظالمين.

ص: 244

فَصْلٌ

حقيقة الهوى شدة الميل إلى الشيء، والشهوة محبة الشيء والرغبة فيه.

شهيه كرضيه، وشهاه كدعاه، واشتهاه وشَهَّاه وتشهَّى: اقترح.

ولعل الهوى أبلغ من الشهوة؛ فالشهوة يمكن ردها، والهوى لا يمكن رده، أو يتعسر رده، وهو تلف وأيُّ تلف، ومن ثم قيل:[من مجزوء الكامل]

إِنَّ الْهَوى لَهُوَ الْهَوا

نُ أُزِيْلَ عَنْهُ النُّوْنُ

ومن هنا لم يذكر الهوى في القرآن العظيم، ولا في كلام الأنبياء والحكماء إلا مذموماً.

والشهوة قد تكون مذمومة إذا استرسل فيها الإنسان، أو أكثر منها وتناولها من غير حلها، وأمَّا إذا تناولها الإنسان من حلها على الوجه الذي أذن فيه الشرع فلا يصح إطلاق الذم عليها لأنها داعية إلى قوام الطاعة وعمارة الأرض؛ إذ بها تتناول المطعومات والمشروبات، وبها قوام الأبدان، وبقوام الأبدان واعتدالها قوام العبادة.

ص: 245

وفي الحديث: "إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"(1).

وبها طلب النكاح والزواج، وبه يحصل التوالد وكثرة الخلق، وبهم عمارة الدنيا وقوام الدين.

ولما كان للشهوات وَقعٌ في صلاح الأمور وإقامة الدين أبقيت في دار الآخرة، ووصف بالشهوة أهل الجنة بخلاف الهوى.

قال الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71].

وقال الله تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102].

وقال تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21].

فالشهوة نعمة في الدنيا والآخرة إلا أن الله تعالى أطلق التنعم بها في الدار الآخرة، ولم يأذن في دار الدنيا إلا في تناول قدر الحاجة منها، ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].

وقال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223].

وقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187].

فأذن في الاستمتاع بالنساء، وحجر علينا في الاستمتاع بغيرهن، وقبح قضاء الشهوة بغيرهن بقوله - مخاطبا لقوم لوط وقد كرر ذمهم في

(1) تقدم تخريجه.

ص: 246

كتابه العزيز -: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل: 55].

ثم تسمية الفاحشة ثم قيد الاستمتاع بالنساء بكون المرأة خاصة بالرجل؛ إما بعقد أو بملك بإضافية النساء إلى المخاطبين؛ ألا ترى إلى أول قال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]، أي: نساؤكم الخاصة بكم من الأزواج أو الإماء.

وإذا اعتبرت فإن الشهوة إذا تجردت لا تضر، لأنها تلم بالقلب إلماماً، فإن رضيها الشرع قبلها العقل، وإن لم يرضها الشرع ردها العقل، فإن جذبها الهوى من العقل ملكها من حيث لم يأذن الشرع.

فالشهوة لا تذم إلا إن قارنها الهوى، أو استحالت هوى، وعلى هذا يحمل ما جاء في ذم الشهوات كما في الحديث الصحيح:"حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِه، وَالنَّارُ بِالشَّهَوَاتِ"(1)؛ فالشهوة لا تهوي بصاحبها في النار إلا إذا قارنها الهوى، أو صارت هوى.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِيْ ثَلاثَة: ضَلالَةُ الأَهْوَاءِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ فِي الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَالْعُجْبُ ". رواه الحكيم الترمذي عن أفلح رضي الله تعالى عنه (2).

واقتصر على الهوى في قوله صلى الله عليه وسلم: "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 249).

ص: 247

الْهَوَى وَطُوْلُ الأَمَلِ". رواه ابن عدي في "الكامل" عن جابر رضي الله عنه (1).

واعلم أنَّ كل إنسان مشتمل على شهوة وغضب كامنين في نفسه، متى ملكهما بعقله كانا مسخَّرين للعقل في مصالح الإنسان، ومتى أغفل العقل تدبيرهما تعلق بهما الهوى والشيطان، والهوى أقوى سلطانا من الشيطان، فإذا تعلق بالشهوة الخالية عن الهوى لا يكاد يبلغ مراده من العبد حتى يستعين بالهوى، ويتمكن منه عند الغضب، فإن لم يساعده الهوى لأن نار الغضب أقوى فالغضب خلق شيطاني في نفسه.

وقد سبق أنَّ إبليس ذكر لبعض الأنبياء أنه يأخذ ابن آدم عند الغضب والهوى (2)، ولم يقل: والشهوة.

نعم، يولع بالشهوة حتى يتعلق بها الهوى؛ أي: حتى يستحيل هوىً، وذلك أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم (3)، فإذا استعمل الإنسان الشهوة على قوانين الشرع لا تضره.

ومن قوانين الشرع ترك الإسراف في الشهوات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الإسْرَافِ أَنْ تأكلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ". رواه ابن ماجه (4).

(1) رواه ابن عدي في "الكامل"(5/ 185)، وقال: هذه الأحاديث غير محفوظة، وكذا ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" (ص: 27).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه ابن ماجه (3352)، وكذا أبو يعلى في "المسند"(2765) عن أنس رضي الله عنه. وفيه نوح بن ذكوان، وحديثه غير محفوظ. كما قال ابن عدي في "الكامل"(7/ 44).

ص: 248

وقال الحسن رحمه الله تعالى: دخل عمر على ابنه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وإذا عندهم لحم، فقال: ما هذا اللحم؟

قال: اشتهيته.

قال: وكلما اشتهيت شيئاً أكلته؟ كفى بالمرء سرفاً أن يأكل كلما اشتهى. رواهما (1) الإمام أحمد في "الزهد"(2).

فالإسراف طريق لتعلق الشيطان بشهوة الإنسان.

ولقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ} [الإسراء: 27].

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هم الذين ينفقون المال في غير حقه. رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وغيره (3).

وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياءً وسمعة فذلك حظ الشيطان. رواه البيهقي في "الشعب"(4).

وفي كلام الإمام علي إشارة إلى أن قضاء الشهوة من غيرك من

(1) في "ت": "رواه".

(2)

رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 123).

(3)

رواه البخاري في "الأدب المفرد"(444)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(6547).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 249

عيال بالنفقة عليهم، أو غيرهم بالصدقة خلقٌ كريم، فمراعاة الشهوة على ميزان الشرع منك ومن غيرك مندوب إليه.

وفي الحديث: "مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ شَهْوَتَهُ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّار". رواه البيهقي عن أبي هريرة (1).

وروى الطبراني في "الكبير" عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَطْعَمَ مَرِيْضًا شَهْوَتَهُ أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ"(2).

ومن قوانين الشرع أن لا تقضى الشهوة من مال غيرك ولو من طريق الاستدانة.

قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: من السرف أن يكتسي الإنسان، ويأكل ويشرب مما ليس عنده، وما جاوز الكفاية فهو تبذير (3).

وسبق قول عيسى عليه السلام: ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً؛ أي: في الدنيا وفي الآخرة؛ في الدنيا: فيما لو أخذها بدين، فأعسر به، فقاسى حزن المطالبة، وعسر الوفاء، أو فيما تناول منها فوق الكفاية فَتُخِم منها، أو مرض.

(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(3382) وقال: هو بهذا الاسناد منكر.

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(6107). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 97): فيه أبو خالد عمرو بن خالد، وهو كذاب متروك.

(3)

رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 274).

ص: 250

وفي الآخرة: فيما لو أخذها من غير حلها، فأوردته النار، أو حبسته عن طيبات الجنة.

وروى أبو نعيم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة.

وعليكم بالقصد فيهما؛ فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه (1).

* تَتِمَّةٌ:

اعلم أن في استعمال الشهوة على وجه الشرع تقلباً في نعم الله تعالى، وظهوراً فيها، وشكراً لله تعالى، ومسارعة إلى ما يحب سبحانه وتعالى كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلَاّ طَيَّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وَقالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].

(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 445)، ورواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (ص: 133).

ص: 251

ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَارَبّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنىَّ يُسْتَجَابُ لذَلِكَ". رواه مسلم، والترمذي، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه (1).

فأشار إلى أن الطيب لا يكون طيبا حتى يكون حلالاً.

ومن هنا فسر كثيرٌ الطيبات بالحلالات.

وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} [البقرة: 168]، وخطوات الشيطان: طرائقه وأعماله التي يأمر بها؛ منها: الإساءة في تحصيل الرزق والكسب السيء.

ومنها: صرف الرزق وما أنعم الله به في المعاصي والشهوات المجردة عن إرادة الخير.

ولذلك قال بعد ذلك: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169].

وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} [النحل: 14].

وأعم من ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

(1) تقدم تخريجه.

ص: 252

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34].

ثم عدد مفردات ذلك في غير موضع من كتابه، وقال:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].

والكفر منها نقيض الشكر، وكما أن الشكر مرضي الله وفيه

رضاه، فالكفر مسخوطه وفيه سخطه، ألا ترى إلى قوله تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} [الزمر: 7].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87].

وروى أبو داود عن أبي الأحوص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دونٍ، فقال:"ألكَ مالٌ؟ "

قال: نعم.

قال: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ "

قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم، والخيل، والرقيق.

قال: "فَمَاذَا آتَاكَ اللهُ فَلْيُرَ أَثرُ نِعْمَتِهِ عَلَيِكَ وَكَرَامَتِهِ"(1).

(1) رواه أبو داود (4036)، وكذا النسائي (5223).

ص: 253

وحسَّنَ الترمذي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِه"(1).

فتناول النعمة من وجهها الشرعي، واستعمالها في وجهها الشرعي ليس من خطوات الشيطان، بل هو مما يرضاه الرحمن سبحانه وتعالى، وهو عين الشكر الذي وعد الله تعالى عليه المزيد.

وضده الكفر الذي أوعد الله عليه بالعذاب الشديد، وهذا هو خطوات الشيطان، ولا يبعث عليه إلا هوى الإنسان، وهو البطر الذي هو سبب الهلاك والضرر كما قال تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58].

وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ

(1) رواه الترمذي (2819) وحسنه.

ص: 254

شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 19 - 21].

ذكر الله تعالى قصة سبأ بعد قوله تعالى في قصة داود عليه السلام: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] إشارةً إلى أنهم إنما أُتوا من قلة الشكر.

وهم كما قال قتادة رحمه الله تعالى: قوم أعطاهم الله تعالى نعمة، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته.

قال الله تعالى: {فَأَعْرَضُوا} أي: عن الشكر؛ قال قتادة: ترك القوم أمر الله {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} .

قال قتادة: ذكر لنا أن العَرِم وادٍ في سبأ كانت تجتمع إليه مسايل من أودية شتى، فعمدوا فَسَدُّوا ما بين الجبلين بالقِير والحجارة، فجعلوا عليه أبواباً، وكانوا يأخذون من مائه ما احتاجوا إليه ويسدون عنهم، فلما ترك القوم أمر الله تعالى بعث الله عليهم جرذاً فنقبه من أسفله، فاتسع حتى غرَّق الله به حروثهم، وخرَّب به أرضهم عقوبةً لهم بأعمالهم.

قال الله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} والخمط: الأراك، وكله بريرة {وَأَثْلٍ} والأثل: الطرفاء {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} وهو شجر النبق.

ص: 255

وقال قتادة في قوله: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} : لا تخافون جوعا ولا ظمأ، إنما تغدون فتقيلون في قرية، وتروحون فتبيتون في قرية أهل جنة ونهَر.

حتى لقد ذكر لنا أن المرأة كانت تضع سلتها على رأسها فتمتلئ قبل أن ترجع إلى أهلها، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زاداً، فبطروا النعمة، فقالوا:{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ، فمُزقوا كل ممزَّق وجُعلوا أحاديث.

وما ذكرناه عن قتادة أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (1).

وقال ابن زيد: لم يكن يرى في قريتهم بعوضة قط، ولا ذباب، ولا برغوث، ولا عقرب، ولا حيَّة، وإن الركب ليأتون في ثيابهم القمل والدواب، فما هو إلا أن ينظروا إلى بيوتها فتموت تلك الدواب، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القُفة على رأسه، ويخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفاكهة، ولم يتناول منها شيئاً بيده. رواه ابن أبي حاتم (2).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]، يحتمل

(1) رواه الطبري في "التفسير"(22/ 78 - 80)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3162 - 3168).

(2)

رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3165)، وكذا الطبري في "التفسير"(22/ 78).

ص: 256

أنه أراد أهل سبأ، والأولى أنه أراد سائر أولاد آدم.

وظنه قوله: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، فمن بدَّلَ نعمة الله كفراً، واستعان بنعم الله على معاصيه، فقد ظفر إبليس فيه، وتابعه فيما فيه هلاكه، وتسخير العقل في طاعة الهوى واتباع الشهوات عين الكفران لنعمة العقل، بل لنعمة أصل الوجود الإنساني؛ فافهم!

ص: 257

فَصْلٌ

الشهوات كلها مصالي للشيطان يقتنص بها الإنسان.

قال عبد الصمد الزاهد كما نقله عنه ابن الجوزي: من لم يعلم أن الشهوات فُخُوْخٌ - أي: للشيطان - فهو لَعَّاب (1).

وأصول الشهوات ما ذكر الله تعالى في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، الآية.

ومن ثم كان يحلف بعض العارفين أن الشهوات السبع المذكورة في الآية هي أبواب النار السبعة؛ لأنها أصول الشهوات كلها، وقد حُفَت النار بالشهوات.

وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية الأفتن فالأفتن، ولا شيء منها أعظم فتنة ولا أقرب إلى تسليط الشيطان على الإنسان من النسوان، ولذلك ذكرهن الله تعالى في أول الشهوات المذكورة في الآية.

وروى الأئمة الستة عن أسامة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1) انظر: "ذم الهوى" لابن الجوزي (ص: 31).

ص: 258

قال: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ"(1).

وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنسوة: "مَا رَأَيْتُ مِنْ ناَقِصَاتِ عَقْلٍ وَلا دِيْنٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبِّ مِنْكُنَّ"(2).

بل روى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي سعيد الخدري، وابن ماجه عن ابن عمر، وابن حبان، والحاكم وصححاه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنيِّ رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ".

فقلن: وبم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيْرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ ناَقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِيْنٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ"(3).

وتقدم في حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: أنَّ إبليس - لعنه الله - قال لله تعالى: اجعل لي حبائل.

قال: النساء (4).

(1) رواه البخاري (4808)، ومسلم (2740)، والترمذي (2780)، والنسائي في "السنن الكبرى"(9152)، وابن ماجه (3998).

(2)

رواه أبو داود (4679)، وكذا مسلم (79) كلاهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

(3)

تقدم تخريجه في الصحيحين، ورواه ابن ماجه (4003) عن ابن عمر رضي الله عنه.

ورواه ابن حبان في "صحيحه"(3323)، والحاكم في "المستدرك"(2772) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 259

وروى الخرائطي في كتاب "اعتلال القلوب"، وغيره عن زيد بن خالد الجُهَني رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُوْنِ، وَالنسَاءُ حِبَالَةُ الشَّيْطَانِ"(1).

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن جعفر بن حرفاش: أنَّ عيسى بن مريم عليهما السلام كان يقول: رأس الخطيئة حب الدنيا، والخمر مفتاح كل شر، والنساء حبالة الشيطان (2).

وذكر التجاني في كتاب "تحفة العروس" عن أبي المحيا قال: رأيت أمرأة من قومي بمكة، فجلست أحدثها وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما يصلي، فسمعني أقول لها: يا فلانة! استوحش لفراقك القلب، وجاورني من لا أهوى، وكنت كما قال الأول:[من الطويل]

أَيَسْعَدُ مَنْ أَهْوَى ويسْعِفُنِي الْهَوَى

بِمَنْ لا يُبالِي أَنْ يُفارِقَهُ أَهْلِي

قال: فأقبل عليَّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال: ما هذه المرأة منك؟

قلت: من العشيرة وبنات العم.

فقال: قم، وإلا وقعتما في فتنة؛ إنَّ النساء حبائل الشيطان، وإياك أن تخلو بأمرأة إلا أن تكون محرماً (3).

(1) رواه الخرائطي في "اعتلال القلوب"(ص: 208)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(55)، والديلمي في "مسند الفردوس"(3665).

(2)

رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 92).

(3)

انظر: "تحفة العروس ومتعة النفوس" للتجاني (ص: 35).

ص: 260

ونقل التجاني أيضاً عن سعيد بن المسيب قال: ما يئس الشيطان من ولي إلا أتاه من قبل النساء (1).

ورواه أبو نعيم عن علي بن زيد، عنه، وزاد فيه: وقال لنا سعيد - وهو ابن أربع وثمانين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى -: ما شيء أخوف عندي من النساء (2).

وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْمَرْأةَ تُقْبِلُ فِيْ صُوْرَةِ شَيْطَانٍ وتُدْبِرُ فِيْ صُوْرَةِ شَيْطَانٍ، وَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ امْرَأة فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِيْ نَفْسِهِ"(3).

وإنما شبهها بالشيطان في الإقبال لأنه محل استقبال وجهها والمأتي منها، وفي الإدبار لأنه محل بدو العجيزة، فلما كانت داعية إلى الفتنة بلسان حالها في إدبارها وإقبالها شبهت بالشيطان في الحالتين.

وقال الماوردي في كتاب "أدب الديين والدنيا": قال سليمان بن داود عليهما السلام لابنه: امش وراء الأسد، ولا تمش وراء المرأة (4).

(1) المرجع السابق (ص: 32).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 166).

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 330)، ومسلم (1403)، وأبو داود (2151).

(4)

انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 193)، ورواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 40).

ص: 261

قال: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تقول: [من البسيط]

إِن النِّساءَ رَياحِيْنُ خُلِقْنَ لَكُمْ

وَكُلُّكُمْ يَشْتَهِي شَمَّ الرَياحِيْنِ

فقال عمر رضي الله تعالى عنه: [من البسيط]

إِنَّ النساءَ شَياطِيْنُ خُلِقْنَ لَنا

نعوْذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّياطِيْنِ (1)

وروى الخطيب في "تاريخه" عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سُئِلْتَ: أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوْسَى عليه السلام؟ فَقُلْ: خَيْرَهُمَا وَأَبَرَهُمَا، وإنْ سُئِلْتَ: أَيُ الْمَرْأتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُل: الصُّغْرى مِنْهُمَا، وَهِيَ الَّتِيْ جَاءَت فَقَالَت: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص: 26]، فَقَالَ: مَا رأيَتِ مِنْ قُوَّتهِ؟ قَالَت: أَخَذَ حَجَرًا ثَقِيْلاً فَألقَاهُ عَلَى الْبِئْرِ، قَالَ: وَمَا الَّذِي رَأَيْتِ مِنْ أَمَانتِهِ؟ قَالَت: قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي، وَلا تَمْشِي أَمَامِي"(2).

وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن أباها قال لها: وما رأيت من قوته؟

قالت: جاء إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها كذا وكذا، فرفعها.

قال: وما رأيت من أمانته؟

قالت: كنت أمامه فجعلني خلفه (3).

(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 193).

(2)

رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(2/ 128).

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 262

وإذا كان هذا حذر الأنبياء عليهم السلام وهم معصومون، فكيف بغيرهم؟ !

* لَطِيْفَة:

تقدم في الحديث: "أن الرجل لا يخرج الصدقة حتى يفك عنها لحي سبعين شيطاناً"(1).

يحكى في معناه: أن الشيطان يأتي الرجل بسبعين من جنوده، فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه، ويمنعونه من الصدقة، فسمع بذلك بعضهم فقال: أنا أقاتل هؤلاء السبعين، فخرج إلى منزله، وملأ ذيله من الحنطة ليتصدق به، فوثبت زوجته فنازعته حتى أخرجته من ذيله، فرجع الرجل خائباً، وقال: هزمت السبعين، فجاءت أمهم فهزمتني. ذكره البرهان بن مفلح في كتاب "الاستعاذة"(2).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

وذكره الرازي في "التفسير الكبير"(1/ 84).

ص: 263

فَصْلٌ

كما يخشى على الرجل أن يدخل عليه الشيطان بالنساء، كذلك يخشى على المرأة أن يدخل عليها الشيطان بالرجال.

وقد أمر الله تعالى المؤمنات بما أمر الله به المؤمنين من غض الأبصار وحفظ الفروج، فقال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 30، 31] الآية.

قال الأعمش: في هذه الآية نهيت المرأة أن تنظر إلى غير زوجها؛ أي: أن تنظر قصداً أو بشهوة، فأما نظرة الفجأة فلا تكليف فيها (1).

وروى البزار، والدارقطني بسند ضعيف، عن علي رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها: "أَيُّ شَيْءِ خَيْرٌ لِلْمَرْأَةِ؟

قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها.

(1) رواه ابن أبي الدنيا في "العيال"(2/ 736).

ص: 264

فضمها إليه، وقال:{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34](1).

ورواه ابن الجوزي في كتاب "النساء" على وجه آخر، ولفظه: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وجماعة من الصحابة عما هو خير للنساء، فلم يدروا ما يقولون، فانصرف علي إلى فاطمة رضي الله تعالى عنهما، وذكر لها ذلك، فقالت: إن خير النساء اللائي لا يرين الرجال ولا يرونهن، فأخبر علي رضي الله تعالى عنه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إِنَّمَا فَاطِمَةُ بضْعَةٌ مِنِّيْ"(2).

وفي "الصحيح" قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكنَّ صَوَاحِبُ يُوْسُفَ"(3) يشير إلى قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30] روى ابن أبي حاتم عن دريد بن مجاشع، عن بعض أشياخه قال: قالت - يعني: أمرأة العزيز - للقيم: أدخله عليهنَّ وألبِسْه ثيابًا بيضاء؛ فإن الجميل أحسن ما يكون في البياض، فأدخله عليهن وهن يحززن ما في أيديهن، فلما رأينه حززن أيديهن وهن لا يشعرن من النظر إليه، فنظرن إليه مقبلاً، ثم أومت إليه: أن ارجع، فنظرن إليه

(1) قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 398): رواه البزار والدارقطني في "الأفراد" من حديث علي صلى الله عليه وسلم، بسند ضعيف.

(2)

ورواه ابن أبي الدنيا في "العيال"(2/ 593)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 175).

(3)

رواه البخاري (633)، ومسلم (418).

ص: 265

مدبراً وهن يحززن أيديهن بالسكاكين لا يشعرن بالوجع من النظر إليه، فلما خرج نظرن إلى أيديهن، وجاء الوجع يُولْولن، فقالت لهن: أنتُنَّ من ساعة واحدة هكذا صنعتن، فكيف أصنع أنا؟ {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] (1).

واعلم أن الرجل كما يعجبه جمال المرأة فيطلبه ويرغب فيه، يعجب المرأة جمال الرجل فتطلبه وترغب فيه، فمن حيث يدخل الشيطان على الرجل بالمرأة يدخل على المرأة بالرجل، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إِلَى ابْنَتِهِ فَيُزَوِّجَهَا الشَّيْخَ الدَّمِيْمَ؟ إِنهنَّ يُرِدْنَ مَا تُرِيْدُوْنَ". رواه أبو نعيم عن الزبير رضي الله تعالى عنه (2).

وروى الديلمي، وغيره بسند ضعيف، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثٌ مِنَ الْعَجْزِ فِي الرِّجَالِ: أَنْ يَلْقَى مَنْ يُحِبُّ مَعْرِفَتَهُ فَيُفَارِقَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ اسْمَهُ، وَأَنْ يُكْرِمَهُ أَخُوْهُ فَيرُدَّ كَرَامَتَهُ، وَأَنْ يُقَارِبَ الرَّجُلَ جَاريتَهُ فَيُصِيْبَهَا قَبْلَ أَنْ يُحَادِثَهَا ويُؤَانِسَهَا وَيُضَاجِعَهَا، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ حَاجَتَهَا مِنْهُ"(3).

(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(7/ 2135).

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 140)، وعنده:"القبيح الدميم" بدل "الشيخ الدميم ".

(3)

قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"" (1/ 204): رواه أبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أنس، وهو منكر.

ص: 266

فَصْلٌ

قد سبق أن الفتنة بالمُرد الحسان أشد من الفتنة بالنسوان.

وعن سفيان الثوري: إني أجد مع المرأة شيطانا، ومع الغلام الأمرد بضعة عشر شيطاناً (1).

ولم ينبه الله تعالى على ذلك في آية الشهوات؛ لأنه إنما ذكر منها ما يباح دون ما يحرم، وإذا كان الإنسان يفتتن بالزينة المباحة فيضل، ففتنته بالزينة المحرمة أشد ضلالة.

وقد روى الترمذي وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِيْ عَمَلُ قَوْمِ لُوْطٍ"(2).

والذي لا يَشُك فيه عارف بأحوال الناس في هذه الأزمنة أنه ليس للهوى طريق على عقولهم أقوى فتنة ولا أبلغ أخذاً لقلوبهم من مخالطة

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه الترمذي (1457) وحسنه، وابن ماجه (2563)، والحاكم في "المستدرك"(8057).

ص: 267

المرد الحسان، وما زينوهم به أبلغ من زينة النسوان، واسْتَرْوح فُسَّاقهم إليهم لسهولة معاشرتهم في الأسفار خصوصا من كان منهم مَلَك أيمانهم بسبب أنهم استخفوا باللواط في ملك اليمين، ويزعموه شبهة، وربما احتج شياطينهم إلى تأويل الآية.

ولا شك أن حمل الآية على ذلك، أو إدخاله في عمومها كفرٌ يخرج به من يركن إليه عن رِبْقة الإسلام.

وقد روى البزار عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويلٌ لِلمَالِكِ مِنَ المَمْلُوْكِ، وَوَيْل لِلْمَمْلُوْكِ مِنَ الْمَالِكِ"(1).

وهذا أعظم ما يكون بينهما من الويل.

وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شَرُّ الْمَالِ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ الْمَمَالِيْكُ"(2).

وسيأتي مزيد بيان في التشبه بقوم لوط.

وكذلك من فتنة النساء أن يطلب بعضهن من بعضهن ما يطلب الرجل من المرأة، أو المرأة من الرجل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالسُّحق.

(1) رواه البزار في "المسند"(2880). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 348): فيه من لم أعرفهم.

ورواه أبو يعلى في "المسند"(4009) عن أنس رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 268

وفي الحديث "سُحْقُ النِّسَاءِ زِنَا بَيْنَهُنَّ"(1).

وسبب ذلك أن الرجال اكتفوا بالرجال، فاكتفى النساء بالنساء، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون في آخر الزمان، وإذا استخفت المرأة بفعل ذلك مع مملوكتها كان كاستخفاف الرجل باللواط مع مملوكه، وهذا من مداخل الشيطان إلى النسوان كما أن ذلك من مداخله إلى الرجال، ويخشى على الرجل المعرض عن حليلته أن يبوء بإثمه وإثمها.

(1) رواه أبو يعلى في "المسند"(7491)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 63). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/ 256): رجاله ثقات.

ص: 269

فَصْلٌ

ومن أصول الشهوات البنون؛ اقتصر عليهم لأن العرب ما كانوا يعدون البنات زينة، بل كان جهلاؤهم يعدونهنَّ عاراً وينبذونهن.

أو البنون شاملون للبنات؛ فإنه زينة أيضا وبالخصوص لأمهاتهن.

قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].

وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 28].

وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]؛ فمن استعاذ منكم فليستعذ من مضلات الفتن. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (1).

وكذلك العشيرة من زينة الدنيا، وعشيرة الرجل بنو أبيه الأقربون،

(1) رواه الطبري في "التفسير"(9/ 224)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1685).

ص: 270

أو قبيلته كما في "القاموس"(1).

وفي كتاب الله تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].

ولعل اشتقاقه من العِشرة - بالكسر - وهي المخالطة، فإذا كان الولد أو الوالد أو العشيرة يدعون الرجل إلى معصيَة الله تعالى، أو يشغلونه عن طاعته، كانوا فتنة عليه، بل مودته لهم وهم على غير طاعة الله فتنة له.

وقد روى الديلمي عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عِنْدِي يَدًا وَلا نِعْمَةً فَيَوَدُّهُ قَلْبِي؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة: 22] الآية (2).

وفي حديث آخر: "لِفاسِقٍ".

وإنما دعا بذلك لأن النعمة والإحسان تدعوان إلى محبة المحسن ومودة المنعم، وهما يدعوان إلى موافقة المحبوب والمودود، وفي ذلك قد يكون الهلاك فينقلب الحبيب عدواً.

ولقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ

(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 566)(مادة: عشر).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 271

وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].

ومن عداوتهم شغله عن طاعة الله، وتكليفه ما لا يحصل إلا بمعصية كما روى أبو نعيم، والبيهقي، وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَأْتِيْ عَلَى النَّاسِ زَمَان لا يَسْلَمُ لِذِي دِيْنٍ دِيْنُهُ إِلَاّ مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، أَوْ مِنْ بَحْرٍ إِلَى بَحْرٍ كَالثعْلَبِ بِأَشْبَالِهِ"(1).

وذلك في آخرِ الزَّمانِ إذا لم تنل المعيشة إلَاّ بمعصية اللهِ، فإذا كان كذلك حلتِ العزلة، يكون في ذلك الزمان هلاكُ الرَّجل على يدي أَبويهِ إن كان له أَبوان، فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجتهِ وولدهِ، فإن لم يكن له ولد فعلى يدي الأقاربِ والجيرانِ، يعيَّرونهُ بضيق المعيشة، ويكلِّفونه ما لا يطيق حتَّى يُورِد نفسه الموارد الَّتي يهلك فيها.

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 118)، وكذا الخطابي في "العزلة" (ص: 10) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعندهما:"من جحر إلى جحر" بدل "من بحر إلى بحر".

ورواه البيهقي في "الزهد الكبير"(ص: 183) عن أبي هريرة. وضعف العراقي إسناد الحديثين في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 371).

ص: 272

فَصْلٌ

ومن أصول الشهوات المال، وأُسُّه الأعظم وأصله الذي يبنى عليه الذهب والفضة، ولذلك قدمهما الله تعالى في الآية على غيرهما من الأموال.

روى البخاري، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّيْنَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيْصَةِ، إِنْ أُعْطِي رَضِي، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانتكَسَ، وَإِذَا شِيْكَ فَلا انتُقَشْ"(1).

وروى الترمذي وصححه، والنسائي عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا ذئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا فِيْ غَنَمٍ بأكْثَرَ فَسَاداً لَهَا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِيْنِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ"(2).

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه الترمذي (2376) وصححه، وكذا ابن حبان في "صحيحه"(3228).

ص: 273

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلَكَ الْمُكْثِرُوْنَ إِلَاّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا"(1).

وروى الشيخان عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هُمُ الأَخْسَرُوْنَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ".

قال أبو ذر: من هم يا رسول الله؟

قال: "الأكثَرُوْنَ مَالاً إِلَاّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا"(2).

وروى مسلم، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله تعالى عنه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1]- وفي رواية: وقد أنزلت عليه {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} - وهو يقول: "يَقُوْلُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَاّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبقَيْتَ"(3).

وأما الخيل المسوَّمة فليس عند ذوي الدنيا بعد النقدين أعز منهما خصوصاً عتاقها.

وفي الصحيح: "الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، وَلِرَجُل أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ؛ فَأمَّا الَّتِيْ هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنواءً لأَهْلِ الإِسْلامِ فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ"(4). وذكر الحديث.

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 309) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (6262)، ومسلم (990).

(3)

رواه مسلم (2958)، والترمذي (3354)، والنسائي (3613).

(4)

رواه البخاري (2705)، ومسلم (987).

ص: 274

وفي كتاب الله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8].

ولا شك أن الحمير عند أهل الحراثة والأعمال مال شاغل، بل هي عند اللائقة به أعز من الخيل عند علية الناس وملوكها.

والبغال بين الجنسين، وتتخذ للقوة، والجَمال، وحمل الأثقال، وسرعة الوصول إلى المقاصد.

وأما الأنعام فهي ثلاثة: الإبل، والبقر، والغنم، ولكل جنس منها نوعان، وكلها أموال محبوبة إلى أهلها.

روى ابن ماجه عن عروة البارقي رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإِبِلُ عِزٌّ لأَهْلِهَا، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْرُ مَعْقُوْدٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(1).

والخير قد يشمل المال، وقد سمَّى الله تعالى المال خيراً في كتابه العزيز.

وروى أبو عبيد، وابن المنذر عن يحيى بن كثير رضي الله تعالى عنه - مرسلاً -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بإبل لحيٍّ يقال لهم: بنو الملوح، أو بنو المصطلق، قد عنست في أبوالها من السَّمَنِ، فتقنَّع بثوبه ومر، ولم ينظر إليها لقوله تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131](2).

(1) رواه ابن ماجه (2305)، وكذا أبو يعلى في "المسند"(6828).

(2)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 97).

ص: 275

ووراء الخيل والأنعام أموال أخر، إلا أنه وقع ذكرها في الآية دون غيرها لأن هذه أصولها وغيرها كالتبع لها؛ كالفيلة فإنها مركوبة، وكالصيد والوز والدجاج والطير من المأكولات.

وهذه الأمور أموال بالنسبة إلى من يقتنيها أو من لا يقدر إلا على شيء منها، بل قد يقتنيها ويستكثر منها من له غنى عنها، ويكون ذلك أبلغ في الفتنة؛ لأن تحصيل هذه المزينات من البهائم بعد الاكتفاء من المواشي العظيمة دليل على استقصاء متخذها في طلب الدنيا والرغبة فيها، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عِنْدَ اتِّخَاذِ الأَغْنِيَاءِ الدَّجَاجَ يَأْذَنُ اللهُ بِهَلاكِ القُرَى". رواه ابن ماجه، وغيره (1).

وأمَّا الحرث فإن المراد محله وهو الأرض، وما يطلب به بالاستنبات من ثمرة أو حب.

وقد روى الترمذي، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تتَّخِذُوْا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوْا فِيْ الدُّنْيَا"(2).

قال في "القاموس": والضيعة: العقار والأرض المغلة (3).

(1) رواه ابن ماجه (2307) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفيه علي بن عروة منكر الحديث. انظر: "الكامل" لابن عدي (5/ 208).

(2)

رواه الترمذي (2328) وحسنه، والحاكم في "المستدرك"(7910).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 960)(مادة: ضيع).

ص: 276

وروى أبو داود، وغيره بإسناد صحيح، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِيْنَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْناَبَ الْبَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لا يَنْزعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِيْنِكُمْ"(1).

وإنما لَّوح صلى الله عليه وسلم إلى مفارقة الدين بذلك لأن من رغَّب عن الجهاد - ولعله الجهاد الشامل لجهاد النفس في طاعة الله تعالى، وعن معاصيه - ورغب فيما ذكر من الاستقصاء في تحصيل الدنيا بحيلة العينة، ومزاحمة أهل الحراثة في حراثتهم، والاستكثار بالزروع، فقد غفل عن الله تعالى، فأوقعته الغفلة في الذلة.

ولقد شاهدنا هذا في ملوك الناس ووجوههم حين تركوا ما هو المطلوب منهم من الجهاد وطلب العلم والدين كيف ذلُّوا؛ وأيُّ ذلٍّ أعظم من ذل الجهل والاشتغال بغير الله تعالى.

فإن قلت: فقد ذكر الله تعالى في الآية من زينة الدنيا منكوحاتها، ومركوباتها، ومطعوماتها، ثم قال:{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]، فما له لم يذكر ملبوساتها ومفروشاتها مع أنها من متاع الحياة الدنيا؟

قلت: بل هي مذكورة في الآية لأنها إما من جلود الأنعام

(1) رواه أبو داود (3462) وفي إسناده مقال. وصحح ابن القطان إسناده في "بيان الوهم والإيهام"(5/ 294).

ص: 277

وشعورها، وقد اشتملت عليها الأنعام.

وإمَّا من النباتات وهي داخلة في الحرث؛ لأن القطن والكتان من النبات.

وأما الحرير فإنه - وإن كان من دود القَز - فإنه إنما يتعيش من ورق التوت، وهو من النبات.

وقد نص على ذم المتعلق باللبس والفراش النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث السابق: "تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيْصَةِ".

وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى علمها، فلما قضى صلاته قال: اذهبُوْا بِهَذهِ الْخَمِيْصَةِ إِلَى أَبِي جَهْم بنِ حُذَيْفَةَ، وَائتوْنِي بِأَنْبِجَانِيَتِهِ؛ فَإِنَّهَا ألهَتْنِيْ آنِفًا عَنْ صَلاتِي".

وفي لفظ: "شَغَلَتْنِيْ أَعْلامُ هَذِهِ".

وفي رواية: "كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِيْ الصَّلاةِ فأَخَافُ أَنْ تَفْتِنِّي"(1).

وروى البخاري [عن عقبة بن عامر]، رضي الله تعالى عنه قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرُّوج حرير، فلبسه فصلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديداً كالكاره له، وقال:"لا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِيْنَ"(2).

(1) رواه البخاري (5479)، ومسلم (556).

(2)

رواه البخاري (5465)، وكذا مسلم (2075).

ص: 278

والفروج - بالفتح -: كساء فيه شق من خلفه، وكان هذا قبل تحريم الحرير؛ فإنما نزعه مع أنه كان مباحاً لأنه من الزينة المُلهية عن الصلاة كما ترك الخميصة، وآثر بها أبا جهم، واستبدل بها أنبجانيته، وقد روي بفتح الهمزة وكسرها؛ يقال: ثوب أنبجاني، ومنبجاني - بفتح الباء الموحدة فيهما -: نسبة إلى منبج كمجلس: موضع بالشام على غير قياس، وهو كساء أسود غليظ.

وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف في الطعام واللباس وغيرهما معروفةٌ في كتب الحديث.

وحاصلها لا يرجع إلى تحريم شيء من المباحات، بل إلى استحباب الاقتصاد والاقتصار على ما يجزئ العبد في قطع المسافة الدنيوية، والمسير إلى الله تعالى.

ولا سبيل في تحريم شيء من المباحات والمنع منها لئلا تتعطل حكمة خلقها للعباد المشار إليه بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

وإنما المقصود استعمالها على قوانين الشرع، والتأدب فيها بالآداب المطلوبة لتكون من المُوصلات إلى الله تعالى لا من القاطعات عنه، وإنما تكون قاطعة عن الله تعالى إذا أخذت بمقتضى الشهوة والهوى، لا بمقتضى الشرع والتقى؛ فافهم!

ص: 279

فَصْلٌ

ولما كان للشيطان مداخل كثيرة على الإنسان عَجِبَتِ الملائكةُ الكرام ممن ينجو من الشيطان كما روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد العزيز بن رفيع رحمه الله تعالى قال: إذا عرج بروح المؤمن إلى السماء قالت الملائكة عليهم السلام: سبحان الذي نجى هذا العبد من الشيطان، يا ويحه كيف نجا (1)!

وقد علمت أنه لا مدخل للشيطان على الإنسان إلا من قبل نفسه.

وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه: "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ". رواه القضاعي (2).

ومن كياسته أن يعلم أن النفس تميل إلى الشهوات، وأنَّ النار

(1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 167).

(2)

رواه القضاعي في "مسند الشهاب"(128)، وكذا الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (4/ 26). وفيه أبو داود النخعي الكذاب. انظر:"ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 305).

ص: 280

محفوفة بالشهوات، فيحاسب نفسه على كل شهوة تضره في الآخرة، فيدعها ويقلع عنها كما قال صلى الله عليه وسلم:"الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ - أَيْ: حَاسَبَهَا - وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ"(1).

وكل شهوة تؤذي صاحبها بعد الموت فهي مدخل للشيطان إلى الإنسان؛ إذ مقصوده من كل أحد أن يكدّر عليه آخرته، ويبعده من رحمه الله تعالى عند الموت، كما أبلس هو منه، ولسان حاله يقول: كما عثرثني عثر جميع خلقك، ولا يليق هذا إلا به وبمن كان على طريقه.

وأما المؤمن فإنه يحب للناس ما يحب لنفسه، فمن غلب شهوته، ولم تبالغ نفسه فيها فقد سدَّ عنه مداخل الشيطان، فقد صار عنه الشيطان مطروداً.

وروى أبو نعيم عن وُهَيب رحمه الله تعالى أنه قال: من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظله، ومن غلب حلمُه هواه فذلك العالم الغلاب (2).

فعليك بحسم مواد نفسك عنك جملة، واتهامها في كل الأحوال اقتداء بالكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام في قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 60).

ص: 281

{إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53].

ومن حسن نظر يوسف عليه السلام أنه اتهم نفسه، وأعرض عن ذكر الشيطان، وهو المسُول من حيث إن المقام مقام هضم النفس وعدم تزكيتها، وقال:{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، فنزَّه إخوته عن نسبَة ما فعلوه به إليهم على وجه الحقيقة، بل إلى نزغ الشيطان مبالغة في التلطف بأبيه والعفو عنهم، وإقامة العذر لهم مع ما في ذلك من الإشارة إلى قول أبيه عليهما السلام:{قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} [يوسف: 5]؛ كأنه موافق لأبيه في إقامة عذر إخوته في الجملة، وفي ذلك من كرم النفس ما لا يخفى.

وأنت أحق باتهام نفسك والنظر إلى عذر أخيك، فمهما رأيت لها هوى في شيء فإن وافق العلم فاتبعه من ناحية العبودية والامتثال لأمر الله تعالى وإظهار حكمته، لا من حيث إنه هوى وشهوة، وإن خالف العلم فاحذره؛ فإنه محل فرصة الشيطان واغتياله.

ثم ليكن من المقرر عندك أن الشيطان عدو محقق العداوة، شديد الحرص على اغتيالك، فينظر منك مثل هذه الفرصة، فيكون ذلك حامياً لك من كيده، كافياً لك من شره.

وليكن حذرك من الشيطان في حال طاعتك لله أكثر من حذرك منه في حال معصيتك، فقد قال بعض الحكماء: إن الشيطان يأتي ابن آدم من قبل المعاصي، فإن امتنع أتاه من وجه النصيحة حتى يلقيه في بدعة، فإن

ص: 282

أبى أمره بالتحرج والشدة حتى يحرِّم ما ليس بحرام، فإن أبى شكك في وضوئه وصلاته حتى يخرج عن العلم، فإن أبى خفَّفَ عليه أعمال البر حتى يراه الناس صابراً عفيفًا فَيميل قلبه إليهم، ويعجب بنفسه، وبه يهلكه، وعنده يشتد لَجاجه؛ فإنه آخر درجه، ويعلم أنه لو جاوزه أفلت منه إلى الجنة. نقله حجة الإسلام في "الإحياء"(1).

وروى الدينوري في "المجالسة" عن بكر بن خنيس رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ إبليس اللعين لعنه الله قال: ثلاث إذا وردت على واحدة منهن من ابن آدم فقد قدرت على حاجتي: من نسي ذنوبه، واستكثر عمله، وأعجب برأيه (2).

فالشيطان يعجبك إلى نفسك، ويعجب نفسك إليك، ويعجب طاعتك لله إليك، فيكون العجب منك - وإن كنت على طاعة - أبلغ من المعصية لو كنت على معصية لأنه يحبط الطاعة.

وفي الحديث "كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يُعْجَبَ بِرَأْيِهِ (3) ". رواه البيهقي عن مسروق مرسلاً، وأبو نعيم عنه عن ابن عمر متصلاً، ولفظه:"إِذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ"(4).

(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 45).

(2)

رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 454).

(3)

في "شعب الإيمان": "بعمله" بدل "برأيه".

(4)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(749) عن مسروق مرسلاً، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 174) لكن عن ابن عمرو رضي الله عنهما متصلاً. وقال: غريب.

ص: 283

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ تَكُوْنُوْا تُذْنبُوْنَ لَخَشِيْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكبَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ الْعُجْبَ الْعُجْبَ". رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"، والحاكم في "تاريخه" عن أنس رضي الله تعالى عنه (1).

ولو فتشتت لوجدت أن إعجاب الشيطان برأيه ونفسه هو الذي كان سببًا في طرده وعكسه.

وقد سبق أنه كان من الأخيار، فلما زكَّى نفسه وأعجب بها صار من الأشرار، فهو يود أن جميع بني آدم ضلوا كما ضل، وزلوا كما زل.

فاعلم أن الشيطان - وإن اطمأنت نفسك - لا والله لا يترك إرادتك بكل سوء حتى تفارق نفسك جسدك، بل هو عند موتك أشد إرادة لإضلالك منه قبل ذلك خشية أن تنفلت منه.

وفي الحديث: "إِنَّ الشَّيْطَانَ أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ مِنْ ابْنَ آدَمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَصْرَعِ" كما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الموت"، وأبو نعيم (2).

فلا تغتر بطمأنينة نفسك وإن تحققت الطمأنينة منها، ولو ساغ ذلك

(1) رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"(2/ 104)، وكذا البزار في "المسند" (6936). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 269): رواه البزار وإسناده جيد.

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 186) عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنهما، وعزاه السيوطي في "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور" (ص: 41) إلى ابن أبي الدنيا عن أبي حسين البرجمي رفعه.

ص: 284

لأحد لم يقل يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53].

بل ينبغي لكل أحد أن لا يأمن من مكر الله تعالى، ولا يترك الحذر من الشيطان؛ فإنه مترصد له في كل حال.

وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر" عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: قيل لداود عليه السلام: يا داود! احذر لا يأخذك الله على ذنب، فتلقاه ولا حجة لك.

وقال محمود الوراق رحمه الله تعالى: [من المتقارب]

أَخافُ عَلَى الْمُحْسِنِ الْمُتَّقِي

وَأَرْجُو لَدَى الْهَفَواتِ الْمُسِي

فَذَلِكَ خَوْفي عَلَى مُحْسِنٍ

فَكَيْفَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي

عَلى أَنَّ ذا الزَّيْغِ قَدْ يَسْتَقِيْمُ

وَيَسْتَأْنِفُ الزَّيْغَ قَلْبُ التَّقِي (1)

ولذلك أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7، 8].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوْبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِيْنِكَ".

قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله! ما أكثر ما تدعو

(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 123).

ص: 285

بهذا الدعاء؟

فقال: "لَيْسَ مِنْ قَلْب إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابعِ الرَّحْمَنِ؛ إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيْمَهُ أَقامَهُ، وإِذَا شَاءَ أَنْ يُزِيْغَهُ أَزَاغَهُ، أَما تَسْمَعِيْنَ قَوْلَهُ تَعَالَى:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] الآية؟ رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها (1).

وفي الباب عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها. روياه هما والترمذي (2).

وعن أنس رضي الله تعالى عنه. رواه هؤلاء، والبخاري في "الأدب المفرد"، وحسنه الترمذي (3).

وعن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه. رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الحاكم (4).

فإن أول ما يبدو من زيغ القلب ممن ظاهره الخير أن يرضى عن

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29199)، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 250) عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29197)، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 301)، والترمذي (3522) عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها.

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29196)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 112)، والترمذي (2140) وحسنه، والبخاري في "الأدب المفرد"(683)، وكذا ابن ماجه (3834) عن أنس رضي الله عنه.

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 182)، والنسائي في "السنن الكبرى"(7738)، وابن ماجه (199)، والحاكم في "المستدرك"(926)، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.

ص: 286

نفسه، ويزكيها، ويرى الناس دونها - وإن كان يعلم من نفسه الطاعة والسداد - فإنَّ للأعمال الصالحة آفات خفية، والخاتمة غيب، ولذلك قال الله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].

وقد روى ابن أبي شيبة، والبزار، وأبو يعلى، والبيهقي في "دلائل النبوة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ذكروا رجلًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا قوته في الجهاد، واجتهاده في العبادة، فإذا هم بالرجل مقبلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي لأَرَى فِيْ وَجْهِهِ سَفْعَةً مِنَ الشَّيْطَانِ"، فلما دنا سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هَلْ حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيْ الْقَوْمِ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْكَ"؟

قال: نعم الحديث (1).

وسفعة - بفتح المهملة، وإسكان الفاء -: السِّمة، والعلامة؛ من سفع الشيء: إذا علمه ووسمه، أو مِنْ سَفَعت وجهه السموم؛ أي: لفحته لَفحاً يسيراً، فأثَّرت فيه.

(1) تقدم تخريجه.

ص: 287

فَصْلٌ

أول مودة كانت المودة بين آدم والملائكة عليهم السلام، وأول عداوة كانت عداوة إبليس لعنه الله لآدم عليه السلام، ثم كان التوارث بعد ذلك، فورثت أولاد آدم عنه مودة الملائكة وعداوة الشيطان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الْوُدُّ وَالْعَدَاوَةُ يُتَوَارثانِ". رواه صاحب "الغيلانيات" عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أنه قال لرجل من العرب كان يقال له عفير: يا عفير! كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الود؟

قال رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الْوُدُّ يُتَوَارَثُ، وَالْعَدَاوَةُ تُتوَارَثُ"(1).

وهذه الوراثة لا تكون في كل بني آدم، بل في أخيارهم كما روى الطبراني في "الكبير" عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه: أنه سمع

(1) ورواه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 121)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(7/ 36)، والطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 189)، والحاكم في "المستدرك" (7343). قال ابن حجر في "الإصابة" (4/ 514): فيه عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وهو ضعيف.

ص: 288

النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوُدُّ الَّذِي يُتَوَارَثُ فِيْ أَهْلِ الإِسْلامِ"(1).

فأما الأشرار فإنهم على الضد من أخلاق أبيهم آدم، يعرضون عن مودة الملائكة عليهم السلام، ويوالون الشياطين، وإنما يكون ذلك بخذلان الله تعالى، كما يكون تخلقهم بأخلاق آدم عليه السلام بتوفيق الله تعالى لهم.

قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]؛ أي: تهُزُّهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات،

وتحبيب الشهوات إليهم، {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ}؛ أي: بالهلاك {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84].

فهؤلاء لمَّا وَالوا عدو أبيهم، وأصروا حتى كفروا، أُخرجوا من موالاة أبيهم، ودخلوا في ولاية عدوه، فكانوا مع من والوه ولحقوا به، وباينوا من عادوه وأبلسوا عنه.

وقد قيل: [من الطويل]

صَدِيْقُ صَدِيْقِي داخِلٌ فِي صَداقَتِي

صَدِيْقُ عَدُوِّي لَيْسَ لِي بِصَدِيْق

فحُشروا مع من والوه من الشياطين كمَا قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]؛ أي: قرناءهم، وأمثالهم من الشياطين.

ثم لما تمت العداوة بين آدم عليه السلام وبين الشيطان لعنه الله

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4419). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 280): فيه محمد بن عمر الواقدي، وهو متروك.

ص: 289

تعالى نشأت الحروب بينهما، ثم بينَ مَن بعد آدم وبين الشيطان، فكانت هذه الحروب بأمر من الله تعالى.

ألا ترى كيف يقول تعالى: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117].

ثم قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123]

وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

ثم كانت الدولة دائرة بين آدم وبين إبليس، وكانت الأيام بينهما مداولة، ثم كانت بين الناس وبين الشياطين مداولة؛ تارة تكون الدولة لأهل الحق، وتارة لأهل الباطل لحكمة ما {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

قال أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وعن آبائه: إن للحق دولة، وإن للباطل دولة، ومن دولة الحق أن إبليس أمر بالسجود لآدم، فأديل آدم على إبليس، وابتلي آدم بالشجرة فأكل منها، فأديل إبليس على آدم. رواه ابن المنذر (1).

قلت: ثم كانت النصرة آخراً لآدم حتى تلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وبقي إبليس في اللعنة إلى يوم الوقت المعلوم، ثم إلى الأبد.

(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 332).

ص: 290

وفي كتاب الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].

قال السدي: يوماً لكم، ويوماً عليكم.

وقال قتادة: والله لولا الدول ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن، ويبلى المؤمن بالكافر ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه. رواهما ابن جرير (1).

وقد علمت من ذلك أن دولة البر على الفاجر نصرة، ودولة الفاجر على المؤمن محنة وابتلاء، وتمحيص لذنوبه، ورفعة لدرجاته، وتأديب لنفسه، وتهذيب لخلقه، فيرجع إلى البراءة من الحول والقوة، والاعتراف بالعجز والضعف، وبذلك يكمل المؤمن، وتتم النعمة عليه، وينال الفوز والقربة.

(1) رواهما الطبري في "التفسير"(4/ 104 - 105).

ص: 291

فَصْلٌ

وعداوة النفس والشيطان للإنسان ثابتة بالكتاب والسنة.

فأما النصوص الدالة على عداوة الشيطان فهي من الشهرة والكثرة بحيث لا تكاد تخفى على مسلم، ومن أنكر عداوة الشيطان لله تعالى، ولبني آدم فهو كافر، ومن غفل عن عداوته يوشك أن يؤخذ على غِرَّة منه، فيكون يوم القيامة ممن يخاطبه الله تعالى بقوله:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 - 62].

وأما النصوص الدالة على عداوة النفس فكثيرة، لكن لا يتنبه لها إلا العارفون لأن عداوة النفس مما يشكل فهمه، فإنَّ حب الإنسان لنفسه سليقة وخليقة، فكيف يتصور أن تكون نفسه عدوَّة له، ومن تأمل قوله تعالى:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] عَلِمَ أن من أساء إلى أحد بحيث يجازى بإساءته ويعاقب عليها، فإنما يعود شر إساءته على نفسه، فما أساء إلَاّ إلى نفسه.

وكان علي بن أبي طالب يقول: ما أحسن أحد إلَّا إلى نفسه،

ص: 292

وما أساء إلا على نفسه، ثم يقرأ:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]؛ أي: فعليها.

وغاية ما يخشى من العدو أن يصل شره وإساءته إلى من يعاديه، وبذلك تحق العداوة وتستحكم، فالنفس قد بلغت غاية العداوة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَعْدَى أَعْدَائِكَ نَفْسُكَ الَّتِيْ بَيْنَ جَنْبَيِكَ". رواه البيهقي في "الزهد" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد ضعيف (1).

وروى فيه عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقوم قدموا من الجهاد: "قَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الأكبَرِ".

قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟

فقال: "جِهَادُ النَّفْسِ"(2).

وروى الترمذي، وابن حبان وصححاه، عن فَضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله قال: "الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ"(3).

(1) رواه البيهقي في "الزهد"(ص: 157). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 709): فيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان أحد الوضاعين.

(2)

رواه البيهقي في "الزهد"(ص: 165) وقال: هذا إسناد فيه ضعف. وكذا الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(13/ 523).

(3)

رواه الترمذي (1621) وصححه، وابن حبان في "صحيحه"(4706).

ص: 293

زاد ابن مردويه في روايته: "فِيْ طَاعَةِ اللهِ"(1).

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من النفس كما أمر بالاستعاذة من الشيطان، كما روى أبو داود، والترمذي وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت.

قال: "قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلَّ شَيْءِ وَمَلِيْكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَاّ أنتَ، أَعُوْذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نفسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِركِهِ".

قالَ: "قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وإِذَا أَخَذْتَ مَضْجعَكَ"(2).

وفي تقديم الاستعاذة من النفس على الاستعاذة من الشيطان إشعار بشدة عداوتها، واهتمام بالاستعاذة منها.

(1) ورواه بهذا اللفظ الإمام أحمد في "المسند"(6/ 22).

(2)

رواه أبو داود (2582)، والترمذي (3392) وصححه.

ص: 294