الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) بَابُ النَّهي عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَابْيلَ القَاتلِ لِأَخْيِهِ هَابِيْلَ
(1)
بَابُ النَّهي عَنِ التَّشَبُّهِ بِقَابْيلَ القَاتلِ لِأَخْيِهِ هَابِيْلَ
وهو أول من عَبَدَ النار، وأول من قتل النفس التي حرَّم الله تعالى بغير حق، وأول من عقَّ أبويه، وأول من قطع رحمه.
روى عبد بن حميد عن الحسن رحمه الله تعالى قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَلا إِنَّ ابْنَي آدَمَ ضَرَبَا لَكُمْ مَثَلاً؛ فَتَشَبَّهُوْا بِخَيْرِهِمَا، وَلا تَشَبَّهُوْا بِشَرِّهِمَا"(1).
وروى الشيخان، والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَاّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهِ؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ"(2).
قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ (27)} [المائدة: 27] الآيات.
رُوِيَ أن حواء كانت تلد في كل بطن غلامًا وجارية، فكان آدم عليه السلام إذا شبَّ أولادهُ زوَّجَ غلامَ هذا البطنِ جاريةَ بطنِ آخرَ،
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 59).
(2)
رواه البخاري (3157)، ومسلم (1677)، والترمذي (2673).
فلمَّا ولد قابيل وتوأمته، وهابيل وتوأمته، أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن يزوج قابيل توأمة هابيل، وهابيل توأمة قابيل، وكانت أحسن من توأمة هابيل، فسخِط قابيل ذلك، وقال: أنا أحق بأختي.
فقال له آدم عليه السلام: إنها لا تحل لك.
فأبى، وزعم أن الله تعالى لم يأمر أباه بذلك، وإنما أراد ذلك من رأيه.
فقال لهما آدم: قرَّبا قرباناً، وأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها.
وكان القربان إذا كان مقبولاً نزلت نارٌ بيضاءُ من السماء فأكلته، وإلا لم تنزل النار إليه، وأكلته الطير والسباع، وكان قابيل صاحب زرع فقرَّب صُبرة من طعام من رديء زرعه، وكان هابيل صاحب غنم فقرَّب أحسن كبش عنده، ووضعا قربانهما على الجبل، فتقبل من أحدهما قربانه وهو هابيل، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل، فغضب لرد قربانه، وأَضمر الحسد لأخيه حتى ذهب آدم عليه السلام إلى زيارة البيت الحرام، فجاء قابيل إلى هابيل وهو في غنمه، قال: لأقتلنك.
قال: ولم؟
قال: لأنَّ الله قبِل قربانك ولم يقبل قرباني، وتنكح أنت أختي الحسناء، وأنكح أختك الذميمة فتتحدث الناس أنك خير مني، ويفتخر ولدُك على ولدي.
فقال هابيل: ما ذنبي؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)} [المائدة: 27 - 29].
قال المفسرون: يعني: إن كان الإثم واقعاً لا محالة فأريد أن يكون منك لا مني (1).
وقال بعضهم: أراد بالإثم: العقوبة (2).
قلت: والذي أختاره أن هابيل أراد تخويف أخيه من القتل، وتهويل أمره عليه لينجو هو من القتل، ويَسْلَم أخوه من العار والإثم، ولم يُرِدْ وقوع العصيان من أخيه.
قال الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} [المائدة: 30].
قال ابن جريح، ومجاهد رحمهما الله تعالى: جهل كيف يقتل أخاه، فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره، فجعل يشدخ رأسه بين حجرين حتى قتله ليقتدي به قابيل، ففعل، وعلَّمَه القتل فتعلم. رواه ابن جرير (3).
قال ابن عباس: كان ذلك في ثورٍ؛ جبلٍ بمكة (4).
(1) انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 48)، و"تفسير البغوي"(2/ 28).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(6/ 193)، و"معاني القرآن" للنحاس (2/ 295)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 48).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(6/ 195).
(4)
انظر: "تفسير البغوي"(2/ 30)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 338).
وقال محمد بن جرير: عند عَقَبة حراء (1).
وقال جعفر الصادق: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم (2).
وروى الربعي في "فضائل الشام" عن علي رضي الله تعالى عنه، وعن كعب الأحبار، وعن عبد الله بن أبي المهاجر رحمهم الله تعالى: أنه بدمشق في جبل قاسيون (3).
وعن ابن أبي المهاجر: أنهما وضعا القربان في موضع مسجد دمشق على حجر خارج باب الساعات (4).
وروى ابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بِدِمَشْقَ جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ: قَاسِيُونُ؛ فِيْهِ قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ"(5).
وعن كعب قال: الدم الذي على قاسيون هو دم ابن آدم؛ يعني: هابيل عليه السلام (6).
قالوا: ولما قتله قعد عند رأسه يبكي، إذ أقبل غرابان فاقتتلا،
(1) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 338)، "تفسير القرطبي"(6/ 139).
(2)
انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 659)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 338).
(3)
انظر: "فضائل الشام" للربعي (ص: 16).
(4)
ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(64/ 5).
(5)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(2/ 329).
(6)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(64/ 7).
فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فدفنه، فتفطَّن قابيلُ لذلك، ووارى أخاه (1).
ومن هنا يعلم أن هابيل أول مدفون من بني آدم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} [المائدة: 31]؛ أي: على فقده لا على قتله، أو: لم يكن الندم يومئذ توبة.
قال قوم: لم يدر قابيل ما يصنع بأخيه حين قتله، فحمله حتى أروح، فبعث الله له الغراب.
قال مجاهد: حمله في جِراب، ومشى به يحمله على عاتقه مئة سنة (2).
والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه حمله سنة واحدة، كما رواه ابن جرير (3).
وقال قوم آخرون: كان يعلم الدفن، ولكن نبذه بالعراء استخفافًا به، ثم لمَّا رأى الغراب يواري الغراب علم من نفسه العجز والقطيعة، فقال ذلك (4).
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(6/ 139).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(6/ 198).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(6/ 196).
(4)
انظر: "تفسير القرطبي"(6/ 142).
ثم هرب قابيل إلى عَدَن من أرض اليمن، وامتزج بالوحش، وكان الوحش إذ ذاك يستأنس بالإنس، فلما مضت عليه أيام جاع ولم يجد طعاماً، فأخذ ظبية وشدخ رأسها بالحجر؛ قال ابن عباس: فكانت الموقوذة حراماً من عهد قابيل، وهرب الوحش يومئذ من الإنس لِمَا رأى من قابيل (1).
قلت: ومن هنا يعلم أن القتل للوحش منه، ومنه حصلت الوِحشة للبشر، ثم للوحش.
قالوا: وعرض إبليس لقابيل فقال له: إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبدها، فانصُب أنت ناراً تكون لك ولعَقِبك، فبنى بيت نار، وهو أول من عبد النار، ولذلك كان أول من ينساق إلى النار كما روي (2).
قال البغوي رحمه الله تعالى: قالوا: واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع، والطبول، والمزامير، والعيدان، والطنابير، وانهمَكوا في اللهو، وشرب الخمر، وعبادة النار، والزنا، والفواحش حتى أغرقهم الله بالطُّوفان أيامَ نوح عليه السلام، وبقي نسل شيث عليه السلام (3).
قلت: ويجمع بين ذلك وبين ما تقدم أن إبليس وضع المزامير،
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(6/ 142).
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 53)، "تفسير القرطبي"(6/ 139)،
(3)
انظر: "تفسير البغوي"(2/ 31).