الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يعود، فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:"إِنَّهُ عَائدٌ"، فرصدته الثانية والثالثة فصنع بي مثل ذلك، فقلت: يا عدو الله! عاهدتني مرتين وهذه الثالثة، فقال: إني ذو عيال، وما أتيتك إلا من نصيبين، ولو أصبت شيئاً دونه ما أتيتك، ولقد كنا في مدينتكم هذه حتى بعث صاحبكم، فلما نزلت عليه آيتان نفرنا منهما فوقعنا بنصيبين، ولا يقرآن في بيت إلا لم يلج فيه شيطان ثلاثاً، فإن خليت سبيلي علمتكهما، قلت: نعم، قال: آية الكرسي، وآخر سورة البقرة:{آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] إلى آخرها.
قال: فخليت سبيله، ثم غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"صَدَقَ وَهُوَ كَذُوْبٌ"(1).
ولأبي هريرة رضي الله تعالى عنه قصة مثل هذه القصة في حفظه لزكاة رمضان، وليس فيها ذكر آخر البقرة، وهي في "صحيح البخاري"، وغيره، وستأتي قريباً.
وفي الحديث دليل على أن من أخلاق الشيطان نقضَ العهود وكثرةَ الكذب، وهما من أخلاق المنافقين، وكيف لا وهو رأسهم.
99 - ومنها: الاعتذار بكثرة العيال وغلبة الدَّين عن الدخول في الحرام والشبهات
.
وإذا كان المتشبه بالشيطان في ذلك كاذباً في دعوى الدَّين
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 51). وانظر: "الخصائص الكبرى" للسيوطي (2/ 162).
والحاجة كان أقبح.
والاعتذار بمثل ذلك من أهل العلم والديانة أسمج، وهو دليل أنهم ممكور بهم، ولا يخلص من هذا المكر إلا من عصمه الله تعالى بقوة الإيمان وحسن التوكل، ولذلك حذره الأكابر حتى قال بشر الحافي رضي الله عنه: لو كنت أعول ديكاً خشيت أن أصبح شرطياً على جسر بغداد (1).
ولا تكاد في هذه الأزمنة تجد سالماً من هذه المحنة؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
روى البخاري، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعليَّ دينٌ وعيال، ولي حاجة شديدة، فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَا فَعَلَ أَسِيْرُكَ الْبَارِحَةَ؟ "
قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله.
قال: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُوْدُ".
(1) رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1/ 102). وانظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 396)، و "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 34).
فذكر الحديث في عوده ثلاث مرات، وقوله في الثانية: دعني أكلمْك كلمات ينفعك الله بهن.
قلت: ما هن؟
قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح.
وذكر الحديث، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه:"أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوْبٌ؛ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ أَبَا هُرَيْرَةَ؟ " قال: لا، قال:"ذَاكَ الشَّيْطَانُ"(1).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُوْدُ" إشارةٌ إلى أن الشيطان كان كاذباً في دعوى الدَّين والحاجة، وهذا لا شك أنه خلق شيطاني، والاعتذار به في تناول الحرام أقبح كما يعتذر القضاة والولاة والشّرَط عن تولية ذلك بكثرة العيال، ثم هم يتمرسون في محصول ذلك والاستكثار منه تمرس البعير بالشجرة، ويتوسعون في السُّحت توسع البَطِر في مال أبيه.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوْبٌ" تقريرٌ لما أجراه الله تعالى على لسان الشيطان لأبي هريرة من بيان فضل قراءة آية الكرسي كل ليلة، وفرار الشيطان منها، وحفظ قارئها ورعايته.
(1) رواه البخاري (2187).