الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَاتِمَة
تشتمل على فوائِد
روى المخلص عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسُبُّوْا الشَّيْطَانَ، وَتَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِنْ شَرِّهِ"(1).
وهذا النهي محمول على خلاف الأولى، وله وجهان:
الأول: أن الإنسان ينبغي له أن لا يعود لسانه إلا خيراً كما قيل: [من البسيط]
عَوِّدْ لِسانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ وَارْضَ بِهِ
…
إِنَّ اللِّسانَ لِما عَوَّدْتَ مُعْتادُ (2)
فلا يتعود الشر ولو بسبب الشيطان المسبوب بنص القرآن كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38].
والثاني: أن الشيطان لا ينقمع بالسب ولا باللعن، بل ربما يكون ذلك سبباً لتعاظمه كما في حديث والد أبي المليح (3).
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الذكر" عن مجاهد رحمه الله
(1) ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(7290).
(2)
انظر: "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان (ص: 51).
(3)
تقدم تخريجه.
تعالى قال: إذا لعنت الشيطان قال الشيطان: لعنت ملعَّناً.
وما اجتمع قوم قط فذكروه إلا حضرهم، وما شيء أقطع لظهره من: لا إله إلا الله (1).
وروى أبو نعيم عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: إن العبد إذا لعن الشيطان ضحك فقال: إنك لعنت ملعَّناً.
وإنما يخذل ظهره أن تتعوَّذ منه (2).
وروى ابن السمعاني في "أماليه" عن أبي الحسن الحبابري قال: كنت أصلي بالناس في بعض مساجد البصرة، وكنت أعزب أنام في المسجد، فصليت بالناس ليلة العشاء الآخرة، وأغلقت الباب، ووقفت أتنفل في المحراب شطر الليل، ثم جلست في المحراب أذكر الله تعالى وأستغفره لما سلف من الخطأ والذنوب، وألعن إبليس، إذ انشق المحراب فظهر علي شخص كريه المنظر، فقال لي: يا أبا الحسن! كم تلعنني منذ الليلة؟ ونحن ثلاثة تلعن واحداً وتترك اثنين.
فقلت: أما أنت يا لعين فقد عرفتك، فمن الاثنان؟
قال: نفسك، وهواك، ثم أنشأ يقول:[من الكامل]
أَهْمَلْتَ نَفْسَكَ فِي هَواكَ وَلُمْتَنِي
…
لَوْ كُنْتَ تنصِفُ لُمْتَ نفسَكَ دُوني
ومن مستظرفات الشعبي رحمه الله تعالى: أنه سُئِلَ عن أكل لحم الشيطان، فقال: نحن نرضى منه بالكفاف. نقله الماوردي في "أدب
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 205).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 75).
الدين والدنيا" (1).
وقال وهب رحمه الله تعالى: اتق الله، ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر (2).
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ إِبْلِيْسُ: يَا رَبِّ! وَعِزَّتِكَ لا أَزَالُ أَغْوِيْ بَنِي آدَمَ مَا كَانَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِيْ أَجْسَادهمْ، فَقَالَ اللهُ: وَعِزَّتِي لا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَروني"(3).
وروى البزار، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني أذنبت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَذْنبتَ فَاسْتَغْفِرِ الله فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ الله".
قال: ثم أعود فأذنب.
قال: "إِذَا أَذْنبتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ".
ثم عاد، فقال في الرابعة:"اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُوْنَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَحْسُوْرَ"(4).
وروى عبد الرزاق، وغيره عن ثابت رحمه الله تعالى قال: بلغني أن إبليس لمَّا نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] صاح إبليس بجنوده، وحثا على رأسه التراب، ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر، فقالوا: ما لك يا سيدنا؟
(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 393).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 154).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه البزار في "المسند"(6913)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7090).
قال: إنه نزلت في كتاب الله آية لا يضر بعدها أحداً من بني آدم ذنب.
قالوا: ما هي؟
فأخبرهم، قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا يتويون ولا يستغفرون، ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي منهم بذلك (1).
وروى أبو يعلى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِلا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَالاسْتِغْفَارِ، فَأكثِرُوْا مِنْهُمَا؛ فَإِنَّ إِبْلِيْسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوْبِ، وَأَهْلَكُوْنيْ بِلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَالاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالأَهْوَاءِ، فَيَحْسَبُوْنَ أنَّهُمْ مُهْتَدُّوْنَ"(2).
وروى الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ خَلاهُ الشَّيْطَانُ فِيْ الْعِبَادةِ، وَألقَى عَلَيْهِ الْخُشُوْعَ وَالْبُكَاءَ"(3).
وفيه إشارة أن الشيطان إنما تركه يتعبد، ولم يَحُل بينه وبين العبادة لأن مقصوده إلقاء ابن آدم في الشر، وكفى بالبدعة شراً، ولا تنفع العبادة مع البدعة، وإنما يعبث الشيطان بأهل السنة ليمنعهم من العبادة لأن
(1) عزاه في السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 326) إلى الحكيم الترمذي.
(2)
رواه أبو يعلى في "المعجم"(291)، وكذا ابن أبي عاصم في "السنة" (7).قال ابن كثير في "التفسير" (1/ 408): عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان.
(3)
ورواه الهروي في "ذم الكلام وأهله"(3/ 77).
العبادة مع السنة هي المعتدُّ بها.
وقد روى ابن ماجه عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَقْبَلُ اللهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَلاةً، وَلا صَوْمًا، وَلا صَدَقَةً، وَلا حَجًّا، وَلا عُمْرَةً، وَلا جِهَادًا، وَلا صَرْفًا وَلا عَدْلاً، يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِيْنِ"(1).
وروى ابن أبي الدنيا في "الذكر" عن ابن جريج رحمه الله تعالى قال: بلغني أن الكلمة التي تزجر الملائكة الشياطين بها: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وهذا أتم مما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد عن يحيى بن سليم الطائفي، وقد قدمناه في التشبه بالملائكة عليهم السلام.
وروى أبو نعيم عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قرأت في الحكمة: كما أن الريح إذا هاجت زلزلت الشجر كذلك إبليس سلطانه يزلزل البشر (2).
قلت: وإنما يزلزل سلطانه أولياءه لقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].
وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42] وقال تعالى {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
وفيه نكتة بديعة، وهي أن هذه الأمة لما كانت أكثر الأمم ذكراً،
(1) رواه ابن ماجه (49). وفي سنده محمد بن محصن العكاشي كذاب.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 381).
ولا شيء أقصم لظهر الشيطان من ذكر الرحمن، أنزل الله تعالى في كتابه الذي أنزله على نبيها صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]؛ أي: لا يقوم كيده ولا سلطانه مع سلطان الذكر، فظهر بذلك فضل هذه الأمة على الأمة التي نزل في كتابها أنَّ لإبليس سلطاناً يزلزل به البشر.
وأين ذلك من قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وهم المتقون الذين يفرون من الشيطان إلى الذكر كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
وروى أبو نعيم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: إن إبليس مُوثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك كان كل شر على الأرض بين اثنين من تحركه (1).
قلت: ومن هنا استحب للغضبان أن يتعوَّذ من الشيطان ليسكن غضبه؛ لأن حركة الشيطان تبطل بالذكر كما دلت الآية السابقة عليه، لأن الغضب من جملة طائف الشيطان.
وقد فسره ابن عباس بالغضب، كما رواه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم (2).
ورواه ابن أبي الدنيا في "ذم الغضب"، وغيره عن مجاهد رحمه الله تعالى (3).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1640).
(3)
ورواه الطبري في "التفسير"(9/ 158).
وفي "الصحيحين" عن سليمان بن صُرَد رضي الله تعالى عنه قال: استبَّ رجلان عند النبي، فجعل أحدهما يغضب ويحمرُّ وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي فقال:"إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ ذَا: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ"(1).
وروى ابن أبي الدنيا في "الذكر" عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى قال: إذا اجتمع قوم على ذكر الله عز وجل أخرج الشيطان وشيعته على باب المسجد يقول لهم: انظروا هل قاموا بعد، فيضرب كتده، فيقولون له: ما لك تضرب كتدك؟
فيقول: أخشى عليهم الرحمة فلا يعذبون أبداً.
والكَتَد - بفتحتين، وتاؤه مثناة فوقية -: الكاهل، وهو مقدَّم أعلى الظهر مما يلي العنق.
وروى ابن أبي الدنيا في "المكائد" عن ثابت رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّ إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال له يحيى عليه السلام: يا إبليس! ما هذه المعاليق التي أرى عليك؟
قال: هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم.
قال: فهل لي فيها شيء؟
قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة والذكر.
(1) رواه البخاري (4108)، ومسلم (2610).
قال: هل غير هذا؟
قال: لا.
قال: لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبداً.
فقال إبليس: ولله عليَّ أن لا أنصح مسلما أبداً (1).
قلت: وهذا من باب تسخير إبليس للأنبياء عليهم السلام بحيث تأتيهم النصيحة والحكمة من غير أهلها، وقد اتفق مثل ذلك لنوح وموسى عليهما السلام كما سبق، وكذلك قد يسخر للصالحين.
وقوله: ولله عليَّ أن لا أنصح مسلما أبداً: هذا خلقه أبدًا؛ فإنه أغش الخلق للخلق، كما قال مُطرِّف رحمه الله تعالى (2).
وربما وقع مثل ذلك من كثير من الناس أنه ينصح آخر فيغضب منه، فيقول: ما بقيت أنصح بعدك أحداً، ونحو هذا الكلام، فهو من أخلاق الشيطان كما علمت.
وكذلك يضرب المثل فيقال: فلان لا ينصح مسلماً؛ بمعنى أنه على خلق شيطاني.
وروى ابن أبي الدنيا عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: حدثني بعض أشياخنا: أن إبليس جاء إلى موسى عليه السلام وهو يناجي ربه عز وجل، فقال له الملك: ويلك ما ترجو منه وهو على هذه الحالة؟
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه، لكن لفظه:"أغش عباد الله لعباد الله الشياطين".
قال: أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة (1).
فإذا كان طمعه في موسى عليه السلام وهو في حضرة ربه تعالى، فكيف طمعه فيمن دونه.
وقد روى أبو نعيم عن أبي محمد حبيب الفارسي رحمه الله تعالى قال: والله إنَّ الشيطان ليلعب بالقُرَّاء كما تلعب الصبيان بالجوز، ولو أن الله تعالى دعاني يوم القيامة فقال: يا حبيب! فقلت: لبيك، فقال: جئتني بصلاة يوم، أو صوم يوم، أو ركعة، أو تسبيحة اتقيت عليها من إبليس أن لا يكون طعن فيها طعنة فأفسدها، ما استطعت أن أقول: نعم أيْ ربِّ (2).
وروى أبو نعيم عن أبي الجوزاء رحمه الله تعالى قال: والذي نفسي بيده إن الشيطان ليأزم بالقلب حتى ما يستطيع صاحبه يذكر الله، ألا ترونهم في المجالس يأتي على أحدهم عامة نومه لا يذكر الله عز وجل إلا حالفاً، والذي نفس أبي الجوزاء بيده ما له في القلب طرد إلا: لا إله إلا الله، ثم قرأ:{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46](3).
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"(ص: 72)، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(61/ 124).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 153).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 80)، وعنده:"ليلزم" بدل "ليأزم".
وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الَّذِي يَخْفِضُ وَيرْفَعُ قَبْلَ الإِمَامِ إنَّمَا نَاصِيتُهُ بِيَدِ شَيْطَانٍ"(1).
ومن لطائف الآثار: ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "التقوى" عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً أسمعَهُ كلاماً، فقال له عمر: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، ثم عفا عنه (2).
وقوله: يستفزني؛ أي: يستخفني.
ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]؛ أي: بالغناء، والمزامير، واللهو، والباطل كما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الملاهي"، والمفسرون (3).
والغضب: لحظ النفس من الباطل وما يجر إليه، فمن أدركه الحلم والعفو عند الغضب، والقدرة على الانتقام فقد دحر عنه الشيطان، وكان له العز والسلطان، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا زَادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوِ إِلَاّ عِزًّا"(4).
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7692)، ورواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 92) موقوفاً.
(2)
ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(8324).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(34) عن مجاهد.
(4)
تقدم تخريجه.
وروى أبو نعيم عن أبي حازم رحمه الله تعالى قال: وما إبليس؟
لقد عصى فما ضر، ولقد أطيع فما نفع (1).
وقد قلت: [من السريع]
مَنْ يُطِعِ الشَّيْطانَ لا يَنْتَفِعْ
…
بِطاعَةِ الشَّيْطانِ مَهْما يُطِعْ
وَمَنْ عَصَى الشَّيْطانَ ما ضَرَّهُ
…
عِصْيانُهُ لَكِنَّهُ يَنْتَفِعْ
فَلا تُطِعْ إِبْلِيْسَ فِي أَمْرهِ
…
وَأَطِعِ اللهَ وَلا تَبْتَدِعْ
روى ابن أبي الدنيا في كتاب "التقوى" عن أبي حازم رحمه الله تعالى أنه قيل له: إنك لمتشدد.
قال: وما لي لا أتشدد وقد ترصَّدني أربعة عشر عدواً؟
أما أربعة منها: فشيطان يضلني، ومؤمن يحسدني، وكافر يقاتلني، ومنافق يبغضني.
وأما العشَرة منها، فالجوع، والعطش، والحر، والبرد، والعري، والهوى، والمرض، والفقر، والموت، والنار، ولا أطيقهن إلا بسلاح تام، ولا أجد لهن سلاحاً أفضل من التقوى (2).
وروى أبو بكر بن لال في كتاب "مكارم الأخلاق" بسند ضعيف، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ بَيْنَ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 245).
(2)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 231).
خَمْسِ شَدَائِدَ: مُؤْمِنٍ يَحْسُدُهُ، وَمُنَافِقٍ يُبْغِضُهُ، وَكَافِرٍ يُقَاتِلُهُ، وَشَيْطَانٍ يُضِلُّهُ، وَنفسٍ تُنَازِعُهُ" (1).
وروى أبو نعيم عن طلحة بن مُصرِّف رحمه الله تعالى: المؤمن يجلب عليه إبليس من الشياطين "أكثر من ربيعة ومضر (2).
وروى ابن أبي حاتم في تفسير قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]،
عن سفيان رحمه الله تعالى قال: باض إبليس خمس بيضات، فذريته من ذاك (3).
قال: وبلغني أنه يجتمع منهم على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر (4).
وروى ابن مردويه، وابن عساكر، وغيرهما عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدث الناس ويفتيهم، وولده وأهل بيته جلوس في جانب يتحدثون، فقيل له: يا أبا الدرداء! ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟
(1) ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(6548). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 741): رواه أبو بكر بن لال في "مكارم الأخلاق" من حديث أنس بسند ضعيف.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 19).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 404).
ورواه أبو الشيخ في "العظمة"(5/ 1682) عن مجاهد.
(4)
تقدم تخريجه.
قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِيْ الأَنْبِيَاءِ وَأَشَدَّهُمْ عَلَيْهِمُ الأَقْرَبُوْنَ".
وذلك فيما أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] إلى آخر الآية.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِيْ الْعَالِمِ أَهْلُهُ حَتَّى يُفَارِقَهُمْ، وإنَّهُ لَيَشْفَعُ فِيْ أَهْلِ دارهِ وَجِيْرَانِهِ، فَإِذَا مَاتَ جَلا عَلَيهم مِنْ مَرَدَةِ الشَّيَاطِيْنِ أكْثَرُ مِنْ عَدَدِ رَبِيْعَةَ وَمُضَرَ قَدْ كَانُوْا مُشْتَغِلِيْنَ بِهِ؛ فَأكثِرُوا التَّعَوُّذَ بِاللهِ مِنْهُمْ"(1).
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن خيثمة رحمه الله تعالى قال: إن الله تعالى ليطرد بالرجل الشيطان من الآدر؛ أي: الدور (2).
وذلك بطاعة الله تعالى وكثرة ذكره، أو بالصمت والإعراض عنه مع الاشتغال بالقلب بالله تعالى، فيحوم الشيطان فلا يجد له في قلب ولي الله تعالى مساغاً، فيخسأ عنه وعن من في جيرته وحمايته ببركة صمته.
وروى أبو يعلى عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ؛ فإنَّهَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ؛
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(37/ 291).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 112).
فَإِنَّهُ رُهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِيْنَ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ وَتلاوَةِ كِتَابِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ نُوْرٌ لَكَ فِي الأَرْضِ وَذِكْرٌ لَكَ فِيْ السَّمَاءِ، وَاخْزُنْ لِسَانَكَ إِلا مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّكَ بِذلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَان" (1).
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أُوْصِيْكَ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ.
وَعَلَيْكَ بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللهِ؛ فَإنَّهُ ذِكْرٌ لَهُ فِيْ السَّمَاءِ وَنُوْرٌ لَكَ فِيْ الأَرْضِ.
وَعَلَيْكَ بِطُوْلِ الصَّمْتِ إِلَاّ مِنْ خَيْرٍ؛ فَإنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِيْنِكَ.
إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضحِكِ؛ فَإِنَّهُ يُمِيْتُ الْقَلْبَ وَيُذْهبُ بِنُوْرِ الْوَجْهِ.
عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ؛ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِيْ.
أَحِبَّ الْمَسَاكِيْنِ وَجَالِسْهُمْ.
انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ وَلا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ؛ فَإِنِّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرِيَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكَ.
صِلْ قَرَابَتَكَ وإِنْ قَطَعُوْكَ.
قُلِ الحَقَّ وإِنْ كَانَ مُرًّا.
(1) رواه أبو يعلى في "المسند"(1000)، وكذا الطبراني في "المعجم الصغير" (949). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 215): فيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وقد وثق.
لا تَخَفْ فِيْ اللهِ لَوْمَةَ لائِمْ.
ليحجْزكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِكَ، وَلا تَجِدْ عَلَيْهِمْ فِيْمَا يَأْتِيْ.
وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ يَكُوْنَ فِيْهِ ثَلاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا يَجْهَلُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَسْتَحْيِيَ لَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيْهِ، ويُؤْذِيَ جَلِيْسَهُ.
يَا أَبَا ذرٍ! لا عَقْلَ كَالتَّدْبِيْرِ، وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ" (1).
وإنما ذكرت هذا الحديث بطوله هنا لأنه من غرر الفوائد.
وروى أبو نعيم عن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: إنما مثل الشياطين في كثرتهم كمثل رجل دخل زرعاً فيه جراد كثير، وكلما وضع فيه رجله تطاير الجراد يميناً وشمالاً، ولولا أن الله عز وجل غض البصر عنهم ما رئي شيء إلا وعليه شيطان (2).
وعن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: إن رجلاً من بني إسرائيل صام سبعين أسبوعاً يفطر في كل سبعة أيام يوماً، وهو يسأل الله عز وجل أن يريه كيف يَغوي الشيطان الناس، فلما أن طال ذلك ولم يجب، قال: لو أقبلت على خطيئتي، وعلى ذنبي وما بيني وبين ربي عز وجل لكان خيراً لي من هذا الأمر الذي أطلب، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً فقال: إن الله عز وجل
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1651)، ورواه ابن حبان في "صحيحه"(361) بأطول منه.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 75).
أرسلني إليك وهو يقول لك: إن كلامك هذا الذي تكلمت به أعجب إلي مما مضى من عبادتك، وقد فُتِحَ بصرك.
قال: فنظر، فإذا هو أحبولة لإبليس قد أحاطت بالأرض، وإذا ليس أحد من بني آدم إلا وحوله شياطين مثل الذباب، فقال: أي رب! من ينجو من هذا؟
قال: الليِّن الوادع (1).
وعنه أنه قال: وجدت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه عليهم السلام أن الشيطان لا يكابد شيئاً أشد من مؤمن عاقل.
وقال وهب أيضا: لَإزالة الجبال صخرة صخرة أيسر على الشيطان من مكابدة مؤمن عاقل (2).
وعنه قال: قال لقمان لابنه عليهما السلام: يا بني! اعقل عن الله عز وجل؛ فإن أعقل الناس عن الله عز وجل؛ أحسنهم عقلاً، وإن الشيطان ليفر من العاقل وما يستطيع أن يكابده (3).
والمراد أن يكون عقله معروفاً في الورع، والزهد، والعزوف عن الدنيا؛ إذ هو العقل النافع كما يشير إليه كلام لقمان.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 32). وعنده: "الورع اللين" بدل "اللين الوادع".
(2)
رواهما أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 26).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 35).
ومن ثم قال أكثر العلماء: لو أوصى بثُلث ماله لأعقل الناس صُرِفَ إلى الزُّهاد (1).
وليس المراد بالعقل الدَّهاء، والتدقيق في أمور الدنيا؛ فإنه من أمر الشيطان كما روى الدينوري في "المجالسة" عن مضاء: أنه قال: قال بعض الحكماء: العَقِلُ غيرُ الورعِ عَنِ الذنوبِ خازنُ الشيطان (2).
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إنَّ من فقه الرجل أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه الرجل أن يعلم أمزداد هو أم منتقص، وإنَّ من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه (3).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عامر بن حبيب الأحموسي قال: إن العبد ليعمل العمل سراً ما يطلع عليه أحد، فيطلب إبليس سنة، فإن أدركه وإلا تركه، يقول له: حدث بعملك؛ فإنه قد رفع إلى الله وليس بناقصك شيئاً، فإن حدث به مُحِي عنه أجر السر، وحُطَّ عنه أجر العلانية، ثم يطلب سنة، فإن أدركه وإلا تركه، يقول له: حدث، قد رفع إلى الله وليس بناقصك ذلك شيئاً، فإن حدث به مُحي أجر العلانية، وكتب رياء.
وروى ابن جهضم عن صالح المُرِّي رحمه الله تعالى قال:
(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 14). وقد نسبه للإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 398).
(3)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(5/ 945).
ما عرف الله حق معرفته من آثر طاعة الشيطان على طاعته، وما عرف الآخرة حق معرفتها من آثر الدنيا عليها.
وقال ابن أبي الدنيا في "الصمت": بلغني عن الحسن بن حي رحمه الله تعالى قال: المزاح استدراج من الشيطان، واختداع من الهوى (1).
ونقله الماوردي في "أدبه" عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أجده في أصول الحديث (2).
وروى ابن أبي الدنيا عن مسلم بن يَسار رحمه الله تعالى قال: إيَّاك والمِراء؛ فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته (3).
وروى الدينوري في "المجالسة" عن بكر بن خُنيس رحمه الله تعالى قال: بلغني أن إبليس اللعين قال: ثلاث إذا قدرت على واحدة منهن من ابن آدم فقد قدرت على حالتي: من نسي ذُنوبه، واستكثر عمله، وعجب برأيه (4).
وروى أبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت إسحاق ابن خالد يقول: ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول ابن آدم: ليت
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 212).
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 391).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 100).
(4)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 454).
شعري بما يختم لي؟
قال: عندها ييأس منه إبليس، ويقول: متى يعجب هذا بعمله؟
قال: فحدثت به مضاء بن عيسى، فقال: يا أحمد! عند الخاتمة قطع بالقوم.
قال: فحدثت به أبا عبد الله النباجي، فقال: واخطراه (1).
وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول: لا إله إلا الله، ولا شيء يضاعف ثوابه من الكلام مثل: الحمد لله (2).
وعن عكرمة رحمه الله تعالى قال: إن الشيطان ليزيِّن للعبد الذنب حتى يكسبه، فإذا كسبه تبرَّأَ منه، فلا يزال العبد يبكي ويتضرع إلى الله عز وجل، ويستكين حتى يغفر له ذلك الذنب وما قبله، فيندم الشيطان على ذلك الذنب حين أكسبه إياه؛ غفر له الذنب وما قبله (3).
وروى ابن جهضم عن سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: أنه سُئِلَ: أي شيء أشد على إبليس؟
قال: إشارة قلوب العارفين بالله تعالى (4).
وروى ابن أبي شيبة عن ثابت البناني رحمه الله تعالى: أنَّ أبا تامر
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 311). وعنده: "الساجي" بدل "النباحي".
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 16).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 334).
(4)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 200).
رحمه الله تعالى كان رجلاً عابداً، فنام ذات ليلة قبل أن يصلي العشاء، فأتاه ملكان أو رجلان في منامه، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للذي عند رجليه: الصلاة قبل النوم ترضي الرحمن، وتسخط الشيطان.
وقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: إن النوم قبل الصلاة يرضي الشيطان، ويسخط الرحمن (1).
قلت: وهذا من باب العتاب في النوم.
وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدهِ خَيْرًا عَاتَبَهُ فِيْ مَنَامِه". رواه الديلمي (2).
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن عطاء الخراساني رحمه الله تعالى قال: نبي من الأنبياء عليهم السلام بساحل، فإذا هو برجل يصطاد حيتاناً، فقال: بسم الله، فألقى شبكته، فلم يخرج فيها حوت واحد، ثم بآخر فقال: باسم الشيطان، فخرج فيها من الحيتان كثير حتى جعل الرجل يتقاعس من كثرتها، فقال النبي عليه السلام: رَبِّ! هذا الذي دعاك ولم يشرك بك شيئاً ابتليته بأن لم يخرج في شبكته شيء، وهذا الذي دعا غيرك ابتليته فخرج في شبكته ما جعل يتقاعس تقاعساً من كثرتها، وقد علمت أن كل ذلك بيدك، فأنى هذا؟
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35515).
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(943). وسنده ضعيف.
فقال: اكشفوا لعبدي عن منزلتهما.
فلما رأى ما أعدَّ الله لهذا من الكرامة، وما أعدَّ لهذا من الهوان، قال: رضيت يا رب (1).
وروى الإمام أحمد، والطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَاّ بِبَابِهِ رَايَتَانِ: رَايَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، وَرَايَةٌ بِيَدِ شَيْطَانٍ، فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبُّ اللهُ اتَّبَعَهُ المَلَكُ بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسْخِطُ اللهَ عز وجل اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشِّيْطَانِ حَتَّى يَرْجِعَ"(2).
وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيْتَ، وَكُفِيْتَ، وَوُقِيْتَ، فيتنحَّى لَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُوْلُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ كُفِيَ، وَهُدِيَ، وَوُقِيَ؟ "(3).
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 220).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 323)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4786). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 132): فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وثقه مالك، وضعفه أحمد ويحيى.
(3)
رواه أبو داود (5095)، وكذا الترمذي (3426) وصححه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُنْضِي - أَيْ: يُهْزِلُ - شَيْطَانهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بَعِيْرَهُ فِيْ السَّفَرِ"(1).
وروى ابن أبي الدنيا عنه رضي الله عنه قال: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر، فإذا شيطان الكافر سمين دهين كاسي، وإذا شيطان المؤمن هزيل أشعث عاري، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: ما لك؟
قال: أنا مع رجل إذا أكل سمَّى فأظل جائعاً، وإذا شرب سمَّى فأظل عطشان، وإذا ادهن سمَّى فأظل شعثاً، وإذا لبس سمى فأظل عرياناً.
قال شيطان الكافر: لكني مع رجل لا يفعل شيئاً مما ذكرته، فأنا أشاركه في طعامه وشرابه ولباسه (2).
وعن قيس بن الحجاج رحمه الله تعالى: قال لي شيطاني: دخلت فيك وأنا مثل الجزور، وأنا الآن مثل العصفور.
فقلت: ولم ذاك؟
قال تذيبني بكتاب الله (3).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 380). وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(2)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 37)، وقد تقدم نحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"(ص: 40).
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله تعالى، فبغاك وبغاك، فرآك مداوماً مَلَّكَ ورفضك، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك (1).
وروى أبو نعيم عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: ليس من الآدميين أحد إلا معه شيطان موكَّل به، أما الكافر فيأكل من طعامه، ويشرب معه من شرابه، وينام معه على فراشه، وأما المؤمن فهو مجانب له ينتظر متى يصيب منه غفلة أو غِرة، فيثِبُ إليه، وأحب الآدميين إلى الشيطان النؤوم الأكول (2).
وعن حسان بن عطية رحمه الله تعالى قال: قيل لعثمان رضي الله تعالى عنه: ما يمنعك أن تكون مثل عمر رضي الله تعالى عنه؟
قال: أتجعلوني مثل رجل أوثقت الشياطين في خلافته حتى انقرضت (3).
وروى الطبراني بسند صحيح، عن وحشي بن حرب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لحاجته من الليل وترك باب البيت مفتوحاً، ثم رجع فوجد إبليس قائما في وسط البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اخْسَأْ يَا خَبِيْثُ مِنْ بَيْتِي".
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 7).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 58).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 75).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ بُيُوْتكُمْ بِاللَّيْلِ فَأَغْلِقُوا أَبْوَابَهَا"(1).
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن يزيد رحمه الله تعالى قال: إن للشيطان قارورةً فيها نفوخ، فإذا قاموا إلى الصلاة أنشقهموها، فأمروا عند ذلك بالاستنثار (2).
وعن إبراهيم - يعني: النخعي رحمه الله تعالى - قال: مسح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين، فمن ترك ذلك رغبة فإنما هو من الشيطان (3).
وروى الإمام أحمد بسند جيد، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَاّ اللَّبَنَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بَيْنَ الرَّغْوَةِ وَالضِّرعِ"(4).
والمعنى أنَّ الشيطان يُحِب الموضع الذي يكثر فيه اللبن، وأكثر ما يكون في البادية، فالمراد التنفير من سكنى البادية؛ إذ تكثر فيها الألبان خشية من الشيطان كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال:
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 137). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 112): رجاله ثقات.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1885).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 175). لكن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هَلاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ".
قالَوا: يا رسولَ اللهِ ما الكِتابُ واللَّبن؟
قالَ: "يتَعَلَّمُوْنَ الْقُرآنَ فَيتأَوَّلُوْنهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عز وجل، وَيُحِبُّوْنَ اللَّبَنَ فَيَتْركُوْنَ الْجَمَاعَاتِ وَيُبْدُوْنَ". رواه الإمام أحمد بإسناد حسن (1).
وقوله: "يبدون"؛ أي: يسكنون البادية كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَا جَفَا". رواه الإمام أحمد عن البراء، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم (2).
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولفظه:"مَنْ سَكَنَ الْبادِيَةَ جَفا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمنْ أَتى السُّلْطانَ افْتُتِنَ"(3).
على أن هذه الخصال الثلاث هي مجامع مطلوبات الشياطين: الجفاء، والغفلة، والفتنة.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيَكُوْنُ قَوْمٌ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِيْ يَقْرَؤُوْنَ الْقُرآنَ وَيَتَفَقَّهُوْنَ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 155). وفي إسناده ابن لهيعة، ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 295).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 440) عن البراء رضي الله عنه.
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(11030) عن ابن عباس رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود (2859)، والترمذي (2256) وصححه، والنسائي (4309).
فِيْ الدِّيْنِ، يَأتِيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُوْلُ لَهُمْ: لَوْ أتيْتُم السُّلْطَانَ فَأَصْلَحَ مِنْ دُنْيَاكُمْ، وَاعْتَزَلتمُوْهُ بِدِيْنِكُم، وَلا يَكُوْنُ ذَلِكَ كَمَا لا يُجْتَنَى مِنَ الْقَتَادِ إِلَاّ الشَّوْك، لا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِم إِلَّا الْخَطَايَا" (1).
وروى الإمام أحمد، والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ مَوْلُوْدُ يُوْلَدُ إِلَا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَتِهِ، إِلَاّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأمَّهُ".
قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36](2).
وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن عساكر عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: لما ولد عيسى عليه السلام أتت الشياطين - يعني: إلى إبليس - فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها.
فقال: هذا حدث؟ مكانكم، فطار حتى جاب خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم جاب البحار فلم يقدر على شيء، ثم طار أيضاً فوجد عيسى عليه السلام قد ولد، وإذا الملائكة عليهم السلام قد حفت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها إلا هذا، فايئسوا أن تعبد الأصنام
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 233)، والبخاري (3248)، ومسلم (2366).
بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قِبَل الحقد والعجلة (1).
وروى أبو نعيم عنه قال: إن إبليس قال لعيسى عليه السلام حين وضعه على بيت المقدس: زعمت أنك تحيي الموتى، فإن كنت كذلك فادع الله أن يردَّ هذا الجبل خبزاً.
فقال له عيسى: أكُل الناس يعيشون من الخبز؟
قال له إبليس: فإن كنت كما تقول فثب من هذا المكان؛ فإن الملائكة تتلقاك.
قال: إن ربي أمرني أن لا أجرب نفسي، فلا أدري هل يسلمني أم لا.
وعن طاوس، والزهري رحمهما الله تعالى قالا: لقي عيسى بن مريم عليهما السلام إبليس فقال: أما علمت أنه لا يصيبك إلا ما قدر لك؟
قال: نعم.
قال: فأوف نذوره، هذا الجبل فَتَرَدَّ منه، فانظر أتعيش أم لا؟
قال طاوس في حديثه: قال: علمت أن الله تعالى قال: لا تجربني عبدي؛ فإني أفعل ما شئت.
وقال الزهريّ: قال: إن العبد لا يبتلي ربَّه، ولكنَّ الله تعالى يبتلي عبدَه.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(3/ 240)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(47/ 356).
قال: فخَصَمهُ (1).
وروى الحكيم الترمذي في "النوادر"، وابن أبي الدنيا في "المكائد"، وأبو الشيخ في "العظمة"، وابن حبان في "الضعفاء"، وابن مردويه في "التفسير" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَلَقَ اللهُ الْجِنَّ ثَلاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ حَيَّاتٌ، وَعَقَارِبُ، وَخَشَاشُ الأَرْضِ، وَصِنْفٌ كَالرِّيْحِ فِيْ الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، وَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَ ثَلاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كَالْبَهَائِمِ؛ قالَ اللهُ تَعَالَى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] الآية، وَصنْفٌ أَجْسَادهُمْ أَجْسَادُ يَني آدَمَ وَأَرْوَاحُهُمْ أَرْوَاحُ الشَيَاطِيْنِ، وَصِنْفٌ فِيْ ظِلَّ اللهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَاّ ظِلُّهُ"(2).
وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي عثمان النهدي رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ الْعِفْرِيْتُ النَّفْرِيْتُ ائَذِي لَمْ يَرْزَأْ فِيْ مَالٍ وَلا وَلَدٍ"(3).
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن الحجاج بن الفرافضة رحمه الله تعالى قال: بلغنا أن في بعض الكتب: من عمل بغير مشورة فذاك
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 12).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الهواتف"(ص: 99)، وأبو الشيخ في "العظمة"(5/ 1693)، وابن حبان في "المجروحين"(3/ 107).
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(9910).
باطل يتعنى، ومن لم ينتصر من ظالمه بيد ولا لسان ولا عقد فذلك علمه يقين، ومن استغفر لظالمه فقد هزم الشيطان (1).
وعن أبي رزين رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى الفضيل بن بزوان رحمه الله تعالى فقال: إن فلاناً يقع فيك، فقال: لأغيظن مَنْ أمره؛ يغفر الله لي وله.
قيل: مَنْ أمره؟
قال: الشيطان (2).
وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، عن سَمُرة ابن جُندب رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيْسُ وَكَانَ لا يَعِيْشُ لَهَا، فَقَال: سَمِّيْهِ عَبْدَ الْحَرْثِ؛ فَإنَّهُ يَعِيْشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَرْثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْي الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ"(3).
وروى ابن جرير عن السدي رحمه الله تعالى: أن إبليس كان اسمه قبل أن يلعن: الحرث (4).
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن اسمه كان: عزازيل؛ قال
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 234)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 109).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 234).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه الطبري في "التفسير"(1/ 227).
بعضهم: وهو بمعنى الحرث (1).
وروى هو وابن المنذر، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: أن إبليس كان اسمه في الملائكة: الحرث (2).
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنَّما سمِّي إبليس لأنه أُبلِسَ من رحمة الله كلها (3).
وروى ابن أبي حاتم عن السدي رحمه الله تعالى قال: الإبلاس: تغيُّر الوجه، وإنما سُمِّي إبليس لأن الله تعالى نكَّس وجهَه وغيَّره (4).
ورويا عن ابن زيد قال: المبلس: المجهود المكروب الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه (5).
وإبليس إن قيل: إنه عربي، فاشتقاقه من البَلَس - بالتحريك - مصدر: بَلِس كفرح، فهو بلس ككشف، وهو المبلس الساكت على ما في نفسه، والبلس على وزن المصدر: مَن لا خير عنده، أو من عنده إبلاس وشر.
وحقيقة الإبلاس التحير والتغير، والكآبة والحزن، ومنه قول
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(1/ 84)، وكذا الطبري في "التفسير"(15/ 259).
(2)
ورواه الطبري في "التفسير"(9/ 145).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(1/ 227).
(4)
انظز: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 269).
(5)
رواه الطبري في "التفسير"(7/ 195)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1292)
رُؤبة: [من السريع]
وَحَضَرَتْ يَوْمَ الْخَمِيْسِ الأَحْماسْ .... وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وإِبْلاسْ (1)
وقال أبوه العجاج: [من الرجز]
يا صاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مكْرسا
…
قالَ نَعَم أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسا (2)
وروى الإمام أحمد عن مسلم بن عبد الله الأزدي قال: جاء عبد الله ابن قُرط الأزدي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا اسْمُكَ؟ "
قال: شيطان بن قرط:
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ قُرْطٍ"(3).
وروى الطبراني بسند صحيح، عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأتي بثوب من القَصَّار وعليه مكتوب: شيطان، فأُمِرَ به فَمُحِيَ، وقال:"أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ"(4).
وروى بسند فيه متروك، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن أبيه
(1) انظر: "تفسير الطبري"(1/ 227).، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 30).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(1/ 227)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 30).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 350)، وكذا ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(8/ 187) واللفظ له.
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 129). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 55): رواه الطبراني مرفوعاً وموقوفاً، ورجالهما رجال الصحيح، إلا أن الطبراني صحح الوقف على الرفع.
رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي: "هَذَا ابْنُكَ؟ "
قال: نعم.
قال: "مَا اسْمُهُ؟ "
قال: الحباب.
قال: "لا تُسَمِّهِ الْحُبَابَ؛ فَإِنَّ الْحُبَابَ شَيْطَانٌ، وَلَكِنْ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ"(1).
وقال مسروق: سألني عمر رضي الله عنه: مسروق ابن من؟
قلت: مسروق بن الأجدع.
قال: الأجدع اسم شيطان، قال: مسروق بن الأجدع (2).
وفي ذلك إشارة إلى كراهة التسمية بأسماء الشياطين.
قال البغوي: وقال عبد الرحمن بن أبي نُعم: يكره أن يسمى الرجل مُرَّة، ويكتنى بأبي مُرَّة. قال: وجاء في الحديث "شَرُّ الأَسْمَاءِ حَرْثٌ وَمُرَّةُ"(3). انتهى (4).
(1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 122): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه سويد بن عبد العزيز، وهو ضعيف.
(2)
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال"(1/ 144)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 422)، والحاكم في "المستدرك"(7742).
(3)
رواه أبو داود (4950) عن أبي وهب الجشمي، ولفظه:"تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة".
(4)
انظر: "شرح السنة" للبغوي (12/ 339).
وقد تقدم أن كنية إبليس أبو مرة، وأن مرة اسم ولد من أولاده.
ولا تكره التسمية بالحارث - وإن كرهه بعضهم - لأن أصدق الأسماء حارث وهمام كما في الحديث الصحيح (1)، وأمَّا تسمية إبليس بالحرث فكان ذلك قبل أن يصير شيطاناً.
وروى الدينوري أن رجلاً قال للشعبي: ما اسم امرأة إبليس؟
قال: ذاك عرس ما شهدته (2).
لكن التحقيق أن من الشياطين إناثاً؛ لحديث الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ"(3).
قال الخطابي: الخبث - بضم الباء -: جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة؛ يريد ذكور الشياطين وإناثهم.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يتبع حمامة فقال: "شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانةً". أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، وابن ماجه عنه، وعن أنس، وعن عثمان، وعن عائشة رضي الله تعالى عنهم (4).
(1) هو الحديث السابق، وانظر الحديث بتمامه في التعليق السابق.
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 367). وقد تقدم نحوه لكن لم يعزه هناك لأحد.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
وروى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنهما: أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال:"لَعَلَّ رَجُلًا يَقُوْلُ: مَا فَعَلَ بأَهْلِهِ، وَلَعَل امْرَأة تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا، فَأرَمَّ الْقَوْمُ".
فقلت: إي والله: أعلم أنهم ليفعلون وأنهن ليفعلن. قال: "فَلا تَفْعَلُوْا؛ فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِثْلُ شَيْطَانٍ لقِيَ شَيْطَانةً فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُوْنَ"(1).
وأخرج البزار نحوه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه (2).
فأَرَمَّ القوم؛ أي: سكتوا - بفتح الهمزة، والراء، وتشديد الميم -.
وروى ابن أبي شيبة عن ثابت: أن مطرفاً رحمه الله تعالى كان يقول: لو أن رجلًا رأى صيداً والصيد لا يراه، فختله، ألم يوشك أن يأخذه.
قالوا: بلى.
قال: فإن الشيطان يرانا، ونحن لا نراه، ويصيب منا (3).
قلت: وأشار إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ} ؛ يعني: الشيطان {يَرَاكُمْ}
(1) تقدم تخريجه.
(2)
قال المنذري في "الترغيب والترهيب"(3/ 62): رواه البزار، وله شواهد تقويه.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35134).
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
وروى عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن قتادة رحمه الله تعالى: أنه قال في الآية: والله إن عدواً يراك من حيث لا تراه لَشديد المونة إلا من عَصم الله (1).
وروى ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى: {وَقَبِيلُهُ} ؛ قال: نسله (2).
قال مجاهد رحمه الله تعالى: سأل الشيطان - يعني: لنفسه ولذريته - أن يَرى ولا يُرى، وأن يخرج من تحت الثرى، وأنه متى شاب عاد فتى، فأجيب. رواه أبو الشيخ (3).
وروى ابن أبي الدنيا عن سفيان رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]؛ قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر (4).
وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {إِنَّ عِبَادِي} الآية قال: عبادي الذين قضيت لهم بالجنة أن يذنبوا ذنباً لا أغفره لهم (5).
وروى ابن جرير عن يزيد بن قسيط رحمه الله تعالى قال: كان
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 436).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1460).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 436).
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله"(ص: 117).
(5)
انظر: "االدر المنثور" للسيوطي (5/ 313).
الأنبياء عليهم السلام يكون لهم مساجد خارجة من قراها، فإذا أراد النبي أن يستنبئ ربه عز وجل عن شيء خرج إلى مسجده، فصلى ما كتب له، ثم سأل ما بدا له، فبينا نبي في مسجده إذ جاءه إبليس حتى كان بينه وبين القبلة، فقال النبي عليه السلام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم - ثلاثاً - فقال إبليس: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟
قال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم.
فأخذ كل منهما على صاحبه، فقال النبي عليه السلام: إن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].
قال إبليس: قد سمعت هذا قبل أن تولد.
قال النبي عليه السلام: ويقول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]، وإني والله ما أحسَسْت بك قط إلا استعذت بالله منك.
فقال إبليس: صدقت، بهذا تنجو مني.
قال النبي: فأخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم.
قال: آخذه عند الغضب، وعند الهوى (1).
قلت: ومن هنا أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول أحدنا عند الغضب:
(1) رواه الطبري في "التفسير"(14/ 34). وقد تقدم نحوه لكن عزاه هناك لابن المبارك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي جعفر رحمه الله تعالى مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللَّهُمَّ إِني أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّكِّ بَعْدَ الْيَقِيْنِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّيَاطِيْنِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الدِّيْنِ"(1).
وروى أبو يعلى بسند حسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فِيْ الْيَوْمِ عَشْرَ مَرَّات مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكًا يَرُدّ عَنْهُ الشَّيَاطِيْن"(2).
وروى الديلمي عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ رَجُل يَدْعُوْ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِيْ أَوَّلِ لَيْلهِ وَأَوَّلِ نَهَارِهِ إِلَاّ عَصَمَهُ مِنْ إِبْلِيْسَ وَجُنُوْدِهِ: بِسْمِ اللهِ ذِيْ الشَّأْنِ، عَظِيْمِ الْبُرْهَانِ، شَدِيْدِ السُّلْطَانِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ".
وروى ابن أبي شيبة، وأبو نعيم عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى قال: إذا قال الإنسان حين يصبح: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم عشر مرات، أُجير من الشيطان حتى يمسي، وإذا قاله
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29144).
(2)
رواه أبو يعلى في "المسند"(4114). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 142): فيه ليث بن أبي سليم، ويزيد الرقاشي، وقد وثقا على ضعفهما، وبقية رجاله رجال الصحيح.
ممسياً أجير من الشيطان حتى يصبح (1).
وروى أبو نعيم عن كعب رحمه الله تعالى قال: لولا كلمات أقولهن حين أصبح وحين أمسي لجعلتني اليهود مع الكلاب النابحة والحمر الناهقة: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر الشيطان وحزبه (2).
وروى ابن السني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ تَدَاعَتْ جُنُوْدُ إِبْلِيْسَ وَأَجْلَبَتْ، وَاجْتَمَعَتْ كَمَا تَجْتَمعُ النَّحْلُ عَلَى يَعْسُوْبِهَا، فَإِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ إِبْلِيْسَ وَجُنُوْدِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَهَا لَمْ تَضُرَّهُ"(3).
والآيات، والأذكار، والأدعيَة الحافظة من الشيطان كثيرة تطلب من محالِّها.
والاستعاذة بالله من الشيطان مأمور بها في كتاب الله تعالى.
قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35402)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 226).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 377).
(3)
رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(ص: 133).
بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98].
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ هَمزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ".
قال: همزه: الموتة، ونفثه: الشهوة، ونفخه: الكبرياء. رواه ابن أبي حاتم وغيره (1).
وقال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200، 201].
وحقيقة الاستعاذة من الشيطان التجاء إلى الله تعالى، واعتصام بحبله من خلل يطرأ على العبد، أو خطأ يحصل منه في القراءة وغيرهما، وإقرار لله تعالى بالعبودية والقدرة، واعتراف من العبد بالضعف والعجز عن هذا العدو الباطن الذي لا يقدر على رفعه ومنعه إلا الله تعالى الذي خلقه، فهو لا يقبل مصانعة، ولا يدارى بإحسان، ولا يقبل رشوة، ولا يؤثِّر فيه جميل، بخلاف العدو الظاهر من جنس الإنسان كما دلت عليه الآيات الثلاثة من القرآن العظيم التي أرشد الله فيها إلى رد العدو الإنساني والشيطاني، فقال تعالى في سورة الأعراف:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فهذا ما يتعلق بالعدو الإنساني.
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1640)، وكذا الإمام أحمد في "المسند"(1/ 403).
ثم قال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200].
وقال في المؤمنين: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96].
ثم قال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97].
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله تعالى من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنَّه ولي حميم. رواه البيهقي في "سننه"، والمفسرون (1).
واعلم أن الغضب يكون من نزغ الشيطان وحمية النفس، فإذا استعاذ بالله المؤمن عند غضبه بطل عنه عمل الشيطان ونزغه، ثم يرد حمية النفس بالحلم والعفو، ودفع السيئة بالحسنة، وقد أمن من شر غضبه.
قال خيثمة رحمه الله تعالى: كان يقال: إن الشيطان يقول: كيف يغلبني ابن آدم؛ إنه إذا رضي جئت حتى أكون في قلبه، وإذا غضب
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 45)، والطبري في "التفسير"(24/ 119).
طِرْت حتى أكون في رأسه؟ رواه ابن أبي شيبة (1).
قلت: يغلبه بذكر الله تعالى، والتسمية في أموره كلها، والاستعاذة منه كما في حديث والد أبي المليح رضي الله تعالى عنه، وكان رديفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فعثرت بهما الدابة، فقال: تعس الشيطان.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ يَعْظُمُ حَتَّى يَصِيْرَ مِثْلَ الْبَيْتِ، وَيَقُوْلُ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللهِ؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيْرَ مِثْلَ الذُّبَابِ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم وغيره (2).
واعلم أن العبد لا يهتدي إلى دفع نزغ الشيطان وكيده عنه بذكر الله تعالى إلا بتوفيقه.
وفي "الصحيحين"، وغيرهما عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال:
استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنِّيْ لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ".
فقال الرجل: أمجنون تراني؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200](3).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35016).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه البخاري (3108)، ومسلم (2610).
وفي "سنن أبي داود"، و"الترمذي"، و"النسائي" عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: استَبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما غضباً شديدًا حتى خُيلَ لي أن أنفه يتمزع من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. "إِنِّىْ لأَعْلَمُ كَلمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ مِنَ الْغَضَبِ".
فقال: ما هي يا رسول الله؟
قال: "تَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنَّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ".
قال: فجعل معاذ يأمره، فأبى وضحك، وجعل يزداد غضبًا" (1).
فالذي يهتدي إلى الاستعاذة عند الغضب من أولياء الله تعالى الموفقين، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق رب العالمين.
ولقد قال مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى: إنما وجدت العبد ملقى بين ربه تعالى وبين الشيطان، فمن استشلاه ربه - أو قال: استنقذه - نجا، وإن تركه للشيطان ذهب به. رواه الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"(2).
ورواه الإمام أحمد في "زهده"، ولفظه: وجدت العبد ساقطًا بين يدي ربه وبين الشيطان، فمن تركه ربه ذهب به الشيطان، وإن عصمه
(1) رواه أبو داود (4780)، والترمذي (3452) وقال: مرسل عبد الرحمن ابن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، ورواه النسائي في "السنن الكبرى"(10221).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 100).
ربه عز وجل اعتصم (1).
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنما مثل ابن آدم كالشيء الملقى بين يدي الله تعالى وبين الشيطان، فإن كان لله فيه حاجةً حازه من الشيطان، وإن لم يكن لله فيه حاجة خلَّى بينه وبين الشيطان (2).
وروى أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثةٌ مَعْصُوْمُوْنَ مِنَ شَرِّ إِبْلِيْسَ وَجُنُوْدِهِ: الذَّاكِرُوْنَ اللهَ كَثِيْرًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْمُسْتَغْفِرُوْنَ بِالأَسْحَارِ، وَالْبَاكُوْنَ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ"(3).
وروى أبو نعيم عن يوسف بن الحسين الرازي رحمه الله تعالى قال: سمعت ذا النون رضي الله تعالى عنه يدعو ويقول: إلهي! الشيطان لك عدو ولي عدو، ولن تغيظه بشيء أنكا له من عفوك عنا؛ فَاعف عنا (4).
ولعل مأخذ ذي النون من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 242) بلفظ قريب.
(2)
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 155).
(3)
كذا عزاه السيوطي في "الجامع الكبير"(4/ 176) إلى أبي الشيخ في "الثواب".
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 384).
هُوَ فِيْهِ أَصْغَرُ وَلا أَدْحَرُ وَلا أَحْقَرُ وَلا أَغْيَظُ مِنْهُ فِيْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَاّ لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُنُوْبِ الْعِظَامِ، إِلَاّ مَا رُئيَ يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَإِنَّهُ رَأَى جِبْرِيْلَ عليه السلام يَزَعُ الْمَلائِكَةَ". رواه مالك، ومن طريقه البيهقي، وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كريز رحمه الله تعالى، مرسلاً (1).
وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَقُوْمُ مِنْ بَيْتِ الْمَيَّتِ الْمُؤْمِنِ إِلَى قَبْرِهِ صَفَّانِ مِنَ الْمَلائِكَةِ يَسْتَقْبِلُوْنَهُ بِالاسْتِغْفَارِ، فَيَصِيْحُ إِبْلِيْسُ عِنْدَ ذَلِكَ صَيْحَةً يَنْصَدِع لَهَا بَعْضُ عِظَامِ جَسَدِهِ، ويَقُوْلُ لِقَوْمِهِ: الْوَيْلُ لَكُمْ! كَيْفَ خَلَصَ هَذَا الْعَبْدُ مِنْكُمْ؟ فَيَقُوْلُوْنَ: هَذَا كَانَ مَعْصُوْمًا"(2).
وروى ابن أبي الدنيا عن سفيان رحمه الله تعالى قال: إن الشيطان أشد بكاء على المؤمن إذا مات من بعض أهله لما فاته من فتنته إياه في دنياه (3).
وعن يحيى بن سعيد رحمه الله تعالى قال: لما حضرت عمرة ابنة عبد الرحمن رحمهما الله تعالى الوفاة اجتمع عندها ناس من التابعين منهم
(1) رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 422)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4069).
(2)
انظر: "المطالب العالية" لابن حجر (18/ 540).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"(ص: 52).
عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة، فبينما هم عندها وقد أغمي عليها إذ سمعوا نفيضًا من السقف، فإذا ثعبان أسود قد سقط كأنه جذع عظيم، فأقبل يهوي نحوها إذ سقط رق أبيض فيه مكتوب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من رب عكب إلى عكب، ليس لكم على بنات الصالحين سبيل، فلما نظر إلى الكتاب سعى (1) حتى خرج من حيث نزل (2).
وروى ابن المبارك في "الزهد"، وابن أبي الدنيا عن عطاء بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: تبدى إبليس لرجل عند الموت، [فقال: نجوت مني]، فقال: ما نجوت منك بعد (3).
وقال الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد رحمة الله عليهما: حضرت وفاة أبي، وبيده (4) خرقة لأشد لحييه، فكان يغرق ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مراراً، فقلت له: يا أبه! أي شيء يبدو مِنك؟
فقال: الشيطان قائم بحذاي عاض على أنامله، يقول: فُتَّنِي يا أحمد، وأنا أقول: لا بعد حتى أموت (5).
وحكى القرطبي في "التذكرة" عن شيخ شيخه أحمد بن محمد
(1) في "مصائد الشيطان": "سما" بدل "سعى".
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"(ص: 27).
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 104). وعنده: "ما أمنتك بعد".
(4)
في "الحلية": "بيدي" بدل "بيده".
(5)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 183).
القرطبي أنه احتضر فقيل له: قل: لا إله إلا الله.
فكان يقول: لا.
فلما أفاق ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن يساري، يقول أحدهما: مُت يهودياً فإنه خير الأديان، والآخر: مت نصرانيًا فإنه خير الأديان، وكنت أقول لهما: لا لا، أتقولان هذا وقد كتبت بيدي في كتاب الترمذي، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِيْ أَحَدَكُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَقُوْلُ: مُتْ يَهُوْدِيًّا مُتْ نَصْرَانِيًّا"، "فَكَانَ الْجَوَابُ لَهُمَا لا لَكُمْ.
قال القرطبي: لم أجد هذا الحديث في كتاب الترمذي، وأما النسائي فإنه نسخ، فيحتمل أن يكون في بعضها.
وقيل: إن الله إذا أراد أن يثبِّت أحداً عند الموت بعث إليه جبريل عليه السلام.
وقيل: يبعث إليه الرحمة فتقول له: هؤلاء أعداؤك من الشياطين، مت على الحنيفية والشريعة، فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح مِنْهُ، فذلك قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ". رواه أبو داود (1).
(1) رواه أبو داود (1552)، وكذا النسائي (5531) عن أبي اليَسَر رضي الله عنه.
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوْبِ ثَبِّتْ قَلْبِيْ عَلَى دِيْنِكَ".
قلت: يا رسول الله! كان القلوب لتنقلب؟
قال: "نعَمْ، مَا مِنْ خَلْقِ اللهِ مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِيْ آدَمَ إِلَاّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابعِ اللهِ، فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ لا يُزِيْغَ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْألهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ".
قلتُ: يا رَسولَ اللهِ! ما أَكثرَ مَا تَدعو بِهذَا الدُّعاءِ! أَلا تُعلّمني دَعوةً أَدْعُو بِها لِنَفسِي؟
قالَ: "بَلَى، قُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ! اغْفِرْ لِيْ ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَاّتِ الْفِتَنِ مَا أحْيَيْتَنِي"(1).
وروى الأولان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوْبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِيْنِكَ".
قلت: يا رسول الله! ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟
فقال: "لَيْسَ مِنْ قَلْب إِلَاّ وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابعِ الرَّحْمَنِ، إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيْمَهُ أَقَامَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُزِيْغَهُ أَزَاغَهُ، أَما تَسْمَعِيْنَ قَوْلَهُ
(1) هذا لفظ الإمام أحمد في "المسند"(6/ 301)، وقد تقدم تخريجه.
تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8] " (1).
وفي الباب عن أنس، وسبرة بن فاتِك، وجابر، والنواس بن سمعان رضي الله تعالى عنهم (2).
وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن سفيان رحمه الله تعالى قال: إذا سئل الميت: من ربك؟ تزايا له الشيطان في جنوده يشير إلى نفسه: أنا ربك (3).
ولذلك كان السلف يستحبون إذا وضع الميت في قبره أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان، كما رواه الحكيم الترمذي أيضًا عن عمرو بن مرة رحمه الله تعالى (4).
وروى الطبراني بسند ضعيف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهِا خَرَّ إِبْلِيْسُ سَاجِدًا يُنَادِي: إِلَهِي! مُرْنِيْ أَنْ أَسْجُدَ لِمَنْ شِئْتَ، فَتَجْتَمعُ إِلَيْهِ زَبَانِيَّتُهُ، فَيَقُوْلُوْنَ: يَا سَيِّدَهُمْ! مَا هَذَا التَّضَرُّعُ؟ فَيَقُوْلُ: إِنِّيْ سَأَلْتُ رَبي أَنْ يُنْظِرَنِيْ إِلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُوْمِ، قَالَ:
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "سنن الترمذي"(3522).
(3)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(3/ 227).
(4)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(3/ 227).
ثُمَّ تَخْرُجُ دَابَّةُ الأَرْضِ مِنَ الصَّفَا، قَالَ: فَأَوَّلُ خُطْوَةٍ تَضَعُهَا بِأنْطَاكِيَّةَ فَيَأْتِي إِبْلِيْسُ فَتَلْطِمُهُ" (1).
وروى نُعيم بن حماد في كتاب "الفتن"، والحاكم في "المستدرك"
وضعفه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ
الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبهَا، وَجفَّتِ الأَقْلامُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ
لا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ تَوْبَةٌ، وَيخِرُّ إِبْلِيْسُ سَاجِدًا، ويُنَادِيْ: إِلَهِي! مَنْ لِيْ أَنْ
أَسْجُدَ لِمَنْ شِئْتَ، وَتَجْتَمعُ إِلَيْهِ الشَّيَاطِيْنُ فَيَقُولوْنَ: يَا سَيِّدَهُمْ! إِلَى مَنْ
تَضْرَعُ؟
فَيَقُوْلُ: أَنَا سَأَلْتُ رَبي أَنْ يُنْظِرَني إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبهَا، وَهَذَا الْوَقْتُ الْمَعْلُوْمُ، وَتَصِيْرُ الشَّيَاطِيْنُ ظَاهِرَةً فِيْ الأَرْضِ حَتَّى يَقُوْلَ الرَّجُلُ: هَذَا قَرِيْنِي الَّذِي كَانَ يَغْوِيْنِي، فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَخْزَاهُ، وَلا يَزَالُ إِبْلِيْسُ سَاجِدًا بَاكِيًا حَتَّى تَخْرُجَ الدَّابَّةُ فَتَقْتُلَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، ويَمْتَنِعُ الْمُؤْمِنُوْنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً لا يَتَمَنَّوْنَ شَيْئًا إِلَاّ أُعْطوْهُ حَتَّى تتِمَّ أَرْبَعُوْنَ سَنَةً بَعْدَ الدَّابَّةِ، ثُمَّ يَعُوْدُ فِيْهِم الْمَوْتُ فَلا يَبْقَى مُؤْمُنٌ، ويَبْقَى الكُفَّارُ يَتَهَارَجُوْنَ فِيْ الطُّرُقِ كَالْبَهَائِمِ حَتَّى يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ فِي وَسَطِ الطَّرِيْقِ يَقُوْمُ وَاحِدٌ عَنْهَا، ويَتْرُكُ وَاحِدًا، وَأَفْضَلُهُمْ يَقُوْلُ: لَوْ تَنَحَّيْتُمْ عَنِ الطَّرِيْقِ كَانَ أَحْسَنَ، فَيَكُوْنُوْنَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(94). وضعف ابن كثير إسناده في "تفسيره"(2/ 196).
لا يُوْلَدَ أَحَدٌ مِنْ نِكَاحٍ، ثُمَّ يعْقِمُ اللهُ النسَاءَ ثَلاثِيْنَ سَنَةً، وَيَكُوْنُوْنَ كُلُّهُمْ أَوْلاد زِنَا شِرَارَ النَّاسِ، عَلَيْهِمْ تَقُوْمُ السَّاعَةُ" (1).
وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي بكر الهذلي رحمه الله تعالى قال: لما نزلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (156)} [الأعراف: 156]: قال إبليس: يا رب! وأنا من الشيء، فنزلت:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ (156)} [الأعراف: 156] فنزعها من إبليس (2).
وروى ابن المنذر نحوه عن ابن جريج، وعن السدي، ورواه عبد ابن حميد عن قتادة رحمهم الله تعالى (3).
وفي "شعب الإيمان" للحافظ أبي بكر البيهقي: عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال: لما نزلت هذه الآية: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (156)} [الأعراف: 156] مدَّ إبليس عنقه، فقال: أنا من الشيء، فنزلت {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156]، فمدت اليهود والنصارى أعناقها، فقالوا: نحن نؤمن بالتوارة والإنجيل، ونؤدي الزكاة، فاختلسها الله تعالى من إبليس واليهود والنصارى، فجعلها لهذه الأمة خاصة، فقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} [الأعراف: 157] الآية (4).
(1) رواه نعيم بن حماد في "الفتن"(2/ 654)، والحاكم في "المستدرك" (8590). قال الذهبي: موضوع.
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1579).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 572).
(4)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(379).
وروى الطبراني بسند ضعيف، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ الْفَاجِرُ فِيْ دِيْنِهِ، وَالأَحْمَقُ فِيْ مَعِيْشَتِهِ، وَالَّذِي بَعَثَنِي لَيَغْفِرَنَّ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةً يَتَطَاوَلُ لَهَا إِبْلِيْسُ رَجَاءَ أَنْ تُصِيْبَهُ"(1).
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيْسُ فَيَضعَهَا عَلَى حَاجِبِهِ، وَيَسْحَبَهَا مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرِّيتُهُ مِنْ بَعْدِهُ وَهُوَ يُنَادِي: يَا ثُبُوْرَاهُ، وَهُمْ يُنَادُوْنَ: يَا ثُبُوْرَهُمْ، حَتَّى يَقِفُوْا عَلَى النَّارِ، فَيَقُوْلُ: يَا ثُبُوْرَاهُ، ويَقُوْلُوْنَ: يَا ثُبُوْرَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} [الفرقان: 14] "(2).
وفي كتاب الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 87 - 94]؛ أي: الآلهة، إلا ما استثنى الله بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101].
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(3022). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 216): وفي إسناده سعد بن طالب أبو غيلان، وثقه أبو زرعة وابن حبان، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 153).
وقد قيل: (إنَّ) في الآية بمعنى (إلا)، وكان الأصل: إنا في معنى إلا، حذفت الألف للساكنين.
ومعنى {فَكُبْكِبُوا (94)} [الشعراء: 94] جمعوا؛ أي: فجمع فيها الآلهة إلا ما استثنى {وَالْغَاوُونَ (94)} [الشعراء: 94]: الذين عبدوهم، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي: رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)} [الشعراء: 94 - 104].
فهذا آخر أمر الشيطان اللعين، وآخر أتباعه الغاوين، ومن كان يؤمن بهذا، فكيف تسمح نفسه باتباعه والتشبه به وهو يعلم ما ينتهي أمره وأمر أتباعه وأشباهه إليه.
ولقد قلت: [من مجزوء الرمل]
أَوَّلُ الشَّيْطانِ رَجْمٌ
…
وَمَدَى الشَّيْطانِ لَعْنُ
وَلأَشْباهِ الشَّيا
…
طِينِ عَنِ الْخَيْراتِ وَهْنُ
وَلَهُمْ فِي يَوْمِ فَصْلِ الـ
…
أَمْرِ إِبْعادٌ وَحُزْنُ
وَعَلَيْهِمْ كُلُّ يسَهْلٍ
…
كَيْفَ كانَ الْقَوْمُ حُزْنُ
وَلِمَنْ تابَ إِلَى اللَّـ
…
ـهِ مِنَ الْعِصْيانِ أَمْنُ