الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا مما ينفي التهمة عن النذير الناصح؛ فإنه من حاول الأجر ممن أنذره فإنما يحاول مصلحة نفسه لا مصلحة المنذر.
ومن هنا حذر العلماء من طلب الدُّنيا بالعلم والدين حتى قال بعض الحكماء من أهل العلم: طلب الدنيا بالدف والمزمار أخف إثماً من طلبها بالدين والعلم.
وقد أجمع الأنبياء على بذل العلم وتعليم الدين بلا عوض من المبذول له؛ فليكن ورثتهم على طريقتهم.
5 - ومنها: الأصرار على المعصية، وترك التوبة والاستغفار
.
وقال هود عليه السلام: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 52، 53].
وأي إصرار بعد هذا الإصرار؟
روى ابن عساكر عن الضَّحَّاك رحمه الله تعالى قال: أمسك الله عن عاد القطر ثلاث سنين، فقال لهم هود:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52]، فابوا إلا تماديا (1).
وقد دلت الآية على أن الإصرار يمنع الرزق كما أن الاستغفار يمنع العقوبة ويجلب المنافع؛ فإن الاستغفار يحل عقدة الإصرار.
(1) ورواه الثعلبي في "التفسير"(8/ 289).
وقد سبق مثل ذلك في قوم نوح حيث قال لهم عليه السلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].
وقال الثعلبي رحمه الله تعالى: خرج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟
قال: طلبت المطر بمجاديح السَّماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ:{وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52].
و{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11](1).
والمجاديح -بتقديم الجيم -؛ قال في "النهاية": جمع مجدح مع زيادة الياء (2).
والمجدح؛ كمنبر؛ قال في "القاموس": الدبران، أو نجم صغير تحته، والثريا.
قال: ومجاديح السماء: أنواؤها (3).
(1) رواه الثعلبي في "التفسير"(10/ 44)، وكذا عبد الرزاق في "المصنف"(4902).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 243).
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 275)(مادة: جدح).
قيل: وهي ثلاثة كواكب كالأثافي، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر (1).
وقول عمر رضي الله تعالى عنه: (لقد استقيت بمجاديح السماء) شبه الاستسقاء بالاستمطار بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون لا قولاً بالأنواء، كأنه يشير إلى أن الاستسقاء بالاستغفار أولى من الاستمطار بالأنواء؛ فإن الاستغفار أحق ما تطلب به الحوائج، وترفع به النوائب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيْقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبْ". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الحاكم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (2).
وتأمل قول الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
روى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن يونس عليه السلام كان وعد قومه العذاب، وأخبره أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجاؤوا
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 243).
(2)
رواه أبو داود (1518)، والنسائي في "السنن الكبرى"(2234)، وابن ماجه (3819)، والحاكم في "المستدرك"(7677).
إلى الله عز وجل واستغفروه، فكف عنهم العذاب (1).
وروى هو والمفسرون عن أبي الجلد رحمه الله تعالى قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا: ما ترى؟
قال: قولوا: يا حي حين لا حي، ويا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت، فكشف عنهم العذاب (2).
وروى هو وغيره عن أبي الجلد أيضاً: أن داود النبي عليه السلام أمر منادياً، فنادى بالصَّلاة جامعة، فخرج النَّاس وهم يرون أنه يكون منه يومئذ موعظة وتأديب، ودعا، فلما رأوا مكانه قال: اللهم اغفر لنا، وانصرف.
فاستقبل آخر الناس أوائلهم قالوا: ما لكم؟
قالوا: إن النبي إنما دعا بدعوة واحدة، ثم انصرف.
قالوا: سبحان الله! كنا نرجو أن يكون هذا اليوم يوم عبادة ودعاء، وموعظة وتأديب، فما دعا إلا بدعوة واحدة!
قال: فأوحى الله إليه أن أبلغ عني قومك؛ فإنهم قد استقلوا دعاءك: إني من أغفر له أصلح له أمر آخرته ودنياه (3).
(1) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(31866)، والطبري في "التفسير"(11/ 172).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 34)، والطبري في "التفسير"(11/ 172).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 73)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 57).