الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّوْعُ الثَّاني مِنَ القِسمِ الثَّاني مِنَ الكتَابِ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُهِ بِالكُفَارِ
وهم أتباع الشيطان في المعصية التي لا تُغفر، وهي الشرك بالله تعالى، فيتعين على المؤمن أن يتجنب التشبه بهم في أصل الكفر، والخصال التي يعتادونها؛ إما لترتبها على الكفر، أو لاستجرارها إليه؛ أي: لأنها تُنقص الإيمان وتُوهيه، أو لنحو ذلك لِمَا علمت في أول الكتاب من أن من تشبه بقوم فهو منهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا". رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو (1).
وروى الديلمي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةِ غَيْرِنَا"(2).
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ (13)} [يونس: 13] أي: من عهد قابيل إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم {لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا (13)} [يونس: 13]؛ أي: يصدقوا بالله ورسله، وما جاؤوا به، ويعملوا بمقتضى ذلك {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)} [يونس: 13] أي: ممن بعدهم من هذه الأمة إلى آخر الدهر {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 14]؛ أي: هل تستقيمون على ما أمرتم به، أم تعملون مثل أعمالهم؟
وفيه وعيد شديد لمن حذا حَذْوهم في الظلم والإجرام، والإعراض عن الإيمان والإسلام.
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ (115)} [النساء: 115] الآية.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا (156)} [آل عمران: 156].
وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94 - 95].
وإذا كان هذا الخطاب مع المعصوم فكيف بغيره، أو الخطاب للنبي والمراد به أمته.
وقال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 104 - 105].
وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (22)} [المجادلة: 22].
ولقد بينا لك سابقًا أن التشبه بالقوم دليل محبتهم ومودتهم، واستحسان أحوالهم وطريقتهم.
وقال تعالى في ذم المقتدين بأسلافهم في الكفر والمعصية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان: 21].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)} [البقرة: 118].
وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30].
أي: كيف يُصرفون عن الحق الواضح بعد قيام الأدلة عليه إلى الباطل بمجرد التقليد والتشبه بمن تقدمهم من الكفار.
وقال تعالى حكاية عن صالح عليه السلام: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 150 - 152]؟
قال قتادة: المسرفون في الآية هم المشركون. رواه عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وغيرهمَا (1).
وقال تعالى حكاية قول المشركين: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} إلى قوله تعالي: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} [الزخرف: 25].
وقال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ (113)} [هود: 113].
قال أبو العالية رحمه الله تعالى: لا ترضوا أعمالهم (2).
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا تميلوا إليهم (3). رواهما ابن المنذر.
وقال القاضي البيضاوي رحمه الله تعالى في الآية: ولا تميلوا إليهم أدنى ميل؛ فإن الركون هو الميل اليسير كالتزي بزيهم، والتعظيم لذكرهم، انتهى (4).
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2803).
(2)
ورواه الطبري في "التفسير"(12/ 127).
(3)
ورواه الطبري في "التفسير"(12/ 127).
(4)
انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 266).
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)} [غافر: 21].
أمَرَ الله تعالى هذه الأمة بالنظر فيما صار إليه الأمم من الأخذ الوبيل بسبب الذنوب، ليحذروا مما كان أولئك عليه من الاغترار بالقوة والتأثير والتصرُّف في الأمور.
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [غافر: 82].
و(السُّوأى) خبر (كان)، أي: العاقبة السوأى، أو: العقوبة السوأى.
و(أن كذبوا) بدل من (السوأى)، أو تعليل للجملة قبله؛ أي: بسبب أن كذبوا.
وقال: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)} [السجدة: 26].
فقد دلت هذه الآية والآيات قبلها، وأمثالها مما تضمنته من الاستفهام التوبيخي على استحباب الاعتبار بأحوال الأمم السالفة بعد
النظر في آثارهم والاستماع إلى أخبارهم، بحيث يتسبب عنه الانزجار عمَّا كانوا عليه من الكفر والظلم والاغترار خشية أن يصيبهم ما أصابهم، فهي تتضمن الزجر عن التشبه بهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَالِفُوْا الْمُشْرِكِيْنَ؛ احْفُوْا الشِّوَارِبَ، وَاعْفُوْا اللِّحَى"(1).
وروى ابن أبي شيبة عنه - موقوفًا - قال: خالفوا سنن المشركين (2)؛ أي: طرائقهم وأعمالهم.
وروى الإمام الحافظ أبو حفص بن شاهين في "مسنده"، والديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَقَرَّبُوْا إِلَى اللهِ بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِيْ، وَالْقُوْهُمْ بِوُجُوْهٍ مُكْفَهِرَّةٍ، وَالْتَمِسُوْا رِضَى اللهِ بِسُخْطِهِمْ، وَتَقَرَّبُوْا إِلَى اللهِ بِالتَّبَاعُدِ عَنْهُمْ"(3).
وإنما أمرنا ببغضهم إيذانا ببغض أعمالهم والتنزه عنها، وكي لا يألفونا ونألفهم فتتسارق الطَّباع.
والتباعد عنهم إنما المقصود منه التباعد عن أخلاقهم وأعمالهم.
والوجوه المكفهرة هي العابسة عند لقائهم، فالعبوس في وجوه
(1) رواه البخاري (5553)، ومسلم (259).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34649).
(3)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(2320).
أهل المعاصي زجرًا لهم، ولقاؤهم باكفهرار الوجوه مندوب إليه كلقاء أهل الطاعة بالبشاشة، والتودد إليهم، والتخلق بأخلاقهم كما سبق بيانه.
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: في الزَّبور مكتوب: طوبى لمن لم يسلك سبيل الأَثَمة، ولم يجالس الخطَّائين، ولم يقم (1) في همِّ المستهزئين، ولكن همه سنة الله عز وجل وإياها يتعلم بالليل والنهار، مَثَلُه مثل شجرة على شَطِّ الماء تُؤتي ثمرها في حينها، ولا يتناثر من ورقها شيء، وكل عمله بأمري، ليس عمله مثل عمل المنافقين (2).
وعن عقيل بن مدرك السُّلمي رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: قل لقومك لا يأكلوا طعام أعدائي، ولا يشربوا شراب أعدائي، ولا يتشكلوا بشكل أعدائي؛ فيكونوا أعدائي (3).
وروى أبو الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى أنه قال: إياكم وهدايا الفجارِ والسفهاء؛ فإنَّكم إذا أكلتموها (4) ظنوا أنَّكم رضيِتم فعلَهم (5).
(1) في "الدر المنثور": "يفئ" بدل "يقم".
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 304).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 103).
(4)
في "شعب الإيمان": "قبلتموها" بدل "أكلتموها".
(5)
تقدم تخريجه.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" عن عمرو بن مُرَّة رحمه الله تعالى، عن رجل من بني هاشم رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْبَغِي لأَوْلِيَاءِ اللهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْخُلُوْدِ الَّذِيْنَ لَهَا سَعْيُهُمْ وَفِيْهَا رَغْبَتُهُمْ وَلَهَا يُرِيْدُوْنَ: أَنْ يَكُوْنُوْا أَوْلِيَاءَ، وَلا أَحِبَّاءَ، وَلا جُلَسَاءَ لأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ (1) مِنْ أَهْلِ دَارِ الْغُرُوْرِ الَّذِيْنَ لَهَا سَعْيُهُمْ وَفِيْهَا رَغْبَتُهُمْ، هُمْ أَشَدُّ تَبَاعُدًا عَنْهُمْ، وَتَبَادُرًا إِلَى الْخَيْرِ، وَمُقَاطَعَة لَهُم أَسْبَابًا وَأَخْلاقًا"(2).
وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى قال: تزكية الأشرار لك هجنَة (3)، وحبهم لك عيب عليك، وهان عليك من احتاج إليك (4).
وروى ابن المبارك في "الزهد" عن يحيى بن [أبي] كثير رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنْ صَاحِبِ غَفْلَةٍ، وَقَرِيْنِ سُوْءٍ، وَزَوْجِ أَذَى"(5).
ومن المعلوم عند عامة أهل العلم أن الله تعالى لم يذكر قصص الأمم الماضية في كتابه العزيز لتكون أسماراً، ولكن قررها لتكون
(1) في "الأولياء": "السلطان".
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(ص: 20).
(3)
في الأصل: "هجنة لك".
(4)
رواه القشيري في "رسالته"(ص: 44).
(5)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 303).
اعتبارًا، فإذا نظر العبد إلى قصصهم وهلاك ضُلَاّلهم، ونجاة المؤمنين منهم، كان ذلك أدعى للعبد، وأبعث له على الثبات على الإيمان والطاعة، وأردع له وأزجر عن الكفر والمعصية؛ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (111)} [يوسف: 111].
فينبغي أن نشير إلى قصص مشاهير الأمم التي ذكرها الله تعالى في القرآن العظيم على سبيل الإيجاز، ونبين ما انتقد عليهم من الأعمال والأقوال والاعتقادات التي هي السبب في هلاكهم وبَوارهم؛ لينكفَّ المؤمن عن التشبه بهم فيها، وينزجر عن الاقتداء بهم في تعاطيها.