الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في آفاق الوحدة القرآنية: [كلام عن مناسبة سورة المائدة لما قبلها وعن محاور سور قسم الطوال]
يقول صاحب الظلال في تقديمه لسورة المائدة: «ومن ثم نجد في هذه السورة- كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها- موضوعات شتى، الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الذي جاء القرآن كله لتحقيقه:
إنشاء أمة وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع، على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد .. الأصل فيه إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان؛ وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه بلا شريك .. ».
ويقول الألوسي في تفسيره عن وجه مناسبة سورة المائدة لسورة النساء وما قبلها:
«ووجه اعتلاقها بسورة النساء- على ما ذكره الجلال السيوطي- عليه الرحمة- أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة.
وعقد الصداق. وعقد الحلف. وعقد المعاهدة والأمان، والضمني عقد الوصية.
والوديعة. والوكالة. والعارية. والإجارة، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فناسب أن تعقّب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمّت، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود، ووجّه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ* وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بتنزيل المكي، وأوّل هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني، وتقديم العام وشبه المكي أنسب، ثم إنّ هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة، وآل عمران، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
وقد ختمت المائدة في صفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة. والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل».
ونحن مع إثباتنا لما قاله صاحب الظلال والألوسي مما يدخل في الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم نضيف:
إن في القرآن سرا آخر، وروابط أخرى أقوى، تربط سور هذا القرآن بعضها ببعض بروابط هي وحدها إعجاز، فكيف إذا كانت واحدة من مظاهر الإعجاز؟.
لقد درجنا فيما مرّ من هذا التفسير، أن نعرض لوجهة نظرنا في موضوع الوحدة القرآنية، بشكل رفيق، وكلما جاءت مناسبة ذكرنا جزءا من وجهة النظر، بحيث يكمّل ما سبق ذكره، ويبقى الموضوع مفتوحا لكلام جديد.
إن كل سورة في القرآن الكريم هي جزء من قسم، أو جزء من مجموعة في قسم، وكل مجموعة سور تشكل فيما بينها وحدة على ترتيب معيّن، وكل سورة في مجموعة لها محورها من سورة البقرة، والمجموعة مع بعضها تلقي أضواء التفصيل على محاور سورها في سورة البقرة، على ترتيب تفصّل فيه السورة اللاحقة في محور يأتي بعد محور السورة السابقة، بحيث تجد آية أو آيات في سورة البقرة، قد فصلتها سورة، ثم سورة، ثم سورة، وكل ذلك على طريقة عجيبة في التفصيل كما سيمر معنا بإذن الله تعالى.
ولا يعني ما مرّ أنّ سورة البقرة كانت آياتها مجملة (1)، فالله- عز وجل وصف القرآن كله بالإحكام والتفصيل:«كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (هود: 1) فسورة البقرة مفصّلة فيها المعاني ومن ثمّ فهي تلقي أضواء التفصيل على بقية السور، والسور كلها تلقي عليها أضواء التفصيل بما يتكامل معه التفصيل تكاملا عجيبا.
ولعلّه لم يحن حتى الآن، أو ان الكلام في هذا الموضوع بأكثر مما ذكرنا فلنكتف هاهنا بهذا القدر الذي ستأتيك أمثلته وتفصيلاته مرّات ومرّات.
لقد كانت سورة البقرة مقدمة، وأقساما ثلاثة، وخاتمة، ورأينا كيف أن المعاني تترابط فيها ترابطا مدهشا، وكيف أن كل الأقسام مرتبطة بالمقدمة، وكيف أن الخاتمة كذلك مرتبطة بالمقدمة.
ثم جاءت سورة آل عمران ففصّلت في مقدمة سورة البقرة والمعاني التي هي أشد لصوقا بها، وقلنا من قبل: إن سورة النساء والمائدة والأنعام ستفصل في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة، بشكل مباشر على الترتيب التالي:
(1) - لم نرد بالإجمال هنا: المعنى الأصولي لهذه الكلمة.
سورة النساء تفصّل في الآيات الخمس الأولى من هذا المقطع، فهي محورها الرئيسي.
وسورة المائدة ستفصّل في الآيتين اللاحقتين للآيات الخمس، فهما محورها الرئيسي.
وسورة الأنعام ستفصّل في الآيتين الأخيرتين للمقطع، فهما محورها الرئيسي.
وسنرى أن سورة الأعراف ستفصّل في المقطع الثاني من القسم الأول من سورة البقرة، وأنّ سورتي الأنفال وبراءة ستفصلان في محور يأتي في القسم الثالث من
سورة البقرة، وبهذا ينتهي القسم الأول من أقسام القرآن قسم الطوال، وبانتهائه نأخذ التفصيل الأول لمعاني سورة البقرة، بما يغطي مجموع معانيها، ليبدأ القسم الثاني وفيه التفصيل الثاني كما سنراه فيما بعد.
لقد فصّلت مجموعة السور السبع التي جاءت بعد سورة البقرة معاني في هذه السورة مبتدئة بأول السورة، ثم جاءت المحاور بعد ذلك متلاحقة. كل محور لاحق يأتي بعد محور سابق ومجموعة السور السبع وهي تفصّل في محاورها لم تكن تفصّل في المحور فقط، وإنما كانت تفصّل في المحور وامتدادات معانيه الأكثر لصوقا به من سورة البقرة نفسها. وهكذا جاءت كل سورة من سور المجموعة وهي تجمع بين المحور وامتدادات معانيه على نسق جديد، مفصّلة ومبينة، بحيث لا ننتهي من قسم الطوال إلا وقد أخذنا تفصيلا شاملا لمعان في سورة البقرة، من خلال السياق الخاص لكل سورة من هذه السور.
وستأتي الأمثلة والتفصيل شيئا فشيئا. فلنبدأ عرض سورة المائدة.
***