الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ومن حلمه أنه لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار
قَدْ سَأَلَها. أي: سأل مثل هذه المسائل قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم السابقة ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها. أي: بسببها كافِرِينَ كما حدث لبني إسرائيل، وعرف ذلك منهم
ما جَعَلَ اللَّهُ. أي: ما شرع ذلك، ولا أمر به، ثم بين هذا الذي لم يشرعه ولم يأمر به مِنْ بَحِيرَةٍ البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها، وامتنعوا من ركوبها، وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا مرعى وَلا سائِبَةٍ هي الناقة يسيبونها لآلهتهم، ويعاملونها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، كان الرجل منهم يقول: إذا قدمت من سفري، أو برأت من مرضي فناقتي سائبة وَلا وَصِيلَةٍ هي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرا أكله الرجال، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم، وكذا إن كان ذكرا وأنثى، وقالوا وصلت أخاها، فالوصيلة بمعنى الواصلة وَلا حامٍ وهو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن، قالوا قد حمى ظهره فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بتحريمهم ما حرّموا ونسبتهم هذا التحريم إليه وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ فأفعالهم وتصوراتهم لا عقل فيها ولا فهم، ومن جهلهم وعدم عقلهم فإنهم كما قال الله بعد ذلك
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ. أي:
هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة أو إلى حكم الله مطلقا قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أي: كافينا ذلك أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا
يَهْتَدُونَ
. أي: الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجّة. وآباء هؤلاء لا علم، ولا هداية، فكيف يكفيهم ما عليه آباؤهم وهم كذلك.
والسياق العام لهذه الفقرة على الشكل التالي:
نهاهم عن السؤال ابتداء، وسمح لهم بالسؤال لاستجلاء الوحي، ثمّ علّل سبب منع السؤال، ثم ابتدأ تبيان حكمه في موضوع تحريم الانتفاع في أنواع من الحيوان، ثم بيّن جهالة الجاهليين في رفضهم الاحتكام إلى الله ورسوله، واتباعهم آباءهم في القضايا غير المعقولة المعنى، والتي تدلّل على الجهل والضلال، كهذه القضية المذكورة في وسط الفقرة، وقد دلّت الآية على أن غير شرع الله لا يقوم على عقل، ولا علم، ولا هداية.
نقل وتعليق:
[نقل عن صاحب الظلال حول آية .. لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ
.. ]
عند قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
يقول صاحب الظلال: «إن المعرفة الغيبية في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة .. فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية. وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به. فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه فإنه لا يصل إلى شئ أبدا، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها .. فهو جهد ضائع. فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل، يؤدي إلى الضلال البعيد. وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام .. وهذا هو منهج الإسلام ..
ففي طوال العهد المكي لم يتنزّل حكم شرعي تنفيذي- وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال- ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام.
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه، فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل، وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص، ليكون للسؤال والفتوى جديّتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني:
كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن .. ذكره الدارمي في مسنده .. وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار بن ياسر- وقد سئل عن مسألة- فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا. قال: دعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناها لكم. وقال الدارمي: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهنّ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ .. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ..
وشبهه .. ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. وقال مالك: أدركت هذا البلد (يعني المدينة) وما عندهم علم غير الكتاب والسنة. فإذا نزلت نازلة، جمع الأمير من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه. وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله!
وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية: روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات.
وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» .. قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وكثرة السؤال» : التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا، وتكلّفا فيما لم ينزل، والأغلوطات، وتشقيق المولدات. وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف. ويقولون: إذا نزلت النازلة وفّق المسئول لها ..
إنه منهج واقعي جاد. يواجه وقائع الحياة بالأحكام، المشتقة لها من أصول شريعة الله، مواجهة عملية واقعية .. مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقا كاملا دقيقا .. فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع، فهو استفتاء عن فرض غير محدد.
وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع. والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غير محدد. والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم. ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله لغير التفقه، والفتوى على هذا الأساس لغير مريد العمل!! إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ .. فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة، ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس .. أي: لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه .. فما استفتاء المستفتي؟ وما فتوى المفتي؟ إنهما- كليهما- يرخصان شريعة الله، ويستهتران بها، شاعرين أو غير شاعرين سواء! ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة .. إنها دراسة للتلهية! لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكانا في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها! وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه، ليخدّر مشاعر الناس بهذا الإيهام! إن هذا الدين جد. وقد جاء ليحكم الحياة. جاء ليعبّد الناس لله وحده، وينزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان فيرد الأمر كله إلى شريعة الله لا إلى شرع أحد سواه .. وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها، ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين
تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها. ولم يجئ هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار. ولا لتكون شريعته