الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في القرآن الكريم .. إنما يقرّر حقيقة، ويقرّر سنّة، ويقرّر طرفا من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ .. إنه يقرر حقيقة الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم؛ وأن هذه سنة ماضية- ولو لم يرها فرد في عمره القصير، أو جيل في أجله المحدود- ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب .. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ: فإنّ هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إما بقارعة من الله عاجلة، وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم- مع الزمن- وهي توغل في متاهة الذنوب!
وأمامنا في التاريخ القريب- نسبيا- الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي، والدعارة الفاشية، واتخاذ المرأة فتنة وزينة، والترف والرخاوة، والتلهي بالنعيم .. أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان- وقد أصبحوا أحاديث- وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة، كفرنسا وانجلترا- كذلك- على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض.
إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفا باتا من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة، واستبعاد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها .. ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلا على أساس القاعدة الاعتقادية.
والتفسير الإسلامي- بشموله وجديّته وصدقه وواقعيّته- لا يغفل أثر العناصر المادية- التي يجعلها التفسير المادي هي كل شئ- ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى .. التي لا ينكرها إلا أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود .. يبرز قدر الله من وراء كل شئ؛ ويبرز التغيّر الداخلي في الضمائر والمشاعر، والعقائد والتصوّرات؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي .. ولا يغفل عاملا واحدا من العوامل التي تجري بها سنّة الله في الحياة».
2 - [توجبه للآية (6)]
في قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يمكن أن نحمل الآية على المخاطبين الأوّلين فيها وهم أهل مكة، وعندئذ يكون واضحا أن الأمم السابقة، والأقوام السابقين قد مكّن لهم ما لم يمكّن لأهل
مكة وما لم يوسّع عليهم، وكل مكذّب يأخذ عبرة من هذا الخطاب، ويمكن أن نحمل الآية على أن المخاطبين بها العرب، وواضح أن ما أعطى الله الأمم الأخرى والأجيال السابقة، كبني إسرائيل، والرومان، واليونانيين، والصينيين، والمصريين، لم يعطه العرب، وكل قوم يستطيعون الاعتبار بهذا الخطاب، والسؤال: هل يمكن أن نجعل
الخطاب للأجيال كلها بعد نزول القرآن؟ إننا إن حملنا الآية هذا الحمل فهذا يحتاج منا إلى إثبات أنه قد مرّت قرون قبل نزول القرآن مكّنت في الأرض ما لم تمكن به القرون اللاحقة على نزول القرآن حتى عصرنا، ونقول نحن نحتاج إلى إثبات بسبب أن النص القرآني يحتمل، والذي نقوله: إن من ينظر إلى مثل سدّ الصين العظيم، والأهرام، وآثار بعلبك، وشبكة المياه الجوفية الموجودة في بلاد الشام من عصر الرومان، وما يقال إن المناخ العالمي قد تغيّر، وأن الجفاف يزداد، وأن المناطق الصحراوية تمتد، وما يقال تاريخيا عن تمكين أقوام بأعيانهم في الأرض، أما التمكين الحالي ففي الغالب ليس تمكينا لأقوام بل لشعوب من مجموعة أقوام، أو لدول، أو لاتحادات، إن مثل هذه المعاني تجعلنا نقول باحتمال النص للفهم الأخير. والله أعلم.
ولنرجع إلى عرض آيات المجموعة الأولى فبعد أن وضّح الله إعراضهم عن الآيات، وتكذيبهم للقرآن، ووعظهم بما أصاب الأمم السابقة، عاد إلى تبيان طبيعتهم الجاحدة، فقال: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ القرطاس الورق، والكتاب المكتوب فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. أي: اجتمع لهم مع المعاينة اللمس لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أي: واضح وإنما يقولون ذلك تعنّتا، وعنادا للحق بعد ظهوره
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ. أي: وقالوا: هلا أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ملك يعلمنا أنّه نبي وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ. أي لقضي أمر هلاكهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. أي ثمّ لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين، لأنّهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون، ومجئ (ثمّ) في هذا المقام يفيد أنّ عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر، لأنّ مفاجأة الشّدة أشد من نفس الشّدة
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً. أي: ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا (لأنّهم كانوا يقولون تارة لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة) لَجَعَلْناهُ رَجُلًا. أي لأرسلناه في صورة رجل وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ. أي لخلّطنا وأشكلنا عليهم من أمره إذا كان، فيسلكون معه كسلوكهم معك يا محمد، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك،