الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول يذكر الله- عز وجل ما حرم علينا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ .. ويأتي في هذا المقطع ذكر ما حرّمه الناس ولم يحرمه الله. ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. وفي المقطع الأول يأتي قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ويأتي في هذا المقطع قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وفي المقطع الأول يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. ويختم هذا المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ .. فههنا فقرة عن إقامة الشهادة في حالة من الحالات.
فما بين المقطع الأول، والمقطع الأخير صلات واضحة، وما بين المقاطع التي ذكرت في الوسط، والمقطع الأول والأخير صلات واضحة كذلك، فالسورة لها سياقها الخاص، ومع ذلك فإنها تفصّل في محورها من سورة البقرة لتأخذ محلها في بناء صرح المعاني القرآنية على تسلسل معيّن، ونسق معيّن.
ولعل في الكلمة الأخيرة عن السورة ما يزيد هذا الأمر بيانا، فلنبدأ عرض معاني المقطع:
المعنى العام للمقطع:
يبدأ هذا المقطع بالنهي عن تحريم ما أحل الله بالسير في غير سنة المسلمين في أمر النّساء، أو الطعام، أو الشّراب، أو اللباس، أو العادات، أو غير ذلك. وكما نهى عن تحريم الحلال، فقد نهى عن الاعتداء، لأن الله لا يحب أهله. والاعتداء في هذا المقام يحتمل التضييق على الأنفس بتحريم المباحات، أو تعذيب الجسد. ويحتمل الإسراف في تناول الحلال، فيكون طلبا بالأخذ من الحلال بقدر الكفاية والحاجة، إذ دين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط. ثم أمر الله- عز وجل بالأكل من الحلال الطيّب، كما أمر بالتقوى في جميع الأمور باتّباع طاعته ورضوانه، وترك مخالفته وعصيانه. إذ مقتضى الإيمان بالله أن يتّقى. رأينا أنّ سورة المائدة امتداد لسورة النساء، وهي من هذه الحيثيّة تكمّل بناء التقوى، وتدلّ على طريقها، وهي في الوقت نفسه تحرير للإنسان من كل الصفّات التي يضل بسببها أصحابها، فهي تخلية وتحلية.
ولذلك فإننا نجد في هذا المقطع عملية البناء وإزالة الأنقاض تتعاضدان، وعملية التحلية بالتقوى والتخلية عن الفسوق تتكاتفان، ومن ثمّ نجد في هذا المقطع النهي عن تحريم ما أحل الله، وذكر بعض ما حرّم أبدا، وذكر بعض ما حرّم في بعض الأحوال، والنهي عن السؤال ومؤاخذة من يحرّم ما أحل الله، كفعل الجاهليين في بعض الشئون.
وبيان لحكم الله في جانب من موضوع الوصايا، وكل ذلك ينتظمه المحور الذي تدور حوله سورة المائدة فلنرجع إلى المعنى العام في المقطع.
إنه قد يرافق تحريم الحلال- أو معنى من معاني الاعتداء يمين، ومن ثمّ فقد بيّن الله- عز وجل حكم الأيمان المنعقدة في هذا المقام بعد أن بين حكم يمين اللغو في سورة البقرة، فبيّن هنا أنّ الله يؤاخذ باليمين التي يرافقها تصميم وقصد، وأن مثل هذه اليمين كفارتها لمن يجب عليه أن يحنث فيها، أو يجوز- إذا أراد الحنث- واحد من ثلاثة، إما إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفّر بصيام ثلاثة أيام، ثم بيّن الله- عز وجل أن هذه هي كفّارة اليمين الشرعية، وأمر بحفظ الأيمان، إما بالبر بها، أو بالتكفير عنها، وأنّ هذا البيان لأحكامه يقتضي منّا شكرا.
وبعد أن بيّن الله- عز وجل لنا عدم جواز تحريم ما أحلّ، طالبنا بالالتزام بما حرّم، وبيّن لنا أنّ تعاطي الخمر والقمار مما حرّم، وأنّ مما حرّم الأنصاب: وهي
الحجارة التي كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأنّ مما حرم الأزلام: وهي قداح أي:
أقلام كانوا يستقسمون بها، ويستفتحون بها، ويلتزمون بتوجيهها الأعمى. ثمّ بيّن الله- عز وجل أن هذه الأشياء كلها شر وسخط من فعل الشيطان وعمله ودعوته ووسوسته، آمرا إيانا بتركها لنكون من حزب الله، ومن عباده المفلحين. ثم بيّن تعالى ما هو مراد الشيطان من دعوته لنا إلى الخمر والميسر؟ ألا وهو إيقاع العداوة والبغضاء بيننا بذلك، وتحصيل الغفلة عن الله. فحيثما وجد الخمر كان العداء والشر، وحيثما وجد القمار- جدا أو هزلا- وجدت الشحناء. وإنّما يريد الله لحزبه أن يكونوا متحابّين، ومن ثمّ حرّمهما عليهم، وحيثما وجدت الخمرة والقمار كانت الغفلة عن الله، والله يريد منا أن نكون ذاكرين، ولذلك حرم علينا الخمرة والقمار، وحضّنا على الانتهاء عنهما بعد أن أظهر لنا الحكمة في التحريم، ثمّ بيّن الله- عز وجل أنّ من آمن، وعمل صالحا، واتّقى وأحسن فليس عليه جناح فيما طعم من أنواع المباحات وما أكثرها، وأنه تعالى يحب المحسنين.
في بداية المقطع بيّن أنه لا يحب المعتدين، وهاهنا بيّن أنه يحب المحسنين، وهذا يؤكد فهمنا أنّ المقطع فيه تحرير وبناء، وتخلية وتحلية، وكذلك السورة كلها.
ثمّ بين الله- عز وجل هنا- بعد أن بيّن في أوّل السورة حرمة الصيد على المحرم أنّ الله- عز وجل قد يبتلينا في حالة إحرامنا بضعيف الصيد وصغيره حتى لو شئنا أن نناله بأيدينا لنلناه، وقد يبتلينا بالكبار منه حتى لو شئنا أن نناله بأسلحتنا لنلناه، وذلك كله اختبار لنا لتظهر طاعة من يطيع منّا في سرّه وجهره فيما نهانا عنه وحرّمه علينا. إنّه قد يختبرنا بالصّيد يغشانا في رحالنا نتمكن من أخذه بالأيدي والسّلاح في حالة إحرامنا، ليظهر من يخاف الله بالغيب ممّن لا يخافه، ثمّ بين تعالى أنّ من يعتدي بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدّم فإنّ له عذابا أليما لمخالفته أمر الله وشرعه، ثمّ نهى الله- عز وجل عن قتل الصيد في حال الإحرام، وهذا تحريم منه تعالى للصيد في تلك الحالة ونهي عن تعاطيه، وما يدخل في هذا وما يستثنى منه سنراه، ثمّ بيّن تعالى أنّ من أصاب صيدا عمدا أو خطأ فعليه الجزاء، مع ملاحظة أنّ المتعمّد مأثوم، والمخطئ غير ملوم. وأن هذا الجزاء ينبغي أن يكون من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، وهل تصح القيمة أو لا تصح؟ قولان للفقهاء، وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة كما رواه البيهقي.
وتفصيل هذا سنراه. هذا الجزء يجب أن يكون الحكم فيه في المثلي، أو بالقيمة في غير المثلي، لرجلين عدلين من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين أولا؟ على قولين سنراهما، هذا الجزاء يجب أن يصل إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك، ويوزّع لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة، وإذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم، أو لم يكن الصيد من ذوات الأمثال فإنه يقوّم مثله من النعم لو كان موجودا، ثم يشترى به طعام فيتصدق به لكل مسكين مدّ على رأي، ومدّان على رأي آخر، فإن لم يجد صام عن إطعام كل مسكين يوما، وبعضهم قال: هو في الأصل مخيّر بين الجزاء والإطعام، فإن لم يجد فالصيام. واختلفوا هل لا يجوز الإطعام إلا في الحرم على قولين، وتفصيل ذلك كله سيأتي، وإنما فرض الله الجزاء والكفّارة تأديبا، ثمّ بين الله- عز وجل أنّ هذا الحكم لا يطالب به أحد قبل نزوله، فإنّ ما كان من قبل ذلك فهو عفو، ثمّ هدّد الله من يجترئ على الصيد وهو محرم بحيث يتكرر منه الاجتراء بالانتقام منه، فالله- عز وجل عزيز منتقم بمعنى: أنّه منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام
أحد ممّن يريد أن ينتقم منه، ولا يمنعه من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأنّ الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزّة والمنعة، وهو ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه، ثمّ بيّن تعالى أنّ الصيد المحرّم على المحرم هو صيد البر، وأمّا صيد البحر وطعامه مما اصطدناه وما لفظه فهو مباح لنا في كل حال، منفعة لنا وقوتا، ثمّ أمرنا بتقواه، كيف لا وإليه سنحشر ونحاسب. ثمّ بيّن الله- عز وجل في هذا المقام ماهيّة الحكمة من جعله الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد من شعائره، فبيّن أنّ الحكمة في ذلك شيئان.
الأوّل: انتعاش الناس في أمر دينهم ونهوضهم إلى أغراضهم في معاشهم. والثاني: هو أن نزداد علما بالله، علما بمالكيته لما في السموات والأرض من خلال ممارسة شعائر الحج، وعلما بأنه بكل شئ عليم من خلال ذلك كذلك.
ثمّ أمرنا الله- عز وجل في هذا السياق أن نعلم أنّه شديد العقاب، كما أنه غفور رحيم حتى لا تنسينا رؤية الجلال عن مشاهدة الجمال، ولا تجرّئنا رؤية الرحمة على المعصية، كما لا تقنطنا رؤية العقوبة من الرحمة. ثمّ بيّن أنّ على الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ والله هو الذي يعلم كل شئ فيحاسب، وفي هذا المقام- مقام البيان أن على الرسول البلاغ فقط- يأمر الله رسوله أن يبيّن أنّ القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار، ثمّ نادى أصحاب العقول الصحيحة المستقيمة أن يتقوه باجتناب الحرام وتركه، والقناعة بالحلال والاكتفاء به للوصول إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، ثمّ أدّب الله- عز وجل عباده فنهاهم عن السؤال عن أشياء لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنّها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربّما ساءتهم، وشقّ عليهم سماعها، مبيّنا لهم أنّهم إن سألوا عن هذه الأشياء التي نهوا عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيّن لهم، وعندئذ يكون سؤالهم من أجل فهم الوحي، وأما قبل ذلك فيكون من باب التكلّف، ثمّ طمأنهم الله تعالى عن عفوه عمّا كان منهم قبل ذلك؛ إذ أنّه الغفور الحليم الذي لا يعاقب قبل البيان. ثمّ بيّن تعالى الحكمة في النهي عن الأسئلة وما ذاك إلا لعلمه تعالى بالطبيعة البشرية، فلقد سأل المسائل قوم من قبلنا فأجيبوا عنها، ثمّ لم يؤمنوا بها، فأصبحوا كافرين أي بسببها. أي: فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد، يفهم من ذلك أن طاقة البشر في موضوع الإيمان محدودة والله- عز وجل إنّما ينزّل على عباده بما يتناسب وهذه الطاقة، وعند ما يسأل الناس قد لا يوفقون في سؤالهم، فإذا ما أجيبوا ترتب على ذلك حرج ومشقّة، فنهوا أن يبتدءوا سؤالا، وسمح لهم أن يستفهموا. وأن يتفقّهوا. ثمّ بيّن
الله- عز وجل حكمه في قضية من قضايا الجاهليين، فقد كان الجاهليون يتركون بعض الأنعام لا يجيزون حلبها لأحد من الناس، وهذه هي البحيرة، ويتركون بعض الأنعام يسيّبونها لآلهتهم فلا يحملون عليها شيئا، وهذه هي السائبة. وكانت الناقة البكر إذا بكّرت في أول نتاج بأنثى ثم ثنّت بأنثى يسيّبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، وهذه هي الوصيلة، وسنرى تفسيرا آخر للوصيلة، وكان الفحل من الإبل إذا لقح عددا من الإناث دعوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شئ وسمّوه الحامي.
بين الله- عز وجل أن هذا كله ليس من دينه ولا شرعه، وليست هذه الأشياء عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم وقربة يتقربون بها إليه، وليس ذلك بحاصل لهم بل هو وبال عليهم، وهم في هذا كله كاذبون على الله وجهلة لا عقل لهم إذ يضيّعون المال بلا مقابل، والجنون في هؤلاء أنّهم إذ دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه، وإلى ترك ما حرّمه مما فيه مصلحتهم في دنياهم وأخراهم قالوا:
يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد، من الطرائق والمسالك مع ما عليه الآباء من الجهل والضلال، فلا علم ولا هداية، ولا فهم ولا معرفة، فكيف يتّبعونهم والحالة هذه، ألا إنه لا يتّبعهم في هذه الحالة إلا من هو منهم وأضلّ سبيلا. ثمّ أمر الله- عز وجل عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجدهم وطاقتهم، مخبرا لهم أنّه من أصلح أمره لا يضرّه فساد من فسد من النّاس، سواء كان قريبا منه أو بعيدا.
وأن لله المرجع، وهو الذي سيحاسب ويجزي كلّا بعمله، ثم بيّن الله- عز وجل أنه في حالة كون الواحد منا مسافرا وأدركته الوفاة فإنّ عليه في هذه الحالة أن يوصي، وأن يشهد على وصيته اثنين من عدول المسلمين، فإذا لم يتوافر له ذلك فليشهد اثنين من غير المسلمين، وإنّما جاز استشهاد غير المسلمين في هذه الحالة للضرورة عند فقد المسلمين. قال شريح: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلّا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في الوصيّة. فإذا شكّ ورثة الميّت بأنّهما خانا أو غلّا أو غير ذلك، حبسا بعد صلاة يجتمع فيها الناس، فيحلفان بالله أنّهما لا يشتريان بأيمانهما أي: لا يعتاضان بها عوضا من الدنيا الفانية الزائلة، ولو كان المشهود عليهم قريبا فإنّهما لا يحابيان، وإنهّما لا يكتمان الشهادة، وأنّهما إن فعلا ذلك من تحريف الشهادة، أو تبديلها، أو تغييرها، أو كتمانها بالكلية، يكونان من الآثمين، فإن اشتهر وظهر وتحقّق من الشاهدين الوصيّين أنهّما خانا أو غلّا شيئا من المال الموصى به إليهما، وظهر عليهما بذلك، وتحقق ذلك