الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجاء هذا المقطع مذكرا بالعهود الأساسية التي أخذت على بني إسرائيل والتي منها:
إقامة الصلاة، ونصرة الرّسل، وكيف كان موقفهم منها لتأخذ هذه الأمة عبرة.
وأرانا المقطع كيف أن بني إسرائيل نكصوا عن القتال، وفي هذا السياق يأتي الكلام عن القتل الظالم ليكون ذلك كله مقدمة للمقطع الذي فيه أمر بالجهاد، وقطع يد السارق، فكان بمثابة استمرار للكلام عما به تنحسم مادة الفساد في الأرض.
فالمقطع الثاني، يقدم للمقطع الثالث، ويضرب الأمثلة التي تعين علي القيام بأمر الله فهو يخدم معاني المقطع الأول ويمهد لإقامة معاني المقطع الثالث.
والملاحظ أن موسى عليه السلام قدّم للأمر بالجهاد بالتذكير بنعمة الله على بني إسرائيل، وقد ختم المقطع الأول بالتذكير بالنعمة على هذه الأمة. ثم جاء المقطع الثالث ليأمر بالجهاد مما يرينا كيف أنّ المقطع الثاني خدم المقطع الأول، وأن المقطع الأول والثاني يخدمان في تحقيق معاني المقطع الثالث. وصلة ذلك بالتربية والبناء لأمتنا من حيث إن المقاطع تأخذ بيدها شيئا فشيئا، لا تخفى. وهذا أوان الشروع في تبيان المعاني العامة للمقطع الثاني.
المعنى العام:
لمّا أمر الله عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم في ابتداء المقطع الأول، وفي أواخره كما رأينا. شرع يبيّن لهم كيف أنّه أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين اليهود والنّصارى، فلمّا نقضوا عهوده ومواثيقه، أعقبهم ذلك لعنا منه لهم، وطردا عن بابه وجنابه، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق. وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل من كون محور سورة المائدة هو قوله تعالى في سورة البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ....
وقد بيّن الله- عز وجل في الفقرة الأولى من المقطع، والتي لها علاقة بأخذ الميثاق كيف أنّه أخذ الميثاق على بني إسرائيل في زمن موسى، وكيف أنّه جعل عليهم اثني عشر نقيبا على كل سبط منهم نقيب. ووعدهم الله- عز وجل بالنّصر والرّعاية
إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصدّقوا رسل الله، ونصروهم، وأنفقوا في سبيل الله. ووعدهم كذلك مع الرعاية والنصرة- إن وفوا بهذا- أن يمحو عنهم ذنوبهم، ويسترها عليهم فلا يؤاخذهم بها، وأن يدخلهم جنّته، ثمّ هدّدهم أنّه من خالف هذا الميثاق من عقده وتوكيده وشدّه. فجحده وعامله معاملة من لا يعرفه فقد أخطأ الطريق الواضح، وعدل عن الهدى إلى الضّلال، ثمّ أخبر تعالى عما حلّ بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، لقد أبعدهم عن الحق، وطردهم عن الهدى، وجعل قلوبهم قاسية لا تتعظ بموعظة حتى تأوّلوا كتابه، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، وتركوا العمل به رغبة عنه، ونسوا قسما منه فعطلوه، ثم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن حالهم الملازم لهم هو المكر والغدر والخيانة، وأنّه لا يزال يطّلع عليها منهم، وأمره مع هذا بالعفو عنهم والصفح إحسانا لأن الله يحب المحسنين، وهذا- والله أعلم- عند ما يكونون ذمّة للمسلمين، وأما في حالة كونهم أهل حرب فالحذر والحرب، وبعضهم قال إن الأمر بالصفح والعفو كان قبل الأمر بالقتال، وفي المعنى الحرفي بيان، وبعد أن بيّن الله- عز وجل الميثاق الذي أخذه على اليهود، وعقوبتهم إذا خالفوه، بيّن عاقبة النصارى إذ نقضوا ميثاقه، فنسوا قسما مما ذكّروا به، فعاقبهم على ذلك في الدنيا، بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة، كل طائفة منهم تكفّر الأخرى، وعذاب في الآخرة أكبر إذ يحاسبهم على ما
ارتكبوا من الكذب عليه سبحانه وعلى رسله عليهم السلام، وما نسبوه إلى الربّ- عز وجل وبعد أن بيّن الله- عاقبة نقض الميثاق، وجّه النّداء لأهل الكتاب في هذا السياق، مخبرا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أمّيّهم وكتابيّهم، وأنّه بعثه بالبيّنات، والفرق بين الحقّ والباطل، مبيّنا لهم ما بدّلوه وحرّفوه وأوّلوه وافتروا على الله، ويسكت عن كثير مما غيّروه مما لا فائدة في بيانه، ثمّ أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيّه الكريم، فوصفه بأنه نور وكتاب واضح، وأنّ الذي يتّبع رضوان الله يهتدي به إلى طريق النّجاة والسّلامة ومناهج الاستقامة، فينجّيهم من المهالك، ويوضّح لهم أين المسالك، ويصرف عنهم المحذور ويحصّل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضّلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة.
وبعد أن بيّن الله عاقبة نقض الميثاق، وبيّن لأهل الكتاب مهمّة من مهمّات رسوله،
ووصف كتابه حق وصفه مما يستدعي عند أهل الإنصاف الإيمان بسبب هذا الكمال الذي لا يشك معه أنّ محمدا رسول الله، وأن القرآن كتاب الله، بعد أن بيّن هذا، حكم بكفر النّصارى في ادّعائهم في المسيح ابن مريم- وهو عبد من عباد الله وخلق من خلقه- أنّه هو الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، ثمّ أخبر تعالى عن قدرته على الأشياء كلها، وكونها تحت قهره وسلطانه بأنه لو أراد إهلاك المسيح وأمّه وأهل الأرض كلهم فمن ذا الذي كان يمنعه من ذلك؟ أو من ذا الذي يقدر على صرفه؟ وإذ كان الأمر كذلك فهو وحده الربّ والإله. ثم أخبر تعالى أن جميع الموجودات ملكه وخلقه، وهو القادر على ما يشاء، لا يسأل عمّا يفعل لقدرته وسلطانه وعدله وعظمته، وهل المسيح وأمه إلا من جملة ملكه فأنى يكون إلها؟ ثم ردّ على اليهود والنّصارى ادّعاء كلّ منهم أنّهم أبناء الله، وأنّ له بهم عناية، وأنّه يحبهم بحكم انتساب كلّ منهم إلى من هو حبيب لله. فردّ الله عليهم ذلك، بأنّه لو كنتم كما تدّعون فلم يعذّبكم في الدنيا؟ وأعد لكم نار جهنّم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ ثم بيّن الله- عز وجل أنّهم ليسوا إلا بشرا من البشر، وأن إليه أمر العذاب والغفران، وأنّه ينال غفرانه بسلوك طريق ذلك، ثم بيّن أنّ الكون كله ملكه، وتحت قهره وسلطانه، وأنّ إليه المرجع والمآب، فلا فرار منه إلا إليه باتّباع رسوله صلى الله عليه وسلم وقرآنه.
ثمّ خاطب مرة ثانية أهل الكتاب بعد تبيانه هذه المعاني كلها، مبيّنا أنّه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيّين، الذي لا نبيّ ولا رسول بعده، بل هو المعقّب لجميعهم، أرسله بعد مدة متطاولة بينه وبين آخر رسول بعث قبله وهو عيسى، أرسله بعد طموس السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنّيران والصّلبان. فكانت النّعمة به أتمّ النّعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإنّ الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا الأنبياء الأقدمين، وكان الدّين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتّى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فهدى الخلائق، وأخرجهم الله به من الظّلمات إلى النّور، وتركهم على المحجّة البيضاء، والشّريعة الغراء من أجل ألا يحتج من بدّل وغيّر. بأنه ما جاءه من رسول يبشّر بدين الله، وينذر من مخالفة دينه. فها قد جاء البشير والنذير محمّد صلى الله عليه وسلم، والله سيتولى عقوبة من خالفه وعصاه، وثواب من أطاعه.
وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من هذا المقطع والسؤال الآن هو:
ما الصلة بين موضوع الميثاق الوارد في أول هذه الفقرة، وخطاب أهل الكتاب باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. والجواب- والله أعلم- أنّه لمّا كان من الميثاق الإيمان بالرسل ونصرتهم، فقد ذكّر الله- عز وجل أهل ذلك بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عليهم أن يؤمنوا به وينصروه، ثمّ إن الخطاب بالإيمان قد جاء بعد تبيان عقوبة نقض الميثاق من قبل وكيف أن نقض الميثاق فيه ما فيه. فكيف بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قامت به الحجة على الخلق بما لا مزيد عليه؟ فإن استحقاق العقوبة أبلغ.
ومن هذه الفقرة نفهم أنّ الوفاء بالميثاق لا يتمّ إلا بإقام الصّلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، ونصرتهم، والإنفاق في سبيل الله، فإذا ربطنا بين هذا المقطع وبين محور السورة في سورة البقرة علمنا أنّ الذي ينقض واحدة من هذه المعاني لا يهتدي بكتاب الله، لأن الله تعالى قال هناك: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
…
فإذا أدركنا هذا عرفنا سرا آخر من أسرار الصلة بين خطاب أهل الكتاب والكلام عن الميثاق في أول هذه الفقرة، إذ بيّن في خطاب أهل الكتاب صفات الذين يستأهلون الاهتداء بكتاب الله قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ .. فارجع الآن وتأمل الآيتين اللتين قلنا إنهما محور سورة المائدة وهما قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ لتجد الرّبط الكامل ما بين أجزاء هذه الفقرة أولا، وبين هذه الفقرة والمقطع قبلها ثانيا، وما بين ذلك والسياق القرآني العام ثالثا، على النّسق الوارد في سورة البقرة بهذا الشكل المعجز، نسأل الله أن يلهمنا شكره وأن يدخلنا جنته.
وبعد الفقرة الأولى من هذا المقطع، تأتي الفقرة الثانية التي تعرض علينا موقفا من مواقف بني إسرائيل فما الصلة بينها وبين ما سبقها؟.
أمّا الصلة بينها وبين الفقرة الأولى فقد رأينا أن الإيمان بالرّسل ونصرتهم جزء من الميثاق، وهذه الفقرة تبيّن موقفا من مواقف بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، وتقاعسهم عن النّصرة والقتال فيما هو مصلحتهم، وعقوبتهم على ذلك. وأمّا الصلة بين هذه الفقرة والمقطع السابق، فقد رأينا أن المقطع السابق ختم بالتذكير بنعمة الله، إذ كفّ أيدي من أراد الأذى بالمسلمين عن المسلمين. وطولب المسلمون على أثر ذلك بالتوكل على الله في السّلم والحرب وغير ذلك. وفي هذه الفقرة: يذكّر موسى عليه السلام
بني إسرائيل بنعمة الله ليقوم على ذلك توكل يدخل فيه اليهود حربا فيرفضون، ويعاقبون. والتربية في ذلك لهذه الأمّة واضحة، وسنرى أنه بعد هذا المقطع سيأتي أمر
لأمتنا بالجهاد فلا ينبغي أن تكون كبني إسرائيل، وأما المعاني العامة في هذه الفقرة الثانية فهي:
يخبر تعالى عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام فيما ذكّر به قومه من نعم الله عليهم، وآلائه لديهم، في جمعه لهم خيري الدنيا والآخرة، لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة. ومن ذلك إرسال الرسل إليهم، وجعلهم أحرارا يتملكون، وتشريف الله إيّاهم على عالمي زمانهم، ثم بنى موسى عليه السلام على هذا التذكير الأمر لهم بالقتال، ودخول الأرض المقدّسة الّتي وعدهم الله إياها على لسان أبيهم إسرائيل- إن كانوا مؤمنين- ونهاهم عن النّكول عن الجهاد، وهدّدهم بالخسران إن نكلوا، فاعتذروا عن الجهاد والدّخول، بأنّ في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال قومها قوما جبّارين، ذوي خلقة هائلة، وقوّة شديدة، وإنا لا نقدر على مقاتلتهم، ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدّخول إليها ما داموا فيها. فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم، ثمّ أخبر تعالى أنّ رجلين يخافان أمر الله، ويخشيان عقابه، حرّضا بني إسرائيل بأنهم إن توكلوا على الله، واتّبعوا أمره، ووافقوا رسوله، وقاتلوا وهاجموا؛ أيّدهم الله، ونصرهم، ونجحوا في احتلال الأرض، وهاهنا أصروا مرّة ثانية على النكول، ورفض الدخول، وترك الجهاد، وطالبوا- بكل صفاقة- موسى عليه السلام أن يقاتل هو وربه وحدهما، أما هم فإنهم قاعدون في مكانهم، فاعتذر موسى عليه السلام إلى الله أنه لا يطيعه أحد منهم إلا أخوه، ودعا الله أن يقضي ويفصل بينه وبين قومه الفسقة، فعاقبهم الله- عز وجل حين نكلوا عن الجهاد بتحريم دخولهم عليهم مدّة أربعين سنة، وعاقبهم على ذلك كذلك بالتيه في الأرض، ثم سلّى الله موسى عليه السلام، وأمره ألّا يأسف، وألّا يحزن عليهم فيما حكم عليهم به فإنهم مستحقّون ذلك.
وانتهاء الفقرة بقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ مشعر بأنّ ترك الجهاد المفروض والنكول عنه فسوق. ومشعر بالصّلة بين الفقرة ومحور السورة من سورة البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
…
وأن الجهاد جزء من الميثاق، الذي من تخلى عنه استحق الضّلال والإضلال، وهذا يفهم من أول هذا المقطع وَعَزَّرْتُمُوهُمْ
…
لأن النّصرة الحقيقية الكاملة إنّما تكون بالجهاد.
فإذا اتضح هذا المعنى فلنتذكر: أنّ محور سورة المائدة هو آيتا سورة البقرة إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ*.
وعلى هذا فمحور سورة المائدة يتضمّن خطين: الخط الأول: الأوامر التي لو أطاعها الإنسان ينال الهداية. الخط الثاني: الأشياء التي إذا أخلّ بها الإنسان استحقّ الضّلال من مثل نقض الميثاق، والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ومن ثمّ كان فهم سورة المائدة والتخلق والتحقق بما طولبنا به فيها من الأهمية بالمكان العظيم وقدر رأينا فى سورة البقرة أن استحقاق الضلال بثلاثة:
1 -
بنقض الميثاق. 2 - بقطع الصلة اللّازمة. 3 - بالإفساد في الأرض. وقد جاء المقطع الأول يأمر بالوفاء بالعقود. وجاء المقطع الثاني يبيّن عاقبة نقض المواثيق في فقرته الأولى. وعاقبة نقض نوع منها في فقرته الثانية، وأما الفقرة الثالثة فإنّ فيها بيانا لأفظع أنواع الإفساد في الأرض، وهو القتل. وهكذا يمضي السياق مربيّا ومنفّرا ضمن محور خاص، وعلى نسق محدّد، ولننتقل إلى استعراض المعاني العامّة للفقرة الثالثة:
أخبرنا تعالى في الفقرة الثالثة عن قابيل وهابيل ولم يسمّهما- ولكن ذكر غير واحد من السلف والخلف أنهما المرادان هنا- وكيف عدا أحدهما على الآخر فقتله بغيا عليه وحسدا له فيما وهبه الله من النّعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله- عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام، والدّخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين، وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السّلف والخلف: إنّ الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوّج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فكان يزوّج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقرّبا قربانا، فمن تقبّل منه فهي له فتقبّل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصّه الله في كتابه، إذ أمر رسوله أن يقصّ خبر ابني آدم هذين على الأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة
ولا نقصان، إذ قرّبا قربانا، فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، فغضب قابيل على أخيه، وحسده بسبب ذلك، وهدّده بالقتل، فكان رد هابيل أن ذكر أنّ سنّة الله أن يتقبل من أهل التقوى، ثم أعلمه بأنه إن مدّ إليه يده بالقتل فإنه لن يقابل صنيعه الفاسد بمثله، لأنه يخاف الله ربّه، ثمّ علّل سبب استسلامه للقتل بأنه يريد من صبره على قتل أخيه أن يبوء أخوه بإثم قتله مع آثامه السابقة ليكون من المعذّبين عند الله بسبب ظلمهم. وفي ذلك عظة وردع لقابيل، إلا أنه لم يتّعظ، ولم يرتدع، فحسّنت له نفسه قتل أخيه، وشجعته عليه فقتله، فأصبح من الخاسرين في الدنيا والآخرة وأيّ خسارة أعظم من هذا؟ فلما مات أخوه تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفنه، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه فلما رآه سفّه نفسه أن يكون أعجز من الغراب في دفن أخيه، فدفنه فعلّاه الله بندامة بعد خسران. ثم يستمر السياق مبينا أنه من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانا شرع الله لبني إسرائيل وأعلمهم، وجعله شريعة دائمة: أنه من قتل نفسا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنمّا قتل النّاس جميعا، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها أي: حرّم قتلها، واعتقد ذلك، فقد سلم النّاس كلّهم منه بهذا الاعتبار. ومن ثمّ فكأنه أحيا الناس جميعا بذلك. ثم بيّن الله- عز وجل أنّ رسل بني إسرائيل قد جاءتهم بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة، ومع ذلك فإنّ كثيرا منهم متّصف بالإفساد في الأرض. ومن هنا نفهم أن قوله تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ. أي: على اليهود قصة ابني آدم، وما ترتب عليها من حكم قطعي لله في موضوع القتل، وموقفهم من ذلك، نفهم من هذا أنّ السّياق في هذه الفقرة مستمرّ في قضيّة نقض الميثاق، في موضوع تشريعيّ، هو عصمة دم الإنسان إلّا بحق، ونقض بني إسرائيل لهذا.
ثمّ ختم الله- عز وجل هذا المقطع الذي قرّر فيه وجوب نصرة الرسل، وحرمة الإفساد في الأرض، كجزء من الميثاق، بأن ذكر عقوبة حرب الله ورسوله، وعقوبة الإفساد في الأرض وهو القتل أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض بحسب جناية الجاني وأن هذه العقوبة لهم شر وعار، ونكال وذلّة وعقوبة في عاجل الحياة الدّنيا، ومع هذا الجزاء في الدنيا فإنّ لهم عذاب جهنّم يوم القيامة. واستثنى الله- عز وجل من العقوبة التائبين قبل القدرة عليهم، فإنّ من كمال