الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد فصّلت سورة النساء، والمائدة، والأنعام في مقطع الطريقين من سورة البقرة، المقطع الذي دلّ على طريق التقوى، وحدّد طريق الانحراف، وناقش أصل الانحراف، وهو الكفر، مدلّلا على وجوب التوحيد والعبادة، شكرا لله على ما أعطى الإنسان وسخره له. إن مقطع الطريقين بدأ بالدعوة إلى العبادة، معلّلا لوجوبها بخلق الله عز وجل للإنسان، وخلقه الأشياء من أجله، وانتهى بمناقشة الكافرين بالله، وإقامة الحجة عليهم من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، وجاءت السور الثلاث لتفصّل في هذا كله مع ملاحظة: أنّ كلا من السور الثلاث تفصّل في محورها الخاصّ بها، وتخدم في موضوع المقطع كله، فكل سورة من السور الثلاث تخدم في تفصيل محورها بشكل أوّلي، وتخدم بقية المقطع، فتمّ بالسور الثلاث التعريف على الله، وتقرير الرجوع إليه، وتفصيل ماهية التقوى وطريقها سلبا أو إيجابا أي: ما ينبغي أن يحذر، وما ينبغي أن يفعل، وسورة الأنعام كما ذكرنا تفصّل في محورها الذي هو كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مع كونها تكمّل بناء معرفة الطريقين الذين دلّت عليهما سورة النساء وسورة المائدة.
فصول ونقول
فصل في نقل عن الألوسي في وجه مناسبة سورة الأنعام لسورة المائدة:
قال الألوسي: «ووجه مناسبتها لآخر المائدة على- ما قال بعض الفضلاء- أنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه:
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة: أنه تعالى لمّا ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله، فبدأ سبحانه بذكر خلق السموات والأرض، وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه ما فيهن، ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني، وقضى له أجلا، وجعل له أجلا آخر للبعث، وأنه جل جلاله منشئ القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ الخ .. فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عزّ من قائل: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدوّاب والطير، ثم
خلق النوم واليقظة والموت. ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النّيّرين والنجوم، وفلق الإصباح، وفلق الحب والنوى، وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات، إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الخ ..
وذكر جل شأنه بعده ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ الخ .. فأخبر عن الكفار أنهم حرّموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عزّ شأنه، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك؛ فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز، ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم، فأتى به على الوجه الأبين، والنّمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك، مما اشتملت عليه السورة، فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال، وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا، وافتتحت بذكر الخلق والملك، لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه
ومخلوقاته، إباحة ومنعا، وتحريما وتحليلا، فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وقوله عزّ اسمه الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله تعالى جل وعلا وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ الخ .. وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات. وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال: إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع، ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفرايني: إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام، وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد، وافترائهم الباطل هذا، ثم أنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى ممّا تفوت الحصر، ولا يحيط بها نطاق العد، إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى، وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة، وأشير في الفاتحة- التي هي أم الكتاب- إلى الجميع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى الإبقاء الأول. وفي سبأ الإيجاد الثاني، وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد.