الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمْثالُكُمْ. أي: إلا خلق أمثالكم في الحياة والموت، والاحتياج إلى مدبّر يدبّر أمرها، وفي القوانين التي تخضع لها وتنتظمها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ.
أي: ما تركنا في الكتاب من شئ، والكتاب يحتمل أن يكون المراد به اللوح المحفوظ، ويحتمل أن يكون المراد به القرآن. فإن أريد به اللوح المحفوظ كان المراد: ما تركنا من شئ لم نكتبه في اللوح المحفوظ، وإن كان المراد به القرآن كان المعنى: ما تركنا في القرآن من شئ يحتاج الخلق إلى بيانه إلا وقد اشتمل عليه القرآن، وقد جاء هذا التقرير في سياق الكلام عن كون كلّ نوع من دوابّ الأرض، وكل نوع من الطيور، أمة لها من الخصائص، والقوانين، واللغة، والعادات، ما به تسمّى أمة، وعلم دراسات الحيوانات أعطانا- حتى الآن- من هذا الكثير، فإشارة القرآن إلى ذلك هنا معجزة منفردة، وهو في الوقت نفسه دليل على أنه ما من شئ إلا وفي القرآن بيان عنه. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ في تفسير الحشر هنا اتجاهان للمفسرين، الاتجاه الأول: اتجاه من يفسر حشر البهائم بأنه موتها، والاتجاه الثاني يفسّر حشرها ببعثها وإقامة العدل فيما بينها، ثم إفنائها، وفي الفوائد سنذكر مزيدا عن هذا الموضوع، ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته في هذه الآية ما يشهد لربوبيته، وينادي على عظمته،
قال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ. أي: لا يسمعون كلام المنبّه وَبُكْمٌ. أي: لا ينطقون بالحق فِي الظُّلُماتِ. أي: خابطون فيها، وجمعت الظلمات لكثرة أنواعها، ظلمة الجهل، والحيرة، والكفر، والغفلة عن تأمل ذلك والتفكر فيه مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ. أي: من يشإ الله ضلاله يضلله، وفي هذا إيذان بأنّه فعّال لما يريد وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بأن يهديه للإسلام وفي هذا الكلام دليل على خلق الأفعال، وإرادة المعاصي، ونفي وجوب الأصلح عليه، وهي قضايا خالف بها المعتزلة، وإذ وصل السياق إلى هذا المعنى تأتي مجموعة أوامر بلفظ (قل) موجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأمره أن يقول معاني محددة للكافرين، فيها ردود على اقتراحهم الآيات.
ولقد استخرج صاحب الظلال من هذا المقام- مقام اقتراح الآيات والموقف منها درسا سجّله وننقله بين يدي العلاج القرآني الذي ستعرضه المجموعات اللاحقة:
فصل في الموقف من الاقتراحات
يقول صاحب الظلال:
«من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين، أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجّه إليهم الدعوة، في تحوير منهج دعوته عن طبيعة الربانية؛ ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم .. ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق- وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى، منها في هذه السورة وَقالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ!
…
وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات. ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ- كَما زَعَمْتَ- عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ! .. وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها!.
والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجة من السورة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية- أية آية- مما يطلبون. وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ* إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ .. وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عند ما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها! قيل لهم: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ* وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ .. ليعلموا أولا: أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية، والدليل على الحق، ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون، وأنهم موتى وأن الله لم يقسم لهم الهدى- وفق سنة الله في الهدى والضلال كما أسلفنا- ثم ليعلموا كذلك: أن هذا الدين يجري وفق سنة لا تتبدل، وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم!
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني .. إنه ليس خاصا بزمن، ولا
محصورا في حادث ولا مقيدا باقتراح معين. فالزمن يتغير، وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى، وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر.
وهناك من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى، ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات .. كالاشتراكية .. والديمقراطية .. وما إليها .. ظانين أنهم يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة! .. إن «الاشتراكية» مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر؛ قابل للصواب والخطأ. وإن «الديمقراطية» نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك، يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضا .. والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادى، والنظام الاجتماعي الاقتصادى، والنظام التنفيذي والتشكيلي .. وهو من صنع الله المبرّأ من النقص والعيب .. فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله- سبحانه- عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر؟ بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله- سبحانه- عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد؟! ..
لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه .. يتخذونهم أولياء: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى .... فهذا هو الشرك! فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده، ولكنهم- ويا للنكر والبشاعة! - يستشفعون لله- سبحانه- عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم؟! ..
إن الإسلام هو الإسلام. والاشتراكية هي الاشتراكية. والديمقراطية هي الديمقراطية .. ذلك منهج الله، ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له، والصفة التي وصفه بها .. وهذه وتلك من مناهج البشر. ومن تجارب البشر. وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس .. ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله، أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلّب. وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله!
على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم، ولم يقدّروا الله حق قدره .. إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية، وباسم الديمقراطية، لأن هذين زيّان من أزياء الاتجاهات المعاصرة .. فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي! كما كان الحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وما تزيني مثلا! وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية، وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد، فكيف يا ترى ستقولون غدا عن الإسلام؟ لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس؟!
إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها- وفي غيرها كذلك- يشمل هذا كله .. إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه؛ فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين، ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه، ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته .. إن الله غني عن العالمين. ومن لم يستجب لدينه عبودية له، وانسلاخا من العبودية لسواه، فلا حاجة لهذا الدين به، كما أنه لا حاجة لله- سبحانه- بأحد من الطائعين أو العصاة. ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه، التي يريد الله أن تسود البشرية. فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل، وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية
…
إن الذي نزّل هذا الدين بمقوماته وخصائصه، وبمنهجه الحركي وأسلوبه، هو- سبحانه- الذي خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه .. ».
***