الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ..
وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهناك ألوان من العذاب باقية. والبشرية- وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شئ- تذوق منها الكثير. على الرغم من هذا النتاج الوفير، ومن هذا الرزق الغزير!
إن العذاب النفسي، والشقاء الروحي، والشذوذ الجنسي، والانحلال الخلقي ..
الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع؛ وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية، التي تباع فيها أسرار الدولة، وتقع فيها الخيانة للأمة، في مقابل شهوة أو شذوذ .. وهي طلائع لا تخطئ على نهاية المطاف!
وليس هذا كله إلا بداية الطريق .. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا- على معاصيه- ما يحب فإنما هو استدراج» .. ثم تلا:
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ. حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ
…
(رواه ابن جرير وابن أبي حاتم).
غير أنه ينبغي، مع ذلك، التنبيه إلى سنة الله في تدمير (الباطل) أن يقوم في الأرض (حق) يتمثل في (أمة) .. ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ..
فلا يقعدنّ أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجرى سنة الله بلا عمل منهم ولا كد. فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق، ولا يكونون أهله .. وهم كسالى قاعدون
…
».
ثم تأتي
المجموعة الثامنة
في الجولة الأولى من المقطع الثاني من سورة الأنعام وفيها حوار وعرض سنن، وإقامة حجة، وهي مبدوءة بكلمة «قل» ويتكرّر فيها هذا الأمر أكثر من مرّة فلنر المجموعة:
المجموعة الثامنة
قُلْ. أي: يا محمد لهؤلاء المكذّبين المعاندين أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ بأن أصمّكم وأعمالكم أي سلبكم إياها كما أعطاكموها وهذا تدليل على قدرة الله، كما هو تذكير بطرق النظر المؤدية إلى الإيمان لأنّه وارد في سياق اقتراحهم الآيات وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ فسلب العقول والتمييز، ثمّ سألهم: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ. أي: هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم؟ بل
لا يقدر على ذلك أحد سواه انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ. أي: نكرّرها ونبيّنها ونوضّحها ونفسّرها، دالة على أنه لا إله إلا الله، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال، وبدلا من رؤية الآيات والوصول من خلالها إلى الإيمان يقترحون الآيات والمعجزات تعنتا وعنادا، ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ. أي: ثم هم يعرضون عن الآيات بعد ظهورها، والصدوف: الإعراض عن الشئ.
ثمّ يأتي أمر آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصيغة (قل): قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً. أي: فجأة بأن لم نظهر أماراته أَوْ جَهْرَةً. أي: ظهرت أماراته هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. أي: ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ مبشّرين بالجنان لأهل الإيمان، ومنذرين بالنيران لأهل الكفران، قال النسفي: ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة. وقال ابن كثير: مبشّرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ. أي: فمن آمن من قلبه بما جاءوا به، وأصلح عمله باتباعه إياهم فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. أي: بالنسبة لما يستقبلونه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أي: بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا فالله وليهم فيما خلّفوه، وحافظهم فيما تركوه
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.
أي: ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل، وبما خرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته، جعل العذاب ماسّا كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام، وقوله تعالى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني أن ذلك بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى بالكفر وفي هذه المجموعة بيان أن العذاب لا يصيب إلا الظالمين الفاسقين، وأن المؤمنين الصالحين في أمان في دنياهم وأخراهم،
والآن يأتي أمر آخر بصيغة (قل): قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ. أي: قسمه للخلق وأرزاقه، أو لست أملك خزائنه ولا أتصرف فيها وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ. أي: ولا أقول لكم إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله- عز وجل ولا أطّلع منه إلا على ما أطلعني عليه وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ. أي: ولا أدعي أنّي ملك، إنّما أنا بشر من البشر يوحى إليّ من الله- عز وجل شرّفني بذلك وأنعم عليّ به، والمعنى: لا أدعي هذا ولا هذا أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر، من ملك خزائن الله، وعلم الغيب، ودعوى الملكية، فلماذا تكذبون دعوتي ورسالتي! إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا
ما يُوحى إِلَيَّ. أي: لست أخرج عنه قيد شبر، ولا أدنى منه، وما أخبركم إلا بما أنزل الله عليّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ هذا مثل للضال والمهتدي، أو لمن اتّبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع، أو لمن يدّعي المستقيم وهو النبوة مع الدليل والبرهان، والمحال وهو الإلهية أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ من أجل ألا تكونوا ضالين، أو من أجل أن تعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر، أو من أجل أن تعلموا أن اتّباع ما يوحى إليّ ممّا لا بدّ لي منه. وتعليقا على هذه الآية، وتبيانا لكون العقل بدون الوحي أعمى، وتوضيحا لمحل العقل بالنسبة للإنسان يقول صاحب الظلال:
«ثم .. إنّ اتباع الوحي وحده هداية وبصر، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى .. هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة .. فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟ سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط .. إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي، وإدراك مدلولاته .. وهذه وظيفته .. ثم هذه هي فرصته في النور والهداية، وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير.
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحدا.
تجربة بعد تجربة، وحادثة بعد حادثة، وصورة بعد صورة .. حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاما، ويضع على أساسها نظاما، ملحوظا فيه الشمول والتوازن .. ومن ثم يظل- حين ينعزل عن منهج الله وهداه- يرتاد التجارب، ويغيّر الأحكام، ويبدّل النّظام، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال .. وهو في ذلك يحطم كائنات بشرية عزيزة، وأجهزة إنسانية كريمة .. ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله؛ وجعل التجارب والتقلبات في «الأشياء» وفي «المادة» وفي «الأجهزة» وفي «الآلات» .. وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه. والخسارة في النهاية مواد وأشياء. لا أنفس وأرواح.
ويتعرض لهذا كله- بعد طبيعة تركيبه- بسبب ما ركب في الكيان البشري من
شهوات وأهواء ونزعات، لا بد لها من ضابط يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها، ولا تتعدى هذا الحد المأمون، فتؤدي إلى تدمير الحياة وانتكاسها، وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده، فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات- وهي شتى- من ضابط آخر يضبطه هو ذاته؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة، وكل حكم في مجال الحياة البشرية؛ ليقوّم به تجربته وحكمه وليضبط به اتجاهه وحركته.
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصّواب كدرجة الوحي، باعتبار أن كليهما- العقل والوحي- من صنع الله فلا بد أن يتطابقا .. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر، ولم يقل بها الله سبحانه.
والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي- حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر- إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله .. فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة، ولم يجعل هذه الحجّة هي عقلهم البشري، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به. لأن الله- سبحانه- يعلم أن العقل وحده يضل، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي، وهو النور والبصيرة.
والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين؛ أو أن العلم- وهو من منتجات العقل- يغني البشرية عن هدى الله؛ إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك .. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم، هي أبأس حياة يشقى فيها «الإنسان» مهما فتحت عليه أبواب كل شئ؛ ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد؛ ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق، وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات. ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد تكفل له انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة، كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها- وفق