الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اسم الله تعالى، وإضلالهم البشر بغير علم، وهدّدهم بأنّه هو الأعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم؛ وسيجازيهم عليه.
- ثمّ أمر الله تعالى عباده أن يتركوا معصيته في السرّ والعلانية، قليلها وكثيرها، مبيّنا أن الذين يعملون الآثام- سواء كانت ظاهرة أو خفية- سيجزيهم على أعمالهم، وفي ذكر هذه الآية في هذا السياق تهديد لمن يضلّون بأهوائهم، ولمن يخالفون أمر الله في أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
- ثمّ نهى الله- عز وجل نهيا جازما عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح، وعن أكل ما لم يذبح أصلا من أنواع الميتات، مبيّنا أنّ ذلك فسوق عن أمر الله، ومخالفة لأمره، وإذ يكثر جدال الكافرين في هذا المقام؛ لأنهم لا يفرقون بين ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر، ولا يفرّقون بين الميتة والذبيحة، متناسين أنّه لا فارق بين الإنسان وبين الحيوان من حيث إن لكل روحا، وأنّ الله الذي أباح للإنسان أن يزهق روح الحيوان أباح ذلك له بشرط ذكر اسمه عليه، فإذ يكثر جدال الكافرين في هذا المقام بيّن الله- عز وجل أنّ الشياطين يوحون إلى من يطيعونهم بمختلف الحجج من أجل أن يجادلوا المسلمين، ثمّ هدّد الله المسلمين أنّهم إن أطاعوهم في ما يريدونهم عليه فإنهم مشركون حين يعدلون عن أمر الله إلى قول غيره، ويقدمونه عليه.
ولو أنّنا تأمّلنا قوله تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإننا نجد الصلة بين مجموعة الآيات التي بين أيدينا وبين التي قبلها. كما نرى أن هذه المجموعة نموذج ومثال على مجموعة أمور لها علاقة
في السياق الجزئي. فهي نموذج على وساوس الشيطان وأوليائه فيما يخالف شرع الله والرضا بحكمه، وهي نموذج على ما تقتضيه العبودية لله الذي خلق لنا ما في الأرض جميعا، فاقتضى ذلك أن نلتزم أمره في الانتفاع بما خلق بالطريق الذي حدده.
ولنعد إلى السياق:
فبعد هذه الجولة في موضوع الهداية والضلال وبعض متعلقاتهما يضرب الله مثلا للمؤمن الذي كان ميتا- اي في الضلالة هالكا- فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له، ووفّقه لاتّباع رسله، وجعل له نورا يمشي به في النّاس فيهتدي كيف يسلك وكيف
يتصرف بين الناس على ضوء هذا القرآن، وللكافر الغارق في الظلمات والجهالات والأهواء والضّلالات المتفرقة لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص ممّا هو فيه هل يستوي هذا مع هذا؟ لا يستويان، ومع ذلك فإن الكافر يستحسن ما هو عليه، لأن الله زيّن له ما هو فيه قدرا من الله، وحكمة بالغة منه لا إله إلا هو ولا شريك له، ومن خلال العرض نعرف حكمة أخرى من حكم الإضلال: فقد بيّن الله- عز وجل بعد أن ضرب المثل السابق للمهتدي والضال أنه كما جعل في مكة أكابر من المجرمين، ودعاة إلى الكفر والصدّ عن سبيل الله، وإلى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعداوته كذلك جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليدعوا إلى الضلالة بزخرف من القول والفعل، وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم، وهم لا يشعرون بذلك، وإذن فإجرامهم هو سبب ضلالهم، هؤلاء المجرمون الكبار إذا جاءتهم آية وبرهان وحجّة قاطعة رفضوا الإيمان حتى تأتيهم الملائكة من الله بالرّسالة كما تأتي إلى الرسل، وإذا فما أقسموا عليه في أول الفقرة من كونهم إذا جاءتهم آية يؤمنون بها محض كذب؛ فإنّ الدوافع الأصلية لكفرهم هو حسدهم أن يبعث الله رسولا غيرهم، وهنا يبيّن الله أنّه هو الأعلم حيث يضع رسالته، ومن يصلح لها من خلقه، ثمّ أوعد الله هؤلاء المجرمين بأنه ستصيبهم يوم القيامة ذلّة دائمة، لقد استكبروا في الدنيا فأعقبهم ذلك ذلا يوم القيامة، ومع الذلة عذاب أليم شديد بسبب مكرهم، ولما كان المكر في الغالب إنما يكون خفيا: وهو التلطف في التّحيّل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة؛ جزاء وفاقا، وبعد إذ تقرّر أنّ الهدى من الله، والضلال من الله، وأن الضلال له أسباب، ذكر الله- عز وجل علامة من يريد هدايته، ومن يريد ضلاله، فأما علامة من يريد هدايته فهو شرح صدره للإسلام بأن ييسّره للإسلام، وينشّطه ويسهّله لذلك، وأمّا علامة من يريد إضلاله فهو جعل صدره ضيقا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخل قلبه؛ حتى إنّه من شدة ضيقه بها ليصل إلى درجة الاختناق كشأن الذي يصعّد في السماء، فإنه يضيق صدره لدرجة الاختناق ثم يختنق، وكما جعل الله صدر من أراد إضلاله ضيّقا حرجا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه فيغويه ويصدّه عن سبيل الله، ولما ذكر علامة من يريد إضلاله، بيّن أنّ هذا القرآن وهذا الدّين هو صراط الله المستقيم، وقد وضّح الله فيه الآيات وبيّنها وفسّرها لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء قد أعدّ الله لهم دار السلام وهي الجنة يوم القيامة، وإنّما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام إشعارا بأن سلوكهم الصراط المستقيم حقق لهم السلامة، فكما سلموا من آفات
الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام، والله حافظهم وناصرهم ومؤيّدهم جزاء على أعمالهم الصالحة، ويجمع لهم مع الولاية الجنّة بمنّه وكرمه، وبعد إذ وصل السياق إلى هذا المعنى فإنّه يحدثنا عن حشر شياطين الجنّ والإنس، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، الذين ذكروا في أوائل هذه الفقرة:
فيذكر يوم يحشر الجنّ وأولياؤهم من الإنس، الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم، ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، يومذاك يقال للجنّ إنّكم قد استكثرتم من إغواء الإنس وإضلالهم، ويعترف أولياؤهم من الإنس في هذا المقام بأنّ كلا من الجن والإنس قد استمتع بعضهم بالآخر حتى بلغوا الموت، فيكون الجواب أن النار مأواهم ومنزلهم جميعا أبدا بمشيئة الله وحكمه وعلمه، ثمّ بيّن الله سنته في خلقه بأنّه إنما يولي النّاس بعضهم بعضا بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان، فليس الإيمان بالتمنيّ، وفي ذلك تعليل لتولّي هؤلاء الكافرين لبعضهم بعضا، أن ذلك ما كان لولا كسبهم السيئ، والكسب السيئ هو أداة الوصول إلى النّار، ثمّ يذكر الله- عز وجل شيئا آخر مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة، حيث يسألهم- وهو أعلم-: هل بلّغتهم الرسل رسالاته؟ وهل قصّوا عليهم آياته؟ وهل أنذروهم لقاء اليوم الآخر؟ فيقرّون بأنّ هذا كله قد كان، ولكنّهم اغترّوا بالحياة الدنيا، وفرّطوا بها، وشهدوا على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين، فالحجّة إذن قائمة عليهم في الدنيا والآخرة، لأنّ سنة الله أنه لا يعاجل النّاس بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولا ينبههم ويقيم حجج الله عليهم، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم، ولم يكن الله ليأخذهم على غفلة فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، وأنّ سنته أنّ لكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلّغه إياها ويجزيه بسببها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وما الله بغافل عن عمل عامل، ويحصي عليه وله أعماله ويثبتها عنده ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه، ثم يختم الله- عز وجل هذه الفقرة الطويلة بتقرير أنه الغني عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو مع ذلك رحيم بخلقه، وأنه إن شاء أن يذهبنا إن خالفنا أمره ويستخلف بدلنا قوما آخرين يعملون بطاعته، فإنّه قادر على ذلك، سهل عليه، يسير لديه، كما أذهب القرون الأولى، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، وعلى كل حال فإن أمر القيامة آت، وما أحد بمعجز الله بل هو القادر على الإعادة وإن صرنا ترابا ورفاتا، وفي الختام يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن
يقول لقومه استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنّون أنّكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، وسوف تعلمون لمن تكون عاقبة الدار، أتكون لي أو لكم، مع العلم أن الظالمين لا يفلحون وأنتم كذلك. وفي هذا الإعلان تهديد شديد، ووعيد لهم، وقد أنجز الله وعده لرسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وهو منجز له وعده في الآخرة، وبهذا تنتهي الفقرة الثانية في المقطع الأول من القسم الثاني.
في مقدمة المقطع كان الكلام عن الله وقدرته وعنايته بخلقه.
وفي الفقرة الأولى قصّ الله علينا كيف أنه مع كل هذا فقد جعلوا له شركاء.
وفي الفقرة الثانية بيّن لنا أنّ الكافرين أقسموا إن جاءتهم آية ليؤمننّ بها.
وتأتي الآن الفقرة الثالثة لتقصّ علينا من أفعال الكافرين وهي مبدوءة ب وَجَعَلُوا .... الفقرة الأولى مبدوءة بقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ ....
والفقرة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ....
والفقرة الثالثة وهي الأخيرة في هذا المقطع مبدوءة بقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ....
لقد بيّن الله- عز وجل في الفقرة الأخيرة كيف أنّ المشركين ابتدعوا بدعا وكفرا وشركا، وجعلوا لله شريكا من خلقه وهو خالق كل شئ. فجعلوا لله مما خلق وبرأ من الزروع والثمار والأنعام جزءا وقسما، وجعلوا لشركائهم قسما وحظا فما كان من حرث أو ثمرة أو شئ من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه- وما كان لله- في زعمهم- لم يحصوه ولم يحفظوه بل يجعلوه للوثن، فحقوق شركائهم محفوظة- وحق الله الذي ابتدعوه له ولم يشرعه لهم ضائع مع أنّهم هم الذين اخترعوه، فما أسوأ أحكامهم، وما أجهلهم بخالقهم وحقوقه! لم يعرفوا أنّ الله خالق كل شئ وهو مالكه، ولم يتصرفوا بملكه على الوجه الذي يرضيه، ولم يجعلوا له ما شرعه وأشركوا معه غيره، ثم حفظوا حق غيره وضيّعوا ما أعطوه من حقوق ابتدعوها، فأي جهل بالله أكبر، وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا على طريقتهم التي رأيناها، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، وزينوا لهم وأد البنات خشية العار؛ ليهلكوهم بذلك؛ وليخلطوا عليهم دين الله الذي هو دين الفطرة،