الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالتخطئة حين تختلف السين والزاي، أو التاء والثاء في لغات تباعدت بينها الآماد ..
وأيا كان القول في نسبة إبراهيم إلى آزر بمعنى أسور، فهو أقرب من القول بأن أباه سمي تارحا من الحزن أو من الكسل، وليس عليه دليل من وقائع التاريخ والجغرافية ولا من الاشتقاق. وتفيد هذه الملاحظة فائدة جلى في معرض آخر من معارض سيرة الخليل، فلم يكن تاريخ إبراهيم في الإسلام مستمدا من المصادر اليهودية- كما زعم بعض المتسرعين من رواة الأخبار الدينية غير الإسلامية-، وإلا لما كان أيسر من تسمية أبيه تارحا وتيرحا وأتيرة وما شابه هذه التصحيفات، ولما كان هناك سبب قط لتسميته بآزر على أي توجيه وإنما هذا بيّنة من بيّنات شتى على أن دعوة إبراهيم لم تصل إلى الحجاز من مصادر اليهود .. ».
أقول: بل عن طريق القرآن وحي رب العالمين.
فصل في بعض الأخبار التلمودية عن إبراهيم عليه السلام:
في معرض الكلام عن إبراهيم أبي الأنبياء نقل العقّاد بعض ما ورد من أخبار في كتب اليهود الأخرى- أي غير ما يسمى بالعهد القديم حول إبراهيم عليه السلام، ومن كلامه في هذا الموضوع:
وفي كثير من كتب المدراش والتعليم يقال إن الدنيا خلقت من أجله، وأن أبناء نوح ضلوا عن سواء السبيل، وعبدوا الأصنام، وكان جد إبراهيم يدعى (رو) فسمى ابنه (سيروج) أي ذهبوا بعيدا، وصدق في هذه التسمية، لأن سيروج حين كبر وولد له ابن سماه ناحور، وعلمه السحر والتنجيم وعبادة الأصنام، وكان الشيطان (مسطمبا) يرسل أعوانه لكيد البشر، ويطلقهم على البذور وهي على وجه الأرض كأنهم الغربان لتلتقطها وتفسدها. لهذا سمى ناحور ابنه تيرح أو تارح، ويقول شراح كتاب «اليوبيل» أحد هذه الكتب التعليمية إن الاسم بهذا المعنى غامض ولكنه قد يرجع إلى كلمة آرامية بمعنى المحو والشحوب.
وتزوّج تارح إيمتالي بنت كرناب، فرزقا إبراهيم. وكان مولده مرصودا في الكوكب فاطلع عليه النمروذ، واستشار الملأ من قومه فأشاروا عليه بقتل كل طفل، ذكر، واستحياء البنات، وإغداق العطايا والجوائز على أهليهن، ليفرحوا بمولد البنات.
وأحس تارح أن امرأته حامل، فلما أراد أن يتحقق من ذلك صعد الجنين إلى صدر أمّه فخوى بطنها ولم يظهر فيه حمل، وهربت أمه حين جاءها المخاض فأوت إلى كهف ولدته فيه، وتركته ثمة وهي تدعو له، فبقي ثلاث عشرة سنة لا يرى الشمس- على رواية بعض الكتب-، ومكث في الكهف أقل من ذلك على روايات أخرى، وأرسل الله جبريل يرعاه فجعل الطفل يمتص أصابعه فيرضع منها ويكبر قبل الأوان.
وخرج من الكهف ليلا وهو في الثالثة فرأى النجوم فقال: هذه هي الأرباب. فلما أشرقت الشمس قال: كلا. بل هذه هي الرب. فلما أفلت وظهر القمر قال: بل هو هذا .. فلما أفل قال: ما هذه بأرباب. إنما الرب المعبود هو الذي يديرها ويسيرها ويبديها ويخفيها. وفي بعض الكتب أن أمه خرجت تتفقده بعد عشرين يوما حيث تركته فوجدت في طريقها صبيا ناميا فسألها:-ماذا جاء بك إلى الصحراء؟ ..
فأنبأته بقصتها، وعرّفها بنفسه فدهشت وعجبت لطفل يكبر ولم يمض على مولده شهر واحد .. قال لها: إنها قدرة الله الذي يرى ولا يرى ..
ويظن جامعوا الأساطير اليهودية أن وصف الله بهذه الصفة منقول من أصل عربي اطلع عليه يهود الأندلس، ثم اختلفت تفصيلاته عند نقلها إلى العبرية .. قالت أمه وقد ازداد عجبها: أإله غير النمروذ؟ .. قال: نعم يا أماه .. رب السموات والأرض، ورب النمروذ بن كنعان. فاذهبي وبلغي النمروذ ما سمعت.
وأنبأت زوجها تارح وكان أميرا من أمراء الملك، فذهب إليه يطلب لقاءه، فأذن له باللقاء فسجد بين يديه، ولم يكن من عادتهم إذا سجد أحدهم بين يدي الملك أن يرفع رأسه بغير أمره، فلما أمره الملك أن ينهض ويتكلم روى له القصة ففزع أعوانه ووزراؤه، ثم ملكوا جأشهم وقالوا له: علام هذا الفزع من صبي لا حول له ولا قوة، ومن أمثاله في المملكة ألوف وألوف. قال لهم النمروذ: وهل رأيتم صبيا في العشرين يتكلم وينطق بمثل هذا البيان؟ ..
وخشي الشيطان أن يسبق الإيمان إلى قلب الملك فبرز لهم وأزال ما بهم من الروع،
وحرّض الملك على قتل الصبي، فحشد له جندا من القادة والفرسان، وخرجوا إلى الكهف الذي قيل لهم إن الصبي مختبئ فيه، فإذا بينه وبينهم سحب لا ينفذ النظر إلى ما وراءها، وإذا بهم مجفلون لا يقدرون على الثبات.
فلما عادوا إلى النمروذ وشرحوا له ما عاينوه قال لهم: لا مقام لنا بهذه الديار! وخرج من بلده إلى أرض بابل فلحق به إبراهيم على جناح جبريل، ولقي هناك أبويه، ثم بدأنا بالدعوة إلى الله: الإله الأحد الذي لا إله غيره، رب السموات، ورب الأرباب ورب النمروذ. وأنذرهم أن يتركوا عبادة الصنم الذي صنعوه على مثال النمروذ. فإن له فما ولكنه لا ينطق، وعينا ولكنه لا يبصر، وأذنا ولكنه لا يسمع، وقدما ولكنه لا يسعى، ولا ينفع نفسه، ولا يغني عن غيره شيئا. وأسرع أبوه إلى الملك يبلغه أن ابنه إبراهيم طوى مسيرة أربعين يوما في أقل من يوم، ثم لحق به إبراهيم إلى قصر الملك فهز عرشه بيديه وصاح به: «أيها الشقي! إنك تنكر الحق، وتنكر الله الحي الصمد.
وتنكر عبده إبراهيم خادم بيته الأمين».
ويخاف النمروذ فيأمر تارح أن يعود بابنه إلى موطنه، ثم تتكاثر الروايات في عشرات من كتب المدارس والتفسيرات حول ما حدث بعد ذلك بين إبراهيم وقومه، وبينه وبين الملأ والملك وكهنة الأرباب، مما تغني هذه الأمثلة عن تفصيله واستقصائه، وبعضه كما تقدم معوّل عليه عند اليهود، وبعضه من قبيل ضرب الأمثال بالنوادر والأعاجيب ..
وليس من المطلوب أن نتتبع هذه القصص والنوادر لأنها تستوعب ألوف الصفحات، ولكننا نأخذ منها ما ينتظم في أغراض هذا الكتاب، ومنها ما يدل على تفكير واضعيه، أو يفيد عند المقابلة بين المصادر، أو يلاحظ فيه الوضع لطرافته الأدبية والفنية، أو يتمم صورة أخرى ناقصة في خبر من الأخبار.
فمما ورد في «مدراش رباه» أن أباه حنق عليه حين كسر الأصنام فخاصمه إلى النمروذ، فسأله النمروذ: إن كنت لا تعبد الصور والمشبهات فلماذا لا تعبد النار؟
قال إبراهيم: أولى من عبادة النار أن أعبد الذي يطفئها.
قال النمروذ: فاعبد الماء إذن؟
قال إبراهيم: بل أولى من عبادة الماء أن أعبد السحاب الذي يحمله.
قال النمروذ: إذن تعبد السحاب ..