الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصدّيق مع أضيافه شبيه بهذا، وفيه، وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء- كالشافعي وغيره- إلى أنّ من حرّم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ما عدا النساء أنّه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضا، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولأن الذي حرّم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدّم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة، وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا، أو مشربا، أو ملبسا، أو شيئا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ الآية (التحريم: 1، 2). وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقّبه بالآية المبيّنة لتكفير اليمين، فدلّ على أنّ هذا منزّل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم.
كلمة في السياق:
قلنا إن محور سورة المائدة من سورة البقرة هو قوله تعالى:
…
وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وإنّ الفقرة التي مرّت معنا لها صلة بنقض العهد، سواء في ذلك ما ورد فيها من تحريم الحلال، أو الاعتداء، أو ما كان فيها من كلام عن الأيمان، وسنرى أن الفقرة الثانية التي ستأتي لها صلة بقطع ما أمر الله به أن يوصل ففيها قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وسيذكر في الفقرة الثالثة من المقطع مظهر من مظاهر الإفساد في الأرض في قتل المحرم الصيد، وهكذا تتضح معنا شيئا فشيئا صلة سورة المائدة بمحورها من سورة البقرة.
ولنلاحظ أن أول آية تأتي في الفقرة اللاحقة تعلل للأمر باجتناب الخمر والميسر بالفلاح لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح ضد الخسران ولذلك ارتباطه كذلك بمحور السورة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. أي: القمار وَالْأَنْصابُ. أي:
الأصنام لأنها تنصب فتعبد وَالْأَزْلامُ. أي: القداح التي يستقسم بها وقد مرت معنا في أول السورة رِجْسٌ. أي: نجس أو خبيثة مستقذرة مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنه من
آثار دعوته فكأنه عمله فَاجْتَنِبُوهُ أي: الرجس أو عمل الشيطان، والمعنى واحد لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أي: لعلكم تحصّلون صفة الفلاح، وقد تأكّد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية من وجوه، حيث صدّرت الجملة بإنّما التي تفيد الحصر، وقرنهما بعبادة الأصنام، وجعلهما رجسا من عمل الشيطان، ولا يأتي منه إلا الشر البحت، وأمر بالاجتناب، وهو أبلغ في النهي من الترك، لأن الترك يشعر بإمكانية الأخذ، والاجتناب فيه معنى النهي عن الاقتراب والملامسة أصلا، وجعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خسارا
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ بعد أن بيّن في الآية السابقة تحريمهما ذكر في هذه الآية حكمة التّحريم، وهي ما يتولد عن الخمر والميسر من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمار، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة.
وخصّت الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال: وعن الصلاة خصوصا، وإنّما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا، ثمّ أفردهما آخرا، لأنّ الخطاب للمؤمنين، وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر، وإظهار أن ذلك جميعا من أعمال أهل الشرك، فكأنه لا مباينة بين عابد الصّنم وشارب الخمر والمقامر. ثمّ أفردهما بالذكر ليعلم أنّهما المقصودان بالذكر فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أي فانتهوا. وهذه الصيغة فيها أبلغ أنواع النّهي كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون؟ أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا. أي: وكونوا حذرين مع طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام أي: اجمعوا مع الطاعة الخشية والحذر لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيّئة، وعمل كل حسنة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. أي: فإن أعرضتم عن الطاعة والحذر فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول، لأنه ما كلّف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما أضررتم أنفسكم حين أعرضتم عمّا كلفتموه
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ. أي: إثم فِيما طَعِمُوا قبل نزول تحريم الخمر والميسر إِذا مَا اتَّقَوْا الشرك وَآمَنُوا بالله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد الإيمان ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا بأن تركوا الخمر والميسر بعد التحريم إيمانا واحتسابا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا بترك المحرمات كلها مع مراقبة الله، وفعل ما أمر به من خير في حقّ الله والناس، ويحتمل أن يكون المراد بالأمر الأول في التقوى النّهي عن الشّرك، وفي الأمر الثاني النهي عن المحرمات. وفي الأمر الثالث النهي عن الشبهات