الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجموعة العاشرة
وإذ وصل السياق إلى ما مرّ فإنّ الله يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن ثلاثة إعلانات:
الإعلان الأول: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أي: قل إنّي صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ. أي: لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتّباع الهوى دون اتّباع الدليل، وفي النّص بيان للسبب الذي به وقعوا في الضلال وهو اتّباع الهوى قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً. أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ في شئ، وهذا يعني أنكم لستم مهتدين أبدا،
والإعلان الثاني: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي لمّا نفى أن يكون الهوى متّبعا، نبّه على ما يجب اتّباعه وهو شريعة الله، والمعنى: إني من معرفة ربي وأنّه لا معبود سواه على حجة واضحة، أو إني على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليّ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ. أي: بالله حيث أشركتم به غيره ويمكن أن يكون المراد: وكذبتم بالبيّنة أي بالقرآن، فيكون المعنى: إنّي على حجّة من جهة ربي وهو القرآن، وكذّبتم بهذه البيّنة، ثمّ عقّبه بما دلّ على أنهّم أحقّاء بأن يعاقبوا بالعذاب لذلك فقال: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. أي: من العذاب إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أي: إنما أمر ذلك إلى الله إن شاء عجّل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجّلكم لما له من الحكمة العظيمة يَقُصُّ الْحَقَّ. أي: لا يفعل إلا
حقا ولا يأمر إلا بحق فيما يحكم به، ويقدّره، وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ.
أي: خير الفاصلين بالقضاء الحق إذ الفصل: هو القضاء،
ثم يأتي الإعلان الثالث قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي. أي: في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. أي: من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. أي: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ومن ثم فهو ينزل العذاب على مقتضى علمه وحكمته في الوقت المناسب.
فائدة: [في الجمع بين الآية (58) وبعض ما ورد في السنة]
بمناسبة هذه الآية الأخيرة يقول ابن كثير: فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما
أردّت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلّم عليّ ثمّ قال: يا محمد إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا». وهذا لفظ مسلم. فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأنى بهم وسأل لهم التأخير لعلّ الله يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا.
فما الجمع بين هذا وبين قوله في هذه الآية الكريمة قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فالجواب- والله أعلم- أنّ هذه الآية دلت على أنّه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم، وأمّا الحديث فليس فيه أنّهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنّه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكّة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا، فلهذا استأنى بهم وسأل الرّفق لهم» وبهذه المناسبة نقول: إنّ ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من وحي سواء كان قرآنا أو سنة يكمل بعضه بعضا، ولا ينقض بعضه بعضا وكيف لا يكون كذلك وهو من علم الله، وعلم الله محيط، وذلك من أعظم الأدلة على كون هذا الإسلام دين الله، ولكن الجاهلين وحدهم هم الذين يظنون غير ذلك أو يتوهمون.
وبعد هذا الحوار الطويل يعود السياق إلى صيغة التقرير في موضوع المعرفة الربانية فيقول: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ
…
ولو أنّك تأمّلت لوجدت أن هناك صلة ظاهرة بين بداية المقطع وهذه الآية وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
…
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ .... وما بين ذلك حوار لمن ينكر ذلك، وما بين ذلك تقرير لمقتضى ذلك، وما بين ذلك هداية لما ينبغي أن يترتب على الإيمان بذلك.
فما أعظم هذا القرآن إذ يجول بك السياق ثم يردك إلى محور السورة، وتبقى جولاته كلها في الإطار الذي يعمّق محور السورة، وبما أنّ خاتمة الجولة الأولى من المقطع الثاني تبدأ بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ فلنقدم للآية بنقل عن الظلال حول الفارق بين العقلية المسلمة وغيرها:
«إن القرآن- وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشئ التصور
الإسلامي والعقلية الإسلامية- يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا.
إن هنالك سننا ثابتة لهذا الكون؛ يملك «الإنسان» أن يعرف منها القدر اللازم له، حسب طاقته وحسب حاجته، للقيام بالخلافة في هذه الأرض. وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، وترقية الحياة، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها. وإلى جانب هذه السنن الثابتة- في عمومها- مشيئة الله الطليقة، لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها. وهناك قدر الله الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها. فهي ليست آلية بحتة، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها. وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها «غيب» لا يعلمه البشر علم يقين؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و «الاحتمالات» .. وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضا.
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة؛ وكلها «غيب» بالقياس إليه هي تجري في كيانه، ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله؛ وهو لا يعلمها!
وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون. وحاضره وحاضر الكون. ومستقبله ومستقبل الكون .. وذلك مع وجود السنن الثابتة التي يعرف بعضها، وينتفع بها انتفاعا علميا منظما في النهوض بعبء الخلافة.
وإن «الإنسان» ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه، وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله .. وكذلك كل شئ حي .. ومهما تعلّم ومهما عرف، فإن هذا لن يغيّر من هذا الواقع شيئا.
إن العقلية الإسلامية عقلية «غيبية علمية» لأن «الغيبية» هي «العلمية» بشهادة «العلم» والواقع .. أما التنكر للغيب فهو «الجهلية» التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة! وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابتة .. فلا يفوت المسلم «العلم»
البشري في مجاله، ولا يفوته إدراك الحقيقة الواقعية؛ وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا، إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء.
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها «الفرد» فيتجاوز مرتبة «الحيوان» ، إلى مرتبة «الإنسان» وهي نقلة بعيدة الأثر في تصوّر الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض. فليس من يعيش في الحيّز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ..
ظاهره وخافيه .. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول.
…
«لقد كان الإيمان بالغيب هو مفترق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم المادة ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان- كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم المادة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس، ويسمون هذا «تقدمية» . وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميّزة هي صفة: «الذين يؤمنون بالغيب» .. والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين».
والذين يتحدثون عن «الغيبية» و «العلمية» يتحدثون عن «الحتمية التاريخية» كأن كل المستقبل مستبين، و «العلم» في هذا الزمان يقول: إن هناك «احتمالات» وليست هنالك «حتميات» !
ولقد كان ماركس من المتنبئين «بالحتميات» ! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلتر، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر .. فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا .. في روسيا والصين وما إليها .. ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية!