الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي وها هو ذا خليفتهما «خروشوف» يحتمل راية «التعايش السلمي» .
ولا نمضي طويلا مع هذه «الحتميات» التنبئية. فهي لا تستحق جدية المناقشة! إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي الغيب، وكل ما عداها احتمالات. وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره. وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو.
وإن هنالك- مع هذا- سننا للكون ثابتة، يملك الإنسان أن يتعرف إليها، ويستعين بها في خلافة الأرض، مع ترك الباب مفتوحا لقدر الله النافذ؛ وغيب الله المجهول ..
وهذا قوام الأمر كله .. ».
المجموعة الحادية عشرة
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ المفاتح جمع مفتح وهو المفتاح، جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلال والأقفال، ومن علّمه الله مفاتحها وكيفيّة فتحها توصّل إليها فأراد أنّه هو المتوصّل إلى المغيّبات وحده لا يتوصّل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن، ويعلم فتحها فهو المتوصّل إلى ما في الخزائن، ويدخل في ذلك العذاب والرّزق، وما غاب عن العباد من الثّواب والعقاب والآجال والأحوال وخصّ الرسول صلى الله عليه وسلم من مفاتح الغيب خمسا بالذكر سنراها في الفوائد وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ. أي: من النّبات والدّوابّ وغير ذلك وَالْبَحْرِ من الحيوان، والجواهر، والعناصر وغير ذلك وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها. أي: ما من ورقة تسقط إلا ويعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ إلّا يعلمها وَلا رَطْبٍ. أي:
ذي رطوبة وَلا يابِسٍ إلا يعلمه كذلك، والجميع في كتاب مبين إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واحد وهو هنا إما علم الله، أو اللوح المحفوظ قال صاحب الظلال وهو يعرض هذه الآية:
«إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط؛ الذي لا يندّ عنه شئ في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حي وميت ويابس ورطب
…
ولكن أين هذا الذي نقوله نحن- بأسلوبنا البشري المعهود- من ذلك النسق
القرآني العجيب؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد، من ذلك التصوير العميق الموحي؟
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الشهود، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود .. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل التصور والمشاهد من كل فج وواد. وهو- إذ يحاول أن يرتاد- أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار .. مفاتحها كلها عند الله، لا يعلمها إلا هو .. ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم الله. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، لا يحصيها عد، وعين الله على كل ورقة تسقط، هنا وهنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله.
ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض، لا يند شئ عن علم الله المحيط ..
إنها جولة تدير الرءوس، وتذهل العقول .. جولة في آماد الزمان، وآفاق المكان، وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول .. جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يعيا بتصور آمادها الخيال .. وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات .. ألا إنه الإعجاز!
وننظر في هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز، الناطق بمصدر هذا القرآن. ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر .. إن الفكر البشري حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع- موضوع شمول العلم وإحاطته- لا يرتاد هذه الآفاق. إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود. إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته .. فما اهتمام الفكر البشري بتقصّي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء. لا يخطر على باله أن يتتبّع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض. ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه، ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق! وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبئونه هم في جوف الأرض
ويرتقبون إنباته .. فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به، ولا أن يلحظوا وجوده، ولا أن يعبر به عن العلم الشامل! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق، وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق:«ولا رطب ولا يابس» .. إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم .. فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل. فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق!
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة، وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ .. فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يندّ عنه شئ في ملكه، الصغير كالكبير، الحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب .. إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع .. مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعا، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا .. إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري؛ كذلك لا تلحظه العين البشرية، ولا تلمّ به النظرة البشرية .. إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده؛ المشرف على كل شئ، المحيط بكل شئ .. الحافظ لكل شئ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شئ .. الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب ..
والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيّدا حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضا. ويعلمون- من تجربتهم البشرية- أن مثل هذا المشهد، لا يخطر على القلب البشري، كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا .. والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا!
وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم .. كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع في التعبير ذاته، فنرى آفاقا من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر، على هذا المستوى السامق: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ .. آماد وآفاق وأغوار في «المجهول» المطلق، في الزمان والمكان، وفي الماضي والحاضر والمستقبل، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. آماد وآفاق وأغوار في «المنظور» ، على استواء وسعة وشمول .. تناسب في عالم الشهود والمشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب.
وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها .. حركة الموت والفناء، وحركة السقوط والانحدار، من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار.
وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ .. حركة البزوغ والنّماء. المنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق.
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ .. التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت والازدهار والذبول، في كل حي على الإطلاق .. فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟ .. من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك، في مثل هذا النص القصير .. من؟ إلا الله!
ثم نقف عند قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ..
نقف لنقول كلمة عن «الغيب» و «مفاتحه» واختصاص الله- سبحانه- «بالعلم» بها .. ذلك أن حقيقة الغيب من «مقومات التصور الإسلامي» الأساسية؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية، ومن قواعد «الإيمان» الرئيسية .. وذلك أن كلمات «الغيب» و «والغيبية» تلاك في هذه الأيام كثيرا- بعد ظهور المذهب المادي- وتوضع في مقابل «العلم» و «العلمية» .. والقرآن الكريم يقرر أن هناك «غيبا» لا يعلم «مفاتحه» إلا الله. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل .. وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو- سبحانه- من طاقته ومن حاجته، وأن الناس لا يعلمون- فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا ظنا، وأن الظن لا يغني عن الحق شيئا .. كما يقرر- سبحانه- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سننا لا تتبدّل وأنّه علّم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها، ويتعامل معها- في حدود طاقته وحاجته- وأنّه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق .. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها بحقيقة «الغيب» المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولا، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شئ بقدر غيبي خاص من الله،