الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ. أي ابتدأ خلق أصلكم أي آدم منه ثُمَّ قَضى أَجَلًا. أي: حكم بالموت وقدّره وقضاه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ. أي: أجل القيامة، ويحتمل أن يكون المراد بالأجل الأول: ما بين أن يخلق الإنسان إلى أن يموت.
وبالأجل الثاني البرزخ: وهو ما بين الموت والبعث، ويحتمل أن يكون المراد بالأجل الأول:
النوم، وبالثاني: الموت. ويحتمل أن يكون المراد بالأجل الثاني هو الأول ويكون التقدير: ثمّ قضى أجلا مسمّى عنده أي معلوم ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ تحتمل أن تكون من المرية فيكون المعنى: ثم أنتم تشكون، ويحتمل أن يكون من المراء فيكون المعنى ثم أنتم تجادلون ويفيد مجئ (ثم) في هذا المقام استبعاد أن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنّه محييهم ومميتهم
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ. أي: وهو المعبود فيهما، أو هو المعروف بالإلهية فيهما، أو هو الذي يقال له الله فيهما يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ. أي من الخير والشرّ ويثيب عليه ويعاقب.
كلمات ونقول في الآيات الثلاث:
هذه الآيات الثلاث هي مقدمة السورة، كما أنّها مقدمة المقطع الأول، وبحكم أنهّا مقدمة السّورة فهي تشير إلى مضمونها، وإذ كان مضمون السورة مرتبطا بمحور السّورة من البقرة، فإن هذه الآيات الثلاث تكاد تعرض لمحور السورة بشكل واضح.
ولنعقد مقارنة بين محور سورة الأنعام من سورة البقرة وهذه المقدمة:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذه هي الآية الأولى في المحور، لاحظ صلتها بالآية الثانية من مقدمة سورة الأنعام:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ.
والآية الثانية في محور السورة هي: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
لاحظ صلة معانيها بالآية الأولى والثالثة من مقدمة سورة الأنعام الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ
…
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ إن محور سورة الأنعام من سورة البقرة يعجّب من كفر الكافرين، وينكر عليهم، ومقدمة سورة الأنعام تدلّنا على الشكر بدل الكفر الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كما أنها تعرض علينا مواقف الكافرين ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. لقد أقامت الآيتان اللتان هما محور سورة الأنعام من سورة البقرة الحجة على الكافرين من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، وكلاهما مرتبط بظاهرة الخلق، وهاهنا تتحدث الآيات الثلاث عن هذه الظواهر كلها، وفي هذه الآيات الثلاث يقول صاحب الظلال:
«إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة، إنّما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل «الخلق» ودليل «الحياة» ممثلين في الآفاق وفي الأنفس، ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطابا جدليا، لاهوتيا أو فلسفيا! ولكن خطابا موحيا موقظا للفطرة، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء، وحركة التدبير والهيمنة؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه. ووجود السماوات والأرض، وتدبيرهما وفق هذا النظام الواضح؛ ونشأة الحياة- وحياة الإنسان في قمتها- وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه، كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله، والوحدانية هي القضية التي تستهدفها السورة كلها- القرآن كله- وليست هي قضية (وجود) الله.
فلقد كانت المشكلة دائما في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق، بصفاته الحقة؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله!
…
ودليل الخلق ودليل الحياة كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين لتقرير الوحدانية، ولتقرير الحاكمية، هما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التافهة في إنكار الله. والحقيقة أن هناك شكا كثيرا فيما إذا كان هؤلاء الملحدون يصدقون أنفسهم! فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة؛ ثم استغلّها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية، كيلا يبقى على وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم- كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون- ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على مصدر القوة الحقيقة الذي توفره العقيدة!
.... إن وجود هذا الكون الذي ابتدأ بهذا النظام الخاص، يستلزم- بمنطق الفطرة البديهي وبمنطق العقل الواعي على السواء- أن يكون وراءه خالق مدبّر، فالمسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يملك الإدراك البشري أن يعبرها، إلا بتصور إله ينشئ ويخلق ويوجد هذا الوجود .... كذلك نشأة هذه الحياة. والمسافة بينها وبين المادة- أيا كان مدلول المادة
ولو كان هو الإشعاع- لا يمكن تعليلها إلا بتصور وجود إله خالق مدبّر. يخلق الكون بحالة تسمح بنشأة الحياة فيه؛ وتسمح بكفالة الحياة أيضا بعد وجودها. والحياة الإنسانية بخصائصها الباهرة درجة فوق مجرّد الحياة
…
ولا بد من إرادة مدبّرة تمنح الإنسان الحياة، وتمنحه خصائص الإنسان.
.... إن التعليل الإسلامي لانبثاق الحياة في درجاتها المتفاوتة هو الحل الوحيد لهذه الظاهرة التي لا تعللها المحاولات المادية البائسة!».
*** ولنعد إلى عرض المعنى الحرفي، فبعد المقدمة تأتي مجموعتان في المقطع الأول:
مجموعة تبين بعض مواقف الكافرين، وتناقشهم، وتحذرهم، ومجموعة تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم بمعان:
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ أي: وما يظهر لهم دليل قط من الأدلّة التي يجب فيها النظر والاعتبار وتؤدي إلى الإيمان إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. أي: إلا كانوا تاركين للنظر فيها لا يلتفتون إليها لقلة خوفهم وتدبّرهم في العواقب وأعظم آية القرآن، وأعظم دليل على إعراضهم عن الآيات تكذيبهم له
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ. أي بالقرآن وهو أعظم آية وأكبرها، بدليل أنهم تحدّوا فعجزوا عنه لَمَّا جاءَهُمْ. أي حين جاءهم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. أي فسوف يأتيهم أنباء الشئ الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن، أي أخباره وأحواله يعني: سيعلمون بأي شئ استهزءوا، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته
أَلَمْ يَرَوْا. أي:
هؤلاء المكذّبون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ القرن: هو مدة انقضاء أهل كل عصر مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ الخطاب هنا أول ما يتوجه لأهل مكة لأنّهم أوّل من خوطب بهذا القرآن، والتمكين في البلاد إعطاء المكنة، والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسّعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً. أي: وأرسلنا المطر عليهم كثيرا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ. أي: من تحت أشجارهم والمعنى: عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار وسقوا الغيث المدرار فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ولم يغن عنهم سلطانهم وما كانوا فيه شيئا وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. أي: جيلا آخر بدلا
منهم لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم، فأهلكوا كإهلاكهم، فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم فأنتم أولى بالعذاب