الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على حسب ما فسّره به ابن عباس، ويحتمل أن يكون المراد بالفوق والتحت حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً. أي: أو يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى كل فرقة منكم لها هدى ومصلحة تخالف الأخرى، ومعنى خلطهم هنا أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بأن يقتل بعضكم بعضا، ومن عرف ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. إذ قتل فيهما عشرات الملايين، وجرح فيهما عشرات الملايين عرف معنى هذه الآية انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ. أي: نكرّرها بالوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ. أي:
يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه.
فائدة:
هذه الآية عامّة، والخطاب فيها لكل أهل الأرض ولمّا نزلت أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الأمن من الله لأمّته في الحياة الدنيا ألّا تصيبهم هذه الثلاثة فأعطي أمانا في الأولى والثانية، ومنع الثالثة، ولا يعني الأمان من الأولى والثانية ألا يصيب بعض الأمة شئ من ذلك، بل ورد ما يدّل على الإصابة لبعض بقاع هذه
الأمة، وأمّا الثالثة فما أكثر ما عذّب المسلمون بها ولا يزالون، وقد نقل ابن كثير عند هذه الآية روايات كثيرة حول ما ذكرناه. وأحاديث لها علاقة بالآية وبعضها يشبه الآخر، فلننقل منها، ما لا يؤدي إلى التكرار مع التعليق المناسب:
أ- روى البخاري
…
عن جابر بن عبد الله قال: لمّا نزلت هذه الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» . أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: «أعوذ بوجهك» . أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أهون- أو قال:- أيسر» .
ب- روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده
…
عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فقال: «أما إنّها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» وأخرجه الترمذي ثم قال: هذا حديث غريب.
وقد جاء تأويلها في عصرنا وتأويل بعضها من قبل، ونحن ننتظر المزيد من تأويلها،
ففي عصرنا حدث خسف في المغرب في أغادير من أرض الإسلام، وعذبت قرى في تركيا من فوقها، وفي كل يوم تقريبا نسمع غرقا وزلزالا وحرقا.
ج- روى الإمام أحمد
…
عن سعد بن أبي وقاص قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه- عز وجل طويلا ثم قال:«سألت ربي ثلاثا: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» . انفرد بإخراجه مسلم. ولا يعني هذا أنه لا يصيب الجوع والغرق أجزاء من هذه الأمة، فإنّ هذا حاصل، ولكن الاستئصال للعالم الذي هو أمة الدعوة، أو للمسلمين الذين هم أمة الإجابة لا يكون.
د- روى الإمام أحمد
…
عن خبّاب بن الأرتّ- مولى بني زهرة وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: راقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، قلت: يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صلّيت نحوها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ورواه النسائي وابن حبان والترمذي. وقال حسن صحيح.
والملاحظ أنه وإن سلّط على جزء من أجزاء الأرض الإسلامية عدو فإن التسليط الكلي لا يكون فمثلا في الاجتياح المغولي والتتري للأمة الإسلامية بقيت أجزاء لم تحتل كمصر والمغرب، وفي الاجتياح الاستعماري الحديث بقيت أجزاء كثيرة مستقلة كالحجاز، ونجد، واليمن، وهكذا لم يمر عصر على الإطلاق بحيث يسلّط على هذه الأمة غيرها تسليطا كاملا.
هـ- روى الإمام أحمد
…
عن شدّاد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي- أن لا يهلك أمّتي بسنة بعامة
وأن لا يسلط عليهم عدوا فيهلكهم بعامة، وأن لا يلبسهم شيعا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يردّ، وإني قد أعطيتك لأمّتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا». قال:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتى لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة» . إسناده جيد قوي. وقد وقع الكثير مما تحدث عنه هذا الحديث، وما أكثر معجزاته عليه الصلاة السلام، وإن كل كلمة من كلماته لمعجزة لو عقل الناس وفهموا، فعليه الصلاة والسلام.
و- روى الحافظ ابن مردويه
…
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«دعوت ربي- عز وجل أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع الله عنهم ثنتين، وأبى علي أن يرفع عنهم ثنتين: دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض. فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع اثنتين: القتل والهرج» . وكما قلنا من قبل إن الذي رفع إنما هو الرجم الكلي، أو الغرق الكلي، أما التعذيب الجزئي فإنه واقع، وقد رأينا الحديث السابق قد وردت فيه كلمة «بعامة» مما يدل على أن المراد الإهلاك الكلي وهو الذي رفع.
ز- روى أبو جعفر الرازي في أثر عن أبي بن كعب: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. قال: فهي أربع خلال: منها اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعا، وذاق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان الرّجم والخسف.
وقد وقع شئ من ذلك كما ذكرنا في عصرنا في أغادير إذ خسف بها جميعا وهي بلدة مغربية غلب عليها الفسوق والجهل- وتحدثت الإذاعات عن الأعاصير التي اجتاحت البنغال في مرحلة من المراحل، ونادرا ما يمر عام إلا ونسمع الكثير من مثل ذلك.
ح- روى ابن مردويه
…
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سألت ربي لأمتي أربع خصال فأعطاني ثلاثا، ومنعني واحدة. سألته أن لا تكفر أمتي واحدة فأعطانيها، وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يظهر عليهم
عدوا من غيرهم، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» في هذا الحديث إشارة إلى أن هذه الأمّة لا تكفر دفعة واحدة. وهذا ما حصل، فرغم قوة الردّة عن الإسلام في عصرنا فإن الإسلام على غاية من القوة عند أهله. وبعد:
فإن هذه الآية خطاب للبشرية كلها، والبشرية كلها يصيبها ما هدّدها الله به من هذه الثلاثة بلا استئصال. فكل فترة نسمع بخسف أو زلزال أو غرق، أو حرق في مكان ما من الأرض، والحروب المستعرة، والحروب المحتملة مما تشيب له الرءوس، ولكون الأمة الإسلامية جزءا من البشرية؛ فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليرفع عن أمته ما هددت به الآية فأجيب إلى بعضها ومنع الآخر. وقد رأينا في التعليقات على ما ذكرناه ما فيه الكفاية، ونسأل الله أن يجعلنا دائما مع الحق، ومن أهله، ومع أهله.
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ. أي: وكذّب بالقرآن قومك وهو الصدق الذي ليس وراءه حق ويحتمل أن يكون المراد: وكذّب بالعذاب قومك وهو الحق الذي لا يتخلف- إذا أراد الله- وهل المراد بقومه قريش أو العرب عامّة؟ يحتمل هذا وهذا قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. أي: بحفيظ أو كل إليه أمركم إنّما أنا منذر
لِكُلِّ نَبَإٍ. أي: لكل شئ ينبئ به القرآن من أمر الدنيا والآخرة مُسْتَقَرٌّ. أي:
وقت استقرار وحصول لا بد منه وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا تهديد ووعيد أكيد بوقوع ما أخبر به القرآن
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا. أي القرآن، أي يخوضون في الاستهزاء به والطّعن فيه فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: لا تجالسهم وقم عنهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. أي: غير القرآن مما يحلّ فحينئذ يجوز أن تجالسهم وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ. أي: ما نهيت عنه من عدم الجلوس معهم حال الخوض منهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى. أي: بعد أن تتذكر مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين الجاحدين، وأي ظلم أكبر من ظلم الله بالاستهزاء بآياته وتكذيبها
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ. أي: وما على المتقين مِنْ حِسابِهِمْ. أي: من حساب هؤلاء الذين يخوضون في القرآن تكذيبا واستهزاء مِنْ شَيْءٍ. أي: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شئ مما يحاسبون عليه من ذنوبهم وَلكِنْ ذِكْرى.
أي: ولكن عليهم أن يذكّروهم إذا سمعوهم يخوضون بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. أي: لعل هؤلاء الخائضين يتقون الله فيؤمنون، ويتركون الكفر، ويجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمسائتهم، وفي زماننا هذا حيث كثر الخوض في آيات الله، كم ينبغي أن يكون المسلم على ذكر من هذه الآية
وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي كلّفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لَعِباً وَلَهْواً. أي:
سخروا به واستهزءوا، واللهو: ما يشغل الإنسان من هوى وطرب. فما أشدّ جهل هؤلاء إذ يلعبون بالإسلام، ويلهون به وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فظنّوها الهدف والغاية، وأنّها كل شئ؛ ففتنوا ببهجتها، وزينتها، ونسوا الآخرة، وكفروا بها، أو غفلوا عنها، ومعنى ذرهم أي: اتركهم، وأعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ. أي: وعظ بالقرآن؛ مخافة أن تسلم نفس إلى الهلكة، والعذاب، وترتهن بسوء كسبها، وأصل الإبسال المنع وأي عذاب أفظع من منع دخول الجنة! فكيف إذا رافقه دخول النار! لَيْسَ لَها.
أي: لهذه النفس الهالكة مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ينصرها بالقوة وَلا شَفِيعٌ يدفع عنها بالمسألة، والمعنى وذكّر بالقرآن كيلا تبسل نفس عادمة وليا وشفيعا بكسبها وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها العدل: الفدية لأن الفادي يعدل المفدى بمثله، والمعنى: وإن تفد كل فداء لا يؤخذ منها ولا يقبل أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ الحميم: هو الماء الحارّ، والمعنى: أولئك الهلكى لهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم، والمبسلون:
هم الهالكون المتّخذون دين الله لعبا ولهوا.
قُلْ لهؤلاء الكافرين أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ. أي: أنعبد من دون الله الضار النافع ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا. أي: ما لا يقدر على نفعنا لو دعوناه، ولا على ضرنا إن تركناه وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا. أي: أو نرد راجعين إلى الشرك؟ بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ للإسلام وأنقذنا من كل مظهر من مظاهر الشرك! كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ. أي: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين في الأرض؛ فأضلته وذهبت به كل مذهب حَيْرانَ. أي:
تائها ضالا عن الجادّة لا يدري كيف يصنع لَهُ. أي: لهذا الحيران أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى. أي: يدعونه إلى أن يهدوه الطريق، سمّى الطريق المستقيم الهدى ائْتِنا. أي: يقولون له: ائتنا، وهو ضارب في التيه لا يجيبهم، ولا يأتيهم، وهذا تشبيه للضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم، وهذا وجه من وجوه فهم الآية، والوجه الآخر أن أصحابه هم أولياؤه في الشر يدعونه إلى ما يزعمون أنه هدى، وما هو بهدى؛ لأن الهدى هدى الله، فيستجيب لهم ويترك هدى الله فهو واقع بين تأثيرين، تأثير شياطين الإنس، وشياطين الجن، وعلى كل حال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو الإسلام هُوَ