الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا
…
جاء بعد قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. وهاهنا يأتي قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
ومن ارتباطات المحور المشار إليه في سورة البقرة أنه جاء بعد الكلام عن المتقين الذين من صفاتهم إقامة الصلاة وهاهنا يأتي قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ....
ومن امتدادات المحور في سورة البقرة قضايا تحريم بعض المطعومات علينا وإباحة ذلك في حالة الاضطرار، وهاهنا يأتي تفصيل لذلك ضمن سياق السورة الخاص بها وبما يخدم محورها.
ولعله من الواضح أن سورة المائدة تتّصل مواضيعها بمواضيع سورة النساء، وذلك لأن سورة النساء، وسورة المائدة، وكذلك سورة الأنعام، تفصّل في مقطع واحد هو مقطع الطريقين من سورة البقرة، فكذلك يوجد تلاحم وارتباطات في السور الثلاث، وكما أن المقطع متلاحم مع المقدمة التي فصّلتها سورة آل عمران ففيما بين السور الثلاث وآل عمران تلاحم، وهذا موضوع ستتضح لك آفاقه إن شاء الله تعالى.
المعنى العام للمقطع الأول:
يأمر الله- عز وجل في هذا المقطع المؤمنين بالوفاء بالعهود، ويدخل في ذلك القيام بما ألزم الله- عز وجل به عباده في أمر الحلّ والحرمة وما أخذه الله من الميثاق على من أقرّ بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم العهد فيه، من إقامة الفرائض، والأوامر، وترك النّواهي، ويدخل في ذلك العقود التي أباح الله إجراءها، مما يتعاقد به الناس، وألزم الله بالوفاء بها. ثم يبيّن الله أن مما أحل لنا: الأنعام من بقر وغنم وماعز وإبل، إلّا ما سيتلى علينا من تحريم بعضها في بعض الأحوال، كما سيأتي.
ثم بيّن لنا أن الصيد في حال الإحرام حرام، والمراد به هنا صيد البر، ولله المشيئة المطلقة في الحكم بما يشاء إذ هو وحده الربّ، والتحليل والتحريم قضيّتان مهمّتان في الحياة البشرية، والوقوف عند حدّ الله فيهما أمر في غاية الخطورة، إذ بدونه لا تكون معرفة لله، ولا عبادة ولا تقوى، ثمّ نهى الله- عز وجل أن تستحل حرماته أو يستهان
بشعائره. وشعائره هي أعلام دينه في العبادات، من صلاة وحج، أو هي ما أحلّ وحرّم، وكما نهى عن استحلال حرمة شعائره فقد نهى أن تنتهك حرمة الأشهر الحرم بانتهاك محارم الله فيها وهي- أي المحارم- وإن كانت واجبة التّرك في غير الأشهر الحرم فإنها فيها آكد. وكما نهى عن هذا، وهذا. فقد نهى عن ترك الإهداء إلى البيت الحرام، لما في الإهداء من تعظيم شعائر الله، كما نهى عن ترك تقليد هذا الهدي في أعناقه ليتميّز عمّا عداه من الأنعام، وليعلم أنّه هدي إلى الكعبة، فيجتنبه من يريده بسوء، ويبعث من يراه على الإتيان بمثله فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ولقد جاء الأمر بالإهداء والتقليد من خلال النّهي عن استحلال الاعتداء على الهدي والقلائد. وواضح أنّ استحلال ذلك محرّم، بل هو كفر إذ استحلال الحرام القطعي كفر. كما نهى الله- عز وجل عن استحلال قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمنا، وعن استحلال قتال من قصده طالبا فضل الله، وراغبا في رضوانه، مثل هذا لا يجوز صدّه ولا منعه ولا تهييجه. ثم بيّن الله- عز وجل أنّ المحرم إذا فرغ من إحرامه، وأحلّ منه، فقد أبيح له ما كان محرّما عليه في حال الإحرام من الصيد، ثم نهى الله- عز وجل أن يحملنا بغض قوم كانوا قد صدّونا عن المسجد الحرام على أن نتجاوز حكم الله فيهم، بل علينا أن نحكم بما أمرنا الله به من العدل في حق كل أحد، ثم أمر الله- عز وجل عباده المؤمنين بأن يعاون بعضهم بعضا على فعل الخيرات- وهو البرّ هنا- وترك المنكرات- وهو التقوى هنا- ونهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم. فلا يجوز التعاون على ترك ما أمر الله بفعله، وعلى مجاوزة الله في دينه، فهنا نهي عن الإثم وهو مجاوزة ما فرضه علينا في أنفسنا، ونهي عن العدوان وهو تجاوز ما حدّه الله في شأن الغير.
ثم أخبر تعالى خبرا يتضمّن النّهي عن تعاطي محرّمات محدّدة: وهي ما مات من الحيوانات من غير ذكاة ولا اصطياد، ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال، سواء مات بتذكية أو غيرها، وهكذا الجراد، وكما حرمت الميتة حرّم الدم المسفوح، وكذلك لحم الخنزير إنسيّه ووحشيّه، واللّحم يعمّ جميع أجزائه حتى الشحم. وكذلك حرّم ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله. فإنه حرام لأن الله تعالى أوجب أن تذبح هذه الحيوانات على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره، من صنم، أو طاغوت، أو وثن، أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فهي حرام بالإجماع، ومما
حرّمه الله فى الآية المنخنقة: وهي التي تموت بالخنق، إما قصدا، وإما اتفاقا كأن تتخبّل في وثاقها فتموت به فهي حرام أيضا، وكذلك الموقوذة: وهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدّد (كالعصا) حتى تموت فلا تحلّ، وكذلك المتردّية: وهي التي تسقط من شاهق أو موضع عال، فتموت بذلك، فلا تحلّ. وكذلك النّطيحة: وهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج منها الدّم ولو من مذبحها. وكذلك ما عدا عليها أسد. أو فهد، أو أمثال ذلك أو ذئب، أو كلب، أو نمر فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام، وإن كان قد سال منها الدّم، ولو من مذبحها فلا تحلّ بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة، أو البعير، أو
البقرة، أو نحو ذلك. فحرّم الله ذلك على المؤمنين. إلا ما يمكن ذكاته مما مرّ وذكي فإنه يحلّ، فما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، من المنخنقة، أو الموقوذة، أو المتردية، أو النّطيحة، أو ما أكل السبع، فذبح وفيه روح جاز أكله. وجمهور الفقهاء على أن المذكّاة متى تحرّكت بحركة تدلّ على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال. والنّصب: حجارة حول الكعبة كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللّحم ويضعونه على النّصب، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرّم عليهم أكل هذه الذبائح التي ذبحت عند النّصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح، وذلك لأن الذبح عند النّصب من الشّرك الذي حرّمه الله ورسوله.
وكانت العرب في جاهليتها تستقسم بالأزلام: وهي عبارة عن قداح ثلاثة مكتوب على أحدها: افعل، وعلى الآخر لا تفعل، والثالث فارغ ليس عليه شئ، توضع هذه القداح في كيس فمن أراد أمرا مهمّا مدّ يده إلى الكيس، فأجال القداح ثم أخرج أحدها من غير أن ينظر، فإذا طلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد.
وقد حرّم الله ذلك لما في تعاطيه من الفسق، والغي، والضلالة، والجهالة، والشرك.
وبدلا من ذلك فقد أمر الله المؤمنين إذا تردّدوا في أمورهم أن يستخيروه، بأن يتعبدوا له بصلاة الاستخارة ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه.
وبعد أن بين الله- عز وجل ما حرّم علينا، وبعد أن بيّن ما بيّن من معالم الإسلام فيما مضى، مما أصبح به الصف الإيماني متميّزا مستعصيا على الكفر وأهله، فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار، وألا يخافوا أحدا إلّا الله. فإنهم إن لم
يخافوا أحدا في مخالفتهم الكافرين ينصرهم الله عليهم، ويؤيّدهم ويشف صدورهم. وفي هذا السياق وفي هذا المقام ذكّر الله- عز وجل هذه الأمة بأكبر نعمة عليها حيث أكمل لها دينها، فلا تحتاج إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجنّ، فلا حلال إلا ما أحلّه. ولا حرام إلا ما حرّمه.
ولا دين إلا ما شرعه، وكل شئ أخبر به فهو حقّ وصدق لا كذب فيه ولا خلف.
وكما أكمل الله- عز وجل لهم الدين بما أنزله من وحي، فقد أتمّ عليهم النعمة بهذا الإسلام، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، فإنه قد أتمّه الله فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا، فليرض المسلمون لأنفسهم ولأمتهم وللبشر ما رضيه الله لهم، فإنّه الدّين الذي أحبّه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرّسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
وبعد التذكير بهذه النّعمة يعود السّياق إلى موضوع المحرّمات، فيبيّن أن من احتاج إلى تناول شئ من هذه المحرّمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناوله والله غفور رحيم، لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه، ويغفر له، وبعد أن بيّن تعالى ما حرّم علينا من الخبائث الضارّة للبدن، أو للدين، أو لهما فيما مرّ، فإن السياق يستمر في تبيان بعض ما أحلّ في معرض الجواب على سؤال عما أحلّ للمسلمين. فيذكر الله- عز وجل أنّ ما أحلّه لنا هو الطيبات من الذبائح الحلال الطيبة التي ذكر اسم الله عليها، وكذلك الطيبات من الرزق الحلال، وأحل لنا ما صدناه بالجوارح وهي: الكلاب، والفهود، والصقور، وأشباهها، إذا كانت معلّمة، وأمسكت على صاحبها، وكان مرسلها قد ذكر اسم الله عليها وقت إرسالها، فإن صيدها حلال وإن قتله الجارح بالإجماع. وكما ذكّرنا الله بنعمته علينا بهذا الإسلام، في هذا السياق فإنه كذلك هنا يذكّرنا بنعمته علينا إذ أباح لنا الطيبات. وفي هذا السياق أيضا يقرر ويمنّ علينا بإباحة ذبائح أهل الكتاب لنا، وإباحة ذبائحنا لهم. وذكّرنا كذلك بأنه أحلّ لنا نكاح الحرائر العفيفات من النّساء المؤمنات. وتذكيره لنا بهذا توطئة للتقرير والامتنان علينا بإباحة زواج الكتابيّات لنا إذا أدّينا إليهنّ مهورهنّ، ونكحناهنّ بالطريق المشروع، من عقد وشهود، غير زانين بهنّ، أو متخذين إيّاهنّ عشيقات، ثم ذكر الله قاعدة: أنّ الذي يكفر بالإيمان، فإنه في الآخرة خاسر، حتى لا يتوهّم أنّ الزّواج من الكتابية يدخلها الجنّة مع بقائها على كفرها. وليتذكّر المؤمن رحم الإيمان فيفضّل المؤمنة على غيرها، وختم الآية بكلمة
الخاسرين، دو دلالة على السياق القرآني العام سنذكرها في نهاية الحديث عن المقطع إن شاء الله.
ثم أمر الله- عز وجل المؤمنين بالوضوء للصلاة في حالة الجنابة، وبالتيمم بدلا عن الطهارة بالماء في بعض الأحوال. ووصف الوضوء ووصف التيمم والحالات التي تبيح التيمم. وبين الحكمة في هذا التيسير وهو استخراج الشّكر والتحقّق به.
ثمّ ذكّر الله- عز وجل عباده المؤمنين بنعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق، في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه. ذكّرهم أن يتذكروا الميثاق الذي أعطوه عند ما قالوا سمعنا وأطعنا. ثم أمرهم بالمواظبة على التقوى في كل حال، ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر. ثم أمر الله- عز وجل المؤمنين أن يكونوا قوّامين بالحق لله- عز وجل لا لأجل الناس والسمعة، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا بالجور. ثم نهاهم أن يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل أمرهم أن يكونوا عادلين مع كلّ أحد، صديقا كان أو عدوا، مبينا أنّ فعل العدل أقرب إلى التقوى من تركه، آمرا إيّاهم بالتقوى، معلّما إيّاهم أنّه عليم بالظّواهر والخفيّات، ليعلموا أنه سيجزيهم على ما علم من أفعالهم التي عملوها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ثم وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة لذنوبهم، والجنّة التي هي من مظاهر رحمته، والتي لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم التي شاء الله أن تكون أسبابا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه. فالكل منه، وكما وعد المؤمنين بالمغفرة والجنة، فقد توعّد الكافرين بالنار. ثم ذكّر الله- عز وجل المؤمنين بنعمة من نعمه أحسّها الجيل الأوّل ويكرّرها الله في كل حين، وهي كفّ أيدي من يهمّ أن يوقع بالمؤمنين، ثمّ كرّر الأمر لهم بالتقوى وأمرهم بالتوكل عليه بهذه المناسبة، ليفهمهم أنّ من توكّل على الله كفاه الله ما أهمّه، وحفظه من شرّ النّاس وعصمه. ولو أننا تأمّلنا في معاني المقطع لوجدناها نماذج على أنواع مما أخذه الله علينا من مواثيق، في العبادة، والسلوك، والقضايا القلبية، والقضايا الحياتية، فإذا ما تذكرنا أنّ سورة
المائدة تقابل قوله تعالى في سورة البقرة الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.