الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة في سورة المائدة:
قلنا إن المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة والذي جاء بعد مقدمة سورة البقرة، هو مقطع الطريقين فبعد أن ذكرت مقدمة سورة البقرة أصناف الناس:
متقين، وكافرين، ومنافقين، جاء المقطع الأول ليوضح الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الكفر والنفاق، فجاءت الآيات الخمس الأولى منه لتوضح الطريق إلى التقوى، وهي التي كانت محور سورة النساء. وبعد هذه الآيات الخمس تأتي آيتان هما محور سورة المائدة، ثم آيتان هما محور سورة الأنعام.
فالآيتان اللتان هما محور سورة المائدة، تتكلمان في الفسوق الذي هو الطريق إلى الكفر والنفاق، والآيتان اللتان هما محور سورة الأنعام تناقشان الكافرين بكفرهم، وتقيمان عليهم الحجة من خلال ظاهرتي الحياة والعناية. وإذا قلنا إن سورة النساء تكلمت في الطريق إلى التقوى، وسورة المائدة تكلمت في الطريق إلى الفسوق، فذلك في سياقهما الرئيسي، إن آيتي البقرة اللتين تشكلان محور سورة المائدة هما:
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
فهذا هو الطريق إلى الكفر والنفاق، نقض للعهد، وقطع لما أمر الله به أن يوصل، وإفساد في الأرض، فهؤلاء هم الفاسقون، وهم الخاسرون، وهم الكافرون، وهم المنافقون بقسميهم. وتأتي سورة المائدة لتحرر المرء من هذه الأخلاق، وتفصّل فيها، وتدعو إلى ما يقابلها. فهي تبدأ بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ*.
وفي سياق سورة المائدة يأتي قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وفي سياق السورة أيضا يأتي قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وفي سياق السورة يأتي قوله تعالى وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وفي سياق السورة يأتي قوله تعالى لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا
…
وصلة ذلك كله بقوله تعالى من سورة البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ لا تخفى، ففي السورة نماذج لنقض العهد مع الله، وتذكير بالوفاء بالعهود والعقود. ثم إن في السورة تذكيرا بما أمر الله أن يوصل فتذكر الولاء لله والرسول والمؤمنين وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
…
لا تخفى أيضا. وفي سورة المائدة يأتي قوله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ....
كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ واضحة. فسورة المائدة تفصّل في موضوع نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وفي موضوع الإفساد في الأرض، من خلال العرض، ومن خلال الأمر بما يحرّر من ذلك وهذا أول مظهر من مظاهر ارتباطها بمحورها.
قلنا: إنّ محور سورة المائدة من سورة البقرة هو الآيتان: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
وقد رأينا فيما ذكرناه نماذج وردت في السورة على قضايا الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض. ونلاحظ كذلك أن كلمة الفاسقين ترد في السورة كثيرا، وكذلك كلمة الخاسرين. مما يؤكد ما ذكرناه من أنّ محور سورة المائدة هو تلكما الآيتان من سورة البقرة.
نلاحظ مثلا مجئ كلمة الخاسرين في قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ .. وفي قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ
…
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ .. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ.
وكما وردت كلمة الخاسرين في السورة كثيرا فكذلك كلمة الفاسقين:
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ* قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
إنه لمن الواضح أن هناك صلة بين سورة المائدة وبين قوله تعالى من سورة البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
إن سورة المائدة تفصّل فيما هو نقض للميثاق، وفيما هو قطع لما أمر الله به أن يوصل، وفيما هو إفساد في الأرض، فتدعونا لتركه وتطالبنا بما لو فعلناه لا نكون فاسقين ولا خاسرين، أي لا منافقين ولا كافرين، فهي تكمّل سورة النّساء، فإذا كانت سورة النساء قد فصّلت فيما هو من التقوى، فسورة المائدة تفصّل فيما ليس من التقوى لتعمّق عندنا قضية التقوى وتحققنا بها بتخليصنا من أضدادها.