الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خِزْيٌ فِي الدُّنْيا. أي: ذلّ وفضيحة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ النّار.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. أي: فتسقط عنهم هذه الحدود إلا ما هو حق العباد. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم بالتّوبة ويرحمهم فلا يعذبهم.
فوائد [هامة: حول آية الحرابة وبعض أحكامها]
1 -
قصة ابني آدم هذه موجودة في الإصحاح الرابع من سفر التكوين من أسفار التوراة الحالية وفيه: «وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قابين .. ثم عادت فولدت أخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم، وكان قابين عاملا في الأرض، وحدث بعد أيام أن قابين قدّم من أثمار الأرض قربانا للربّ، وقدّم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الربّ إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قابين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قابين .. وحدث إذ كانا في الحقل أن قابين قام على هابيل أخيه وقتله .. » والملاحظ أن القربان لم يكن سببه الزواج في هذه الرواية وأن القاتل اسمه قابين» بالنّون.
2 -
في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج في التوراة هذا القول «من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا» .
3 -
قال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
…
من استحلّ دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا، ومن حرّم دم مسلم فكأنّما حرّم دماء النّاس جميعا» وقال ابن المبارك
…
عن سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال: أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا».
4 -
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اجعلني على شئ أعيش به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا حمزة نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها؟ قال بل نفس أحييها قال عليك بنفسك» .
5 -
في فهم آية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
…
اتجاهان:
الاتجاه الذي يتوسّع في فهم معنى المحاربة والإفساد، فالمحاربة في الأصل: هي المضادّة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد
في الأرض: يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب إنّ قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، فالذين توسعوا في الفهم أعطوا الإمام حق التعزير في كل جريمة، هي من هذا الباب، وأطلقوا يده في العقوبة لاستئصالها بالقتل وبغيره، مما هو مذكور في الآية. والاتجاه الثاني: الذي ضيّق فهم الآية فحملها على قطع الطريق، وحمل العقوبات فيها على تصرفات، فإن قتل فقط قتل، وإن قتل وأخذ المال، صلب، وإن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخاف الناس فقط سجن، والذين توسعوا في فهم الآية لا ينفون انطباقها على ما ذهب إليه الآخرون، بل يثبتون ما أثبتوه ويتوسعون. وهذه الآية هي أصل حدّ الحرابة الذي يذكر عادة في كتب الفقه في كتاب الحدود فليراجع هناك.
6 -
في سبب نزول آية الحرابة نذكر الروايات التالية:
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك «أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض (أي المدينة)، وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها» فقالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبعث في آثارهم فأدركوا فجئ بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا.
لفظ مسلم. (من عكل أو عرينة)، وفي لفظ، (وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون). وفي لفظ لمسلم، (ولم يحسمهم)، وعند البخاري قال أبو قلابة:
فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
وقال حمّاد بن سلمة عن أنس بن مالك: أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فصحّوا فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجئ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم وألقاهم في الحرّة، قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا، ونزلت إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية. وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه، وقال الترمذي حسن صحيح.
7 -
وهل آية المحاربة عامّة في المشركين والمسلمين؟ أو أنها خاصة في الكافرين،
فمن تاب منهم من قبل أن نقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ، إن قتل أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، ثم تاب لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الذي أصاب. قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات.
8 -
احتج بعموم آية المحاربة على أنّ حكم المحاربة لمن قطع السبيل وأخاف النّاس في الأمصار وفي السبلان على السواء، لقوله تعالى وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يقتل الرجل، فيخدعه حتى يدخله بيتا، ويأخذ ما معه، أن هذه محاربة، ودمه إلى السلطان، لا إلى وليّ المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأمّا في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق؛ لبعده ممّن يغيثه ويعينه.
9 -
قال ابن عباس وغيره: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السّبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وقال الجمهور هذه الآية منزلة على أحوال من إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض.
10 -
قال ابن كثير: واختلفوا هل يصلب حيا ويترك يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا بغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرّر في موضعه. وبالله الثقة وعليه التكلان.
11 -
وفي قوله تعالى: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قال ابن كثير، قال بعضهم:
هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام. رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك. وسعيد بن جبير. والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس: وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية. وقال الشعبي:
ينفيه- كما قال ابن هبيرة- من عمله كله. وقال عطاء الخراساني: ينفى من جند إلى
جند سنين، ولا يخرج من دار الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان: أن ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام وقال آخرون: المراد بالنفي هاهنا السجن. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير أنّ المراد بالنفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
12 -
يلاحظ من الآية أنّ جزاء الحرابة جزاء دنيوي وأخروي، فأمّا في أهل الكفر فظاهر، وأما في أهل الإسلام فهذا محمول على من استحلّ الحرابة فكفر؛ لأنّ النّصوص تفيد أنّ المسلم إذا أصاب حدا فأقيم عليه فالله لا يجمع عليه عقوبتين. ومن النّصوص في هذا ما ورد في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النّساء ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا. ولا يعضه (1) بعضنا بعضا، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفّارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه».
وعن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثنّي عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شئ قد عفا عنه» . رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب، وبعضهم حمل اجتماع العقوبتين في أهل الإسلام إذا كانت حرابتهم أثرا عن عقيدة فاسدة كحال الخوارج.
13 -
من قطع السبيل من أهل الإسلام إذا تاب قبل القدرة عليه، وكان قد قتل وأخذ المال في شأنه اتجاهان: الاتجاه الأول: عدم سقوط حق العباد وهو الذي ذكرناه في التفسير الحرفي وهو اتجاه الحنفية. الاتجاه الثاني: اتجاه الشافعية أنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل. وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان: قال ابن كثير:
وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة ثم نقل ثلاثة قصص تفيد هذا وهذه هي:
أ- أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلّم رجالا من قريش منهم الحسن بن
(1) أي: لا يرميه بالبهتان والكذب.
عليّ، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، فكلّموا عليا فيه فلم يؤمنه، فأتى سعيد بن قيس الهمذاني فخلّفه في داره ثم أتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا فقرأ حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قال: فكتب له أمانا. قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر. وكذا رواه ابن جرير عن الشعبي وزاده: فقال حارثة بن بدر:
ألا بلّغن همدان إمّا لقيتها
…
على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إنّ همدان تتقي ال
…
إله ويقضي بالكتاب خطيبها
ب- روى ابن جرير عن الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضى الله عنه، بعد ما صلّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي. وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا عليّ، فقال أبو موسى: إنّ هذا فلان بن فلان وإنّه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنّه تاب من قبل أن تقدروا عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه. فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنّه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله.
ج- روى ابن جرير عن موسى بن إسحاق المدني أن عليا الأسدي حارب وأخاف وأصاب الدّم والمال، فطلبه الأئمة والعامّة، فامتنع ولم يقدروا عليه، حتى جاء تائبا وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية:. قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فوقف عليه فقال: يا عبد الله. أعد قراءتها فأعادها عليه؛ فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السّحر فاغتسل، ثمّ أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصّبح، ثمّ قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه. فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه. فقال: لا سبيل لكم عليّ. جئت تائبا من قبل أن تقدروا عليّ، فقال أبو هريرة: صدق وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية. فقال: هذا عليّ جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله، قال: وخرج عليّ تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر فلقوا الروم فقرّبوا سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقّها الآخر فمالت بهم فغرقوا جميعا.