الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ قوله تعالى في الآيتين:
وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ولاحظ قوله تعالى هنا في المقطع أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فههنا حديث عن أفعال يستحق بها أصحابها إضلال الله لهم، هذه الأفعال هي أكل السحت، والسماع للكذب وقبوله، والتجسس للكافرين والمنافقين على المؤمنين، والمسارعة إلى الكفر، وفي ذلك نقض للعهد، وإفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل.
وفي هذا السياق يحدثنا المقطع عن أن الحكمة في إنزال التوراة والإنجيل هي أن يحكم بهما، وأن يحتكم لهما، وأنّ من لم يحكم بكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق، فإذا كان هذا هو الشأن في التوراة والإنجيل فما بالك بالقرآن الذي أنزله الله- عز وجل مصدّقا للكتب ومهيمنا عليها. وفي سياق التحذير من الاحتكام لغير القرآن يقول- عز وجل فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ مما يدل على أن ترك حكم الله ردّة، والاحتكام إلى الأهواء فسوق يستحق به أصحابه الإضلال. فهذا الجزء من المقطع إذن يفصّل لنا مظهرا من مظاهر الفسوق الذي يحدثنا عنه محور السورة من البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ إن هذا الجزء من المقطع يفصّل في الفسوق فيرينا نموذجا منه هو رفض الاحتكام إلى كتاب الله، أو الرغبة في تحكيم غيره، أو الحكم بسواه، وذلك يدخل في نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض.
إن المقطع ينتقل من تقرير الأخلاق التي يستحق بها أصحابها زيغ القلب، إلى ذكر تخيير الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل الكتاب في أن يحكم بينهم أولا، فإذا حكم فإنه يأمره أن يحكم بالقسط، ومن مثل هذه الشئون ينتقل السياق للكلام عن حكمة إنزال الكتب، ليقرر كفر من لم يحكم بما أنزل الله، وظلمه، وفسقه، ثمّ يمضي السياق كما سنرى بانيا على ما مر بما ينير لهذه الأمة طريقها المستقيم.
المعنى العام:
ابتدأ المقطع بالكلام عن المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله،
المقدّمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله، الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون. وتكلم المقطع عن اليهود أعداء الإسلام وأعداء أهله، ثم وصف الجميع بأنهم يستجيبون للكذب، وأنهم منفعلون فيه، وأنهم يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم جواسيس يتسمّعون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لينقلوه إلى قوم آخرين، هؤلاء القوم الآخرون من صفاتهم تحريف كلام الله، وتوصية بعضهم لبعض ألا يأخذوا من محمد عليه وآله الصلاة والسلام إلا ما وافق هذا الكلام المجرّف، ومن كان من الناس من هذه الأنواع فقد أراد الله فتنته ولم يرد أن يطهّر قلبه، وجعل له الذّلة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
فالآيات تتحدث عن صنفين: صنف منافق وقد نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحزن على مسارعتهم في الكفر. والصنف الثاني وهم اليهود يأّس الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم. وكيف لا ييأس ومن صفاتهم سماعهم للباطل، وقبولهم إياه، وأكلهم الحرام، ومن كان كذلك فأنّى يستجيب لله أم كيف يطهر قلبه. فإذا كان الأمر كذلك وجاء هؤلاء يتحاكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خيّر الرسول صلى الله عليه وسلم بين الحكم وعدمه، وبيّن له أن لا عليه ألّا يحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليه اتّباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، أما إذا حكم بينهم فقد أمره الله أن يحكم بالحق وبالعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل، لأن الله يحبّ أهل العدل والحق. ثمّ أنكر الله عليهم آراءهم الفاسدة ومقاصدهم الزائفة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا وهو التوراة، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره. مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، وهو أمر محمد عليه الصلاة والسلام وفي النّهاية فهم لا يقبلون حكم محمد صلى الله عليه وسلم ولا حكم التوراة، والحقيقة أنهم ليسوا مؤمنين أصلا. ثمّ تحدّث الله عن كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن وما هو الموقف الصحيح منها؟ وهو لزوم الاحتكام إليها، وقبول هذا الحكم، ووصف رافض حكم الله في كتبه بالكفر والظلم والفسوق، فبدأ بالكلام عن التوراة التي أنزلها الله على عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام وأنّ فيها هدى ونورا، وأنّ النّبيين والربانيّين والأحبار يحكمون بها ولا يخرجون عن حكمها ولا يبدّلونها ولا يحرّفونها؛ قياما منهم بحقّ ما استودعوه من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به، وأن يشهدوا الحق فيه، وألا يخافوا أحدا إلا الله، وألا يشتروا بالحق الدنيا.
ثم بيّن الله- عز وجل حكمه فيمن ترك الحكم بما أنزل الله بأنه كافر. ثم ذكر الله- عز وجل حكما من أحكام التوراة في هذا السياق وهو حكم قد أهملوه فذكر الحكم في هذا السياق فيه معنى التقريع أمّا الحكم فهو ما فرضه الله عليهم في التوراة من وجوب القصاص العادل، النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ، والجروح قصاص، والدية جائزة، والعفو طيب، وهم يخالفون حكم الله ذلك عمدا وعنادا، وفي هذا السياق قرّر تعالى حكمه بأنّ من لم يحكم بما أنزل الله فإنه ظالم، لأنّ حكم الله وحده هو العدل، وما سواه ظلم، فمن خالف حكم الله فقد تعدّى وظلم، ثمّ جاء الكلام عن الإنجيل فبيّن تعالى أنّه أتبع على آثار أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، مؤمنا بالتوراة حاكما بما فيها، وأن الله قد آتاه الإنجيل، وأنّ في الإنجيل هدى إلى الحق، ونورا يستضاء به في إزالة الشبهات، وحل المشكلات، وأنّ الإنجيل موافق لما في التوراة، غير مخالف لما فيها إلا في القليل الذي فيه توسعة على بني إسرائيل، وأنّ الإنجيل فيه هدى يهتدى به، وأنّ فيه موعظة وزاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم لمن اتقى الله وخاف وعيده، هذا الإنجيل أنزله الله ليحكم به من خوطبوا به. ثم بيّن الله- عز وجل أن من لم يحكم بما أنزل فهو الفاسق الخارج عن طاعة ربه، المائل إلى الباطل، التارك للحق. ثمّ بدأ الكلام عن القرآن النّاسخ لما تقدمه، والجامع لكل وحي أنزله الله فبيّن- عز وجل أنه أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم بالحق والصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله رب العالمين. وأنّ هذا القرآن يصدّق الكتب المتقدّمة في كونها من عند الله، وفي الأحكام والأخبار التي فيها، وفيما أخبرت به من البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه الخاتم الناسخ، وأنّ هذا القرآن أمين على وحي الله الذي أنزله الله من قبل، فما وافقه منها فهو هو، وما خالفه باطل، وهو حاكم على كل كتاب قبله؛ فقد جعله الله- عز وجل آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفّل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة.
وإذا كان القرآن كذلك فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس عربهم وعجمهم أميّهم وكتابيّهم- بما أنزل الله إليه فيه، وبما قرّره له من حكم من كان قبله من الأنبياء مما لم ينسخه شرعه، ونهاه أن يتبع آراءهم، أو أن ينصرف عن الحق الذي أمره الله به إلى أهواء الناس الذين هم جهلة وأشقياء إذا لم يهتدوا بكتاب الله. ثم أخبر الله- عز وجل عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة