الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إن اعتبرنا سكن من السكنى فإنه يتناول في هذا المقام الساكن والمسافر، وإن اعتبرناه من السكون فمعناه: أنّ له ما سكن، وما تحرك فيهما، فاكتفى بأحد الضدّين عن الآخر، وذكر السكون لأنّه أكثر من الحركة، وفي الإشارة إلى الحركة والسكون في هذا المقام إقامة حجة على الكافرين إذ وجود الحركة والسكون تقتضي حدوث العالم، وحدوث العالم يدلّ على خالقه، وخالقه هو مالكه، وخالقه لا يغيب عنه شئ ولذلك ختمت الآية بقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع كل موجود وكل مسموع، ويعلم كل معلوم فلا يخفى عليه شئ، وإذ كان الأمر كذلك فليحذر المكلفون يوم القيامة، فإن النّاقد بصير، والحساب عسير إلا من يسّره له الله، وفي مجموع ما ورد في هاتين الآيتين دواء آخر لمن أراد أن يعالج الكفر، وحجة لمن أراد أن يناقش أهله.
فوائد: [نقل عن صاحب الظلال حول آية كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]
عند قوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال صاحب الظلال:
«ورحمة الله تفيض على عباده جميعا؛ وتسعهم جميعا؛ وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم. وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات. فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة: إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته. في نشأتهم من حيث لا يعلمون. وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم؛ بكل ما فيه من خصائص يفضّل بها الإنسان على كثير من العالمين. وتتجلى في تسخير ما قدّر الله أن يسخره للإنسان، من قوى الكون وطاقاته. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل. الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته. وتتجلى
في تعليم الله للإنسان، وبإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة؛ وتقدير التوافق بين استعداداته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته .. هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علمهم إياه! وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك. وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلّما نسي وضل؛ وأخذه بالحلم كلما لجّ في الضلال؛ ولم يسمع صوت النذير؛ ولم يصغ للتحذير. وهو على الله هين. ولكنّ رحمة الله وحدها هي التي تمهله؛ وحلم الله وحده هو الذي يسعه.
وتتجلى في تجاوز الله- سبحانه- عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة
الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها. والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء. ومحو السيئة بالحسنة .. وكله من فضل الله. فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله.
والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها، وإعلان القصور والعيّ عنها، هو أجدر وأولى. وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئا! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن؛ فيتصل به، ويعرفه؛ ويطمئن إليه- سبحانه- ويأمن في كنفه؛ ويستروح في ظله .. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها، فضلا عن وصفها والتعبير عنها.
فلننظر كيف مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الرحمة بما يقربها للقلوب شيئا ما:
أخرج الشيخان بإسنادهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله الخلق- وعند مسلم: لما خلق الله الخلق- كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» .. وعند البخاري في رواية أخرى:
وأخرج الشيخان بإسنادهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأخرج مسلم بإسناده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله مائة رحمة. فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة» . وله في أخرى: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض. فجعل منها في الأرض رحمة واحدة:
فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض. فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة».
وهذا التمثيل النبوي الموحي، يقرّب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى .. ذلك
إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة، والضعف والمرض؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض- ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب- ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه .. فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئا ما!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يني يعلّم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي. فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلّب ثديها، إذ وجدت صبيا في السبي، فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته. فقال صلى الله عليه وسلم «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟». قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه. قال: «فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها» ..
(أخرجه الشيخان). وكيف لا. وهذه المرأة إنما ترحم ولدها، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة؟ ومن تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية بهذا الأسلوب الموحي، كان ينتقل بهم خطوة أخرى، ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته، ليتراحموا فيما بينهم، وليرحموا الأحياء جميعا؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل.
عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الله تعالى. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» .. (أخرجه أبو داود والترمذي).
وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس»
…
(أخرجه الشيخان والترمذي).
وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» .
وعن أبي هريرة كذلك. قال: «قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس. فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم» .. (أخرجه الشيخان). ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقف في تعليمه لأصحابه- رضوان الله عليهم- عند حدّ